بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

هنا ميدان التحرير.. الأسباني

إن الانتشار الواسع للملصقات والجداريات التي حملت شعار " احتلال الشوارع" والتي عمت أرجاء المدن الاسبانية طيلة الأسابيع السابقة والممهدة ليوم الأحد الخامس عشر من مايو، كانت بمثابة النبوءة لما تحمله الأيام اللاحقة، والتي تجسدت في شكل حركة متنامية تتمحور حول مطلب "ديمقراطية حقيقية، الآن"، مما جعلها في مصاف واحد مع الثورة الأسبانية عام 1968 بل وقد أشار إليها البعض على إنها الثورة الأسبانية الجديدة.

طوال الأيام الماضية أمتلئت الشوارع الأسبانية بالمتظاهرين الغاضبين والذين أنقسموا لثلاث مجموعات رئيسية، أولها طلبة الجامعات والذين يواجهون لتخفيضات حادة في ميزانية التعليم، كما تتلاشى فرصهم في الحصول على عمل مناسب لمؤهلاتهم العلمية، أو حتى أي عمل على الأطلاق. ووفقاً لتصريحات أحد الطلاب المعتصمين في ميدان " بويرتا ديل سول": " قد أتوفق في الحصول على عمل في مطعم شعبي ويصل دخلي لحوالي 300 يورو شهرياً ، فقط إذا كنت محظوظاً".

أمتزج مع الطلبة قطاع شبابي آخر والمسمى بــ " الشباب الفقراء" وآولائك الذين يتخبطون بين مطرقة الوظائف ذات الإجور الذهيدة ومطرقة قوائم الإنتظار وفي الواقع إن كلا الأمرين مصير شائع جداً خاصة في بلد مثل إسبانيا حيث يصل نسبة العاطلين عن العمل (أقل من 25 عاماً) فيها إلى 45 في المائة. وأخيرا ، هناك العاطلين عن العمل (الرقم الرسمي هو حوالي 21 في المائة)، وكثير منهم يواجهون التشرد بسبب عدم قدرتهم على مواصلة دفع أقساط الرهن العقاري أو الإيجار.

والحقيقة أن الأكاذيب والتنازلات التي قدمهتا حكومة "الحزب الاشتراكي الإسباني" استعداداً لخوض الإنتخابات الإقليمية والبلدية، تزامناً مع تردد وإحجام النقابات والقوى السياسية المفترض أنها قوى تقدمية، جنباً إلى جنب مع غياب البديل السياسي الحقيقي، ربما يطرح استنتاجاً مفاده أن المشكلة ليست في الأزمة، ولا في الحكومة، ولكن المشكلة تكمن في النظام الرأسمالي نفسه.

وعلى طراز "ميدان التحرير" المصري أمتلئت الميادين الكبرى في المدن في كافة أرجاء إسبانيا ، ووصل عدد المشاركون في الاحتجاجات إلى حوالي ثلاثون ألف متظاهر في الميادين الرئيسية في كل من "مدريد" و"برشلونة". أما هنا في "إشبيلية" ليلاً يتراوح عدد المتظاهرين المعتصمين بشكل متواصل بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف متظاهر. كما تحاط تلك الميادين بلافتات من جميع الجهات تشير إلى أنه تم تغيير أسم الميدان ليصبح "ميدان التحرير".

إن طاقة المتظاهرين الهائلة وشعورهم العارم بالغضب يخلق بينهم شعوراً بالأتحاد والقوة. ولا تبدو على وجوههم أية أمارات للسنوات المخيبة للآمال التي عاشتها الالأغلبية العظمى منهم. ففي الثامنة من مساء كل يوم يتناوب المتظاهرون إلقاء الخطب والهتافات التي ترددها الحشود، مما يحفز المتظاهرين على ارتجال الأشعار والشعارات الثورية وغناءها على اللحن الشعبي التقليدي "الفلامنكو" الإسباني. 

لقد أصبح الميدان المليئ بالمتظاهرين رمزاً للفخر الذي ينبع من قدرتهم على التنظيم وإدارة المكان بشكل ديمقراطي، لقد تحولت أعمدة الإنارة والممرات والسياج المحيطة بها داخل الميدان إلى جداريات سجلت عليها الآراء والشعارات والأعمال الفنية، كما حمل الجميع اللافتات المنزلية الصنع والتي حملت شعارات سياسية عن الثورة والتغيير الاجتماعي.   

وكما كان الحال مع ميدان التحرير أثناء الثورة في مصر ، فالميدان في "إشبيلية" هو مدينة فاضلة حقيقية فيما يخص النظام والنظاف. هناك حاويات من صنع المتظاهرين لتجميع القمامة حيث تقسم إلى الزجاج والبلاستيك والورق، ومنافض السجائر (مصنوعة من الورق المقوى في أشكال لطيفة)، وأماكن التدخين ومناطق لغير المدخنين، وهناك أماكن للحصول على الماء والغذاء، وأخرى للنوم كما توجد منصات للاستعلامات.

يتم تقسيم المهام اليومية بين الجميع من خلال جدول للأعمال مثل التنظيف وإعداد الطعام، والاتصالات، والترجمة، إلخ… وهناك أيضا توصيات سلوكية، مثل تجنب المشروبات الكحولية، وإلتزام الهدوء ليلاً. وهناك أيضاً مكان لكتابة " الآراء والملاحظات" ثم توضع صناديق من الورق المقوى. وأخيرا، الأمر الذي يعكس ويظهر الاتجاة الغير سياسي لتلك الاحتجاجات وسخرية الجموع من الإنتخابات أنهم قاموا بكتابة كلمة "صندوق الاقتراع" على كل صناديق القمامة التي أحاطت بالميدان.

كل ليلة تدار المناقشات حول كيفية دفع الحركة للأمام: مواصلة الاعتصام، أم مغادرة المكان؟ ماهي المطالب التي يجب طرحها الآن؟ وكيفية تعبئة الناس عن طريق الملصقات. والحقيقة إن الحركة واسعة جدا، ومن الصعب التوصل إلى إتفاق بشأن أمر ما. ولكن هناك إتفاق حول معارضة الفساد السياسي، ورفض هيمنة السوق الحرة، و البطالة، وخطط القشف. والجميع يدعم المزيد من الديمقراطية، وإصلاح النظام الإنتخابي. ورغم إن معظم الشعارات واللافتات تحمل مطلب اسقاط النظام، إلا أن البيانات الرسمية تنكر أن المتظاهرون يمثلون الجناح اليساري وتتمادى حتى في القول بأنهم ليست لهم أية علاقة بالشئون السياسية.

وقد أدى هذا الوضع الفاقد للشكل السياسي الواضح لمشاكل على العديد من الجبهات.فالنقابات قد تم استبعادها بشكل واضح، إلى الحد الذي تم معه رفض أي دعم مقدم من تلك النقابات. ورغم الإحساس بالمرارة من موقف النقابات الكبرى والسائرة في ركب الحكومة "الاشتراكية" وهو الامر الغير مفهوم، إلا أن حظر وجودهم بين المتظاهرين يستبعد إمكانية استمالة تلك النقابات والاستفادة من علاقتها بالطبقة العاملة.

وعلاوة على ذلك، مع غياب أي فرصة لمناقشة المقترحات علناً ​ووفقاً لتوجهات سياسية واضحة وصريحة ومع عدم تشكيل قيادة دائمة لتمثيلهم (مكونة من عدد قليل من المتظاهرين)، بغض النظر عن انتمائاتهم السياسية. كما ينظر لأي شكل من أشكال التمثيل باعتباره خطراً على "القاعدة الشعبية" التي هي طبيعة الحركة . بساطة، مع هيمنة أعلى الأصوات على منصة الميدان، تبدو قد صيحات الاستهجان والرفض وكأنها آراء فردية، ولكن نظرا لعدم وجود أي آليات تنظيمية رسمية، لا توجد وسيلة حقيقية للحصول على أفضل الأفكار التي يجب تنفيذها.

بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في قلب العلاقات الاجتماعية القائمة فأن خنق وتجنب أي مناقشات وتساؤلات حول المفاهيم السياسية الراسخة يعد خسارة فادحة. فهذه واحدة من أكثر الحركات السياسية (بالمعنى الحقيقي للكلمة) التي اتيحت لي الفرصة للمشاركة فيها. وكل فرد من المتظاهرين لديع رؤية خاصة حول كيفية تنظيم المجتمع. في كل الحركات الثورية كانت هناك دائماً معارك الأفكار، هناك من يدعو للنغيير الجذري، في حين ينتهج الآخرين أشكال محافظة ومحدودة. والتظاهر بأن تلك الأفكار لا وجود لها وأن الحركة تهدف إلى ما هو أبعد من الأنحيازات السياسية لا ينفي نفوذهم ولا يمنع تأثيرهم على قدرة الحركة على النمو.

هناك العديد من التناقضات والعقبات التي تواجه الحركة إذا كان لها أن تمضي قدماً. ومع ذلك، إن الحدث الذي شارك فيه مئات الآلاف من الناس خلال الاسبوع الماضي سيترك أثراً دائماً على وعيهم. وهو أمر يمكن أن يساعد على تحطيم الشعور بالعجز والعزلة التي فرضتها الرأسمالية على حياتنا اليومية.

الخطب هنا تعكس مدى النضالات في جميع أنحاء أوروبا التي كانت نضالات العالم العربي ملهمة لها. الآن هناك احتجاجات في باريس ولندن وهناك تضامن في برلين مع الاحتجاجات الإسبانية.. حتى في قلب الرأسمالية ، الولايات المتحدة ، ستظهر الشروخ والشقوق، عاجلا أم آجلا. الأمر الذي سيحقق كلمة "لقد بدأت الثورة" والتي حملها الأسبان في لافتاتهم.
 

*نقلاً عن البديل الاشتراكي الأسترالي
* تم نشر المقال المترجم في جريدة الاشتراكي، العدد 60، 27 مايو 2011