حصار مخيم اليرموك: حرب داخل الحرب

أكثر من 180 يوما والقوات النظامية السورية تحاصر مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق بعد قصفه عدة مرات ووقوع 1892 شهيدا، بالإضافة إلى منع وصول الإمدادات الطبية والإغاثية.
قبل شهر، وإثر توحش الأزمة، صدرت فتاوى دينية لشيوخ المخيم تجيز أكل لحوم الكلاب والقطط، ووفقا للأنباء فإن بعض الأهالي أقدموا بالفعل على ذلك، في ظل شٌح شديد للمواد الغذائية أدى لموت ما لا يقل عن 30 مواطن جوعا. فيما يقترب العشرات، وربما المئات، من حافة الموت مع استمرار الحصار.
مأساة مخيم اليرموك تتضاعف عندما نعلم أن المخيم نفسه كان ملجئاً لكثير من أهالي ريف دمشق والأحياء التي تضرر سكانها من القصف، مثل التضامن والحجر الأسود. مأساة المخيم هي جزء من كارثة سوداوية أوسع بكثير حلت بنزوح داخلي لنحو 8 ملايين سوري، و2 مليون آخرين هاجروا خارج البلاد، و133 ألف على الأقل، وفقا للأرقام المعلنة، استشهدوا تحت القصف أو بمجازر ارتكبها شبيحة النظام، وضعف هذا العدد من الجرحى، وما يقارب ربع مليون معتقل منهم من قضى بالسجون تحت التعذيب، و270 ألف سوري أصيبوا بعاهات مستديمة قد تشمل العجز جراء تواجدهم بمناطق مقصوفة.
الأرقام تبدو مهولة مقارنة بإجمالي عدد السكان الذي يقارب 23 مليون، وهو ما يعني أن على الأقل نصف سكان سوريا طالهم ضرر مباشر من قمع النظام وسط تدمير مضاعف للبنى التحتية والمباني، بل وتسوية قرى كاملة بالأرض بعد تعاقب القصف عليها عدة مرات مثلما حدث بقرية أعزاز بحلب.
جرائم النظام الأسدي
لكن حصار مخيم اليرموك يفضح، ومن خلال أحداث ومراحل الثورة السورية، ترسيخ النظام الأسدي ليد أمنية استخباراتية حديدية واجه بها المظاهرات السلمية على إثر ثورات بالمنطقة أطاحت بعروش كبرى. استخدم النظام السوري فكرة “الحصار” كأسلوب مبدئياً لتجويع وتركيع المعارضين وكسر شوكتهم. ومنذ اليوم الأول للثورة طوّقت الدبابات وحاصرت مناطق بدرعا واُعتقل تلاميذ لا تتعدى أعمارهم 11 عاما مورس ضدهم أبشع أنواع التعذيب.
ومع تصاعد المظاهرات الشعبية والحراك بشكل أوسع داخل المحافظات، عمد النظام إلى استخدام أسلوب الحصار في مواجهة المد الثوري بمنع الإمدادات الغذائية وحرق المحاصيل وآبار النفط، كما عمد إلى تقسيم المناطق في محاولة لعزلها بعضها عن بعض، مثلما أعلنت الحكومة عن نيتها لتقسيم حمص إلى ثلاث مناطق، للحول دون التقاء المتظاهرين، ولسهولة السيطرة عليهم. لعل هذا ما يفسر ازدياد أعداد المظاهرات المرصودة مقارنة بأعداد نقاط التظاهر التي من المفترض وصول المتظاهرين والتقائهم عندها.
اعتمد الحصار على فكرة التصفية الجسدية للمعارضين باعتبارهم الوقود الحي للثورة، ووفقا لروايات بعض ممن شاركوا بالثورة السورية، والتقتهم جريدة “الاشتراكي”، فإن أشكال الحصار التي انتهجها نظام الأسد السفاح تجاه المدنيين هدفت إلى تحقيق أكبر خسائر قد لا تشمل فقط تدمير المباني والمنشآت أو القبض على الناشطين، لكن واعتمادا على الشبيحة في زيهم المدني قاد النظام أسلوبا جديدا من الحصار يهدف لتجميع المدنيين عن طريق المخبرين داخل منشآت معينة وبأعداد كبيرة، هذا بالطبع بعد إيهامهم بأمان المكان، ومع اقتحام القوات المقاتلة للمنطقة يقع المدنيون فريسة سهلة لا تستغرق من الجنود سوى عدة دقائق لارتكاب أبشع المجازر إما بنسف المبنى كاملا أو بذبح الشبيحة لهم. لعل ذلك ما يفسر إلى حد بعيد التساؤلات حول المذابح التي قد تتضمن صورا لأطفال ونساء فقط.
النظام أيضا استخدم أسلوب الحصار ككمائن يتم عن طريقها اصطياد المدنيين، في إطار بث حالة الهلع والرعب. مجزرة كرم الزيتون مثلا بمحافظة حمص التي أقدم على ارتكابها جنود النظام العام الماضي، تمت مع اقتحام المدينة ووقوع قتلى من المدنيين حيث قامت القوات بتجميع الجثث داخل إحدى الجوامع، ووفقا لشهود عيان فقد لعب الشبيحة، في زيهم المدني، دورا جديدا في تجميع الأهالي للتوجه إلى الجامع ودفن قتلاهم، وفي الطريق وقعت المجزرة الثانية لأهالي القتلى في كمين نصبه جيش الأسد حول المنطقة.
ولا يخفى أن اقتحام المدن بعد حصارها لا يكون نهاية المطاف في إحكام القبضة الأمنية الحديدية للنظام السفاح، لكن ومع انتشار القناصة فوق أسطح العمارات والمباني استطاع الجيش السوري فرض الحصار حول البيوت بعضها وبعض بنفس الشارع ! لعلنا نتذكر مجازر القناصة بحي بابا عمرو التي نفذها النظام كإجراء عقابي بعدما استبسل الأهالي في الدفاع عن مدينتهم لما يزيد عن 3 أسابيع، وما ترتب على ذلك من تهجير كامل للمدينة.
لكن ومع تصاعد العمل المسلح، بازدياد انشقاق الجنود بالجيش النظامي وانضمام الأهالي إلى حمل السلاح، استخدم النظام أشكالا جديدة من الحصار، ظهرت مع احتضان مناطق الأرياف للمجموعات المسلحة، حيث عمد إلى ارتكاب أكبر قدر من المجازر والتدمير باستخدام الطائرات المقاتلة ضد المناطق المدنية المجاورة لمناطق الأرياف تلك، وذلك لإحكام الحصار عليها ومنع أية إمدادات قد تصل للأرياف عبر المدن.
أشكال الحصار تنوعت لدى النظام السوري بكل ما تمتلكه وحشية القبضة الحديدية، ومع اشتداد الصراع واختلال السيطرة النظامية على المعابر، قاد النظام تحويل المعارك بشكل رئيسي إلى المناطق الاستراتيجية. وفي ظل فقدان الجيش النظامي لأكثر من نصف مساحة سوريا، عمد النظام إلى انتهاج فكرة الحصار مجددا للحفاظ استراتيجيا على آخر معاقله الهامة في دمشق، وكانت نتيجة الحصار المميت للغوطة الشرقية ومخيم اليرموك ومعضمية الشام وداريا هو عزلهم تحت سيطرته دون تسلل المزيد من المسلحين إليهم، وخاصة مع الأهمية الاستراتيجية لمخيم اليرموك كمعبر لدمشق حيث جبل قاسيون ونقاط تمركز الحرس الجمهوري.
منعطف قاسي
ولشدة المعارك وانفتاح الجبهات ازداد الأمر سوءا لدى السوريين مع تواجد تنظيم القاعدة بفصائل مقاتلة، تمركزت بالمناطق الشرقية، عمدت إلى بسط سيطرتها على المناطق التي حررتها المعارضة من القوات الأسدية بحصار المدنيين وتجويعهم، وممارسة كافة أشكال التعذيب والإخفاء القسري للنشطاء. مدينة كوباني الكردية مثلا عانت من حصار خانق فرضته قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، حيث يعاني الأهالي من نقص شديد في المحروقات ووقود السيارات والمواد الغذائية. الأمر الذي قد نصفه بـ”احتلال الدولتين”، النظام والقاعدة، لتطابق قمعهما ضد الثورة الشعبية.
إن استعراض مراحل تطور الأحداث تكشف الجيش السوري الذي حاصر درعا مع أول يوم انطلقت فيه مظاهرات التلاميذ السلمية ووصفهم بـ”الإرهابيين”، ولو كان النظام السوري فعلا يحاصر الإرهابيين لما أطاح بمبادرة كوفي عنان في إيجاد مناطق آمنة للنازحين ولما استمر في قتل المدنيين واستهدافهم بكل قوته المسلحة، ولما انطلقت الطائرات المقاتلة تدك القرى بلا هوادة، ولما استخدم المدنيين مؤخرا بمعضمية الشام المحاصرة كدروع بشرية ضد مقاتلي الجيش الحر، ولما أطلق لصوصه للاحتيال على المساعدات الموجهة للاجئين.
قوات الأسد ترتكب جرائم إنسانية يومية بحق المدنيين، أما توسلات الصليب الأحمر لفتح ممرات آمنة لتهجير المحاصرين في معضمية الشام فلم تجدِ إلا بمرور النساء والأطفال فقط ثم اعتقال الذكور ممن تراوحت أعمارهم بين 14 إلى 60 عاما، والكثير منهم لم يتم التوصل إلى أماكن اقتيادهم. فيما أٌجبر المهجرون على التبسم أمام كاميرات التليفزيون النظامي باعتبار عملية الجيش المغوار هو تحرير لهم. فيما مُنع الصليب الأحمر من الدخول نهائيا لليرموك.
الثورة السورية تمر بأقسى منعطافاتها وتتكالب عليها قوى الثورة المضادة بشكل مفزع، وحصار مخيم اليرموك اليوم يفضح جرائم النظام الأسدي بحق الشعب السوري ويدحض إدعاءات متذيلي السفاح ممن يطلقون على أنفسهم “حياديين”.