حزب الله.. رأس حربة المقاومة
تخوض حركة حزب الله المناضلة في اللحظة الراهنة معركة مصيرية مع الدولة الصهيونية وحليفتها أمريكا. تعرض نور منصور لظروف نشأة وتطور حزب الله مؤكدة أنه لا بديل عن التأييد غير المشروط لحركة المقاومة تلك.
منذ نجاح حزب الله في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، أصبح في أعين الغالبية الساحقة من شعوب المنطقة العربية، الرمز الأهم للمقاومة، حيث استطاع أن يحظى بمصداقية واحترام ربما لم تحظ بهما أي من حركات المقاومة الأخرى. واليوم يقف حزب الله وحده، بجسارة منقطعة النظير، في خندق المقاومة في مواجهة العدوان الصهيوني، وسط تأييد شعبي عربي جارف، تقابله إدانة، وفي أفضل الأحوال صمت، من جانب نظم الحكم العربية. ولعل من الأهمية، في هذا الظرف، إلقاء الضوء على منظمة أو بالأحرى حركة حزب الله، على أساسها الطبقي، وظروف نشأتها والتطورات التي مرت بها وصلاتها الإقليمية، حتى نوضح لماذا يجب أن نقف إلى جانب حركة المقاومة تلك، التي أصبحت في اللحظة الراهنة، القوة الأساسية في مواجهة الإمبريالية والصهيونية وحلفائهما في المنطقة.
شيعة لبنان
يبدو ضرورياً التعرض لأوضاع الشيعة في لبنان، من أجل فهم كيفية نشأة حزب الله، والتأييد الذي يحظى به في البقاع والجنوب اللبناني والضواحي الجنوبية للعاصمة بيروت. وفي البداية، يمكن القول أن الصراع الطائفي في لبنان، اتخذ دوماً بعداً طبقياً، حيث كانت هناك طوائف بعينها هي الأكثر غنىً، وأخرى هي الأكثر فقراً. وإذا نظرنا إلى أوضاع الشيعة، يمكن أن نقول، دون أن نكون مبالغين، أنهم يقعون في قاع الهرم الطبقي اللبناني، رغم أنهم الطائفة الأكثر عدداً في الوقت الراهن. فقد تطور عدد السكان الشيعة، ونسبتهم إلى عدد سكان لبنان بشكل لافت خلال القرن العشرين. ففي الفترة من 1921-1956 ارتفع عددهم من 100 ألف إلى 250 ألف نسمة، أو 19% من إجمالي عدد السكان. لكن التطور الأكبر كان في العقدين التاليين، حيث ارتفع عددهم إلى 750 ألف نسمة في عام 1975 وأصبحوا يمثلون نحو 30% من السكان آنذاك. وفي الوقت الحالي تبلغ نسبتهم إلى السكان نحو 35%.
كانت حقبة السيتينيات بداية مرحلة مهمة بالنسبة للشيعة في لبنان. فمع نشاة منظمة التحرير الفلسطينية، واتخاذها من الأراضي اللبنانية، والجنوب تحديداً، منطلقاً لعملياتها ضد إسرائيل، تحولت تلك المنطقة إلى ساحة حرب حقيقية. وقد أسهم ذلك بدوره في مزيد من إهمال الحكومة اللبنانية لتلك لمنطقة. ومن ثم فقد تضافرت العوامل التي دفعت سكان المنطقة الفقراء، إلى الهجرة الواسعة إلى العاصمة بيروت، وهو ما حدث من جانب سكان البقاع، أيضاً بسبب الفقر الشديد هناك. وقام هؤلاء المهاجرون الشيعة، من الجنوب والبقاع بممارسة المهن الدنيا، وأقاموا ما يشبه حزام الفقر جنوب العاصمة ـ وهي المنطقة المعروفة اليوم بالضاحية الجنوبية لبيروت التي تتعرض لقصف متواصل من القوات الإسرائيلية. وكان طبيعياً أن يرتبط الشيعة باعتبارهم، الطائفة الأكثر حرماناً، بالحركات الراديكالية الموجودة في لبنان في الستينيات والسبعينيات، فانضمت أعداد واسعة منهم إلى الأحزاب اليسارية والقومية العربية المتحالفة بشكل عام مع الثورة الفلسطينية.
في تلك الأثناء ظهرت زعامة دينية أصبح لها تأثير جارف بين الشيعة في لبنان، هو الإمام موسى الصدر، الذي أنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى –بعد أن كان هناك مجلس إسلامي واحد للشيعة والسنة— صادق عليه مجلس النواب في عام 1967. ومن خلال رئاسته للمجلس، قاد الصدر الحملات من أجل تحسين أوضاع الشيعة، فيما يتعلق بالرعاية الصحية والتعليم وغيرهما من الخدمات، وتعديل النظام الطائفي الذي أقر سنة 1943 بشأن تقسيم السلطات بين الطوائف اللبنانية السبعة عشر.
وفي عام 1973، سعى الصدر إلى توحيد الطائفة الشيعية تحت منظمة أسماها “أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) ـ حركة المحرومين”، والتي أصبحت لها ميليشيا خاصة بها بعد ذلك بعامين. وحظيت الميلشيا بدعم واسع من المنظمات الفلسطينية كما أقامت علاقات وثيقة مع المعارضة الإسلامية لنظام شاه إيران بزعامة آيه الله خميني. وإزاء اختفاء الصدر خلال زيارته إلى ليبيا عام 1978، حل محله حسين الحسيني، ثم نبيه برى في زعامة الحركة. وقد تحالف الأخير مع سوريا في صراعها ضد نفوذ منظمة التحرير في لبنان، مما أحدث هوة كبيرة بين حركة أمل والفلسطينيين.
النشأة والتكوين
نشأ حزب الله من رحم الانشقاقات في حركة أمل. فعقب الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو عام 1982، دعا رئيس الجمهورية آنذاك إلياس سركيس، إلى تأليف “هيئة الإنقاذ الوطني” التي ضمت نبيه بري وبشير الجميل ووليد جنبلاط وغيرهم. وكانت نتيجة مشاركة بري في ذلك المؤتمر، أن أعلن عدد من زعماء الحركة، وعلى رأسهم حسين الموسوي –أخو الشيخ عباس الموسوي الذي سيصبح بعد ذلك أميناً عاماً لحزب الله– انشقاقهم وتكوين “حركة أمل الإسلامية” احتجاجاً على تلك المشاركة. وفي تلك الأثناء، قامت مجموعة من الإسلاميين في البقاع بتشكيل ما عُرف بلجنة التسعة، وضمت ممثلين عن مختلف الاتجاهات الإسلامية، ثم استُبدلت بلجنة خماسية سميت “شورى لبنان”، مدت أنشطتها إلى مناطق جديدة. وبدأت تظهر في العام التالي بيانات عليها شعار “حزب الله ـ الثورة الإسلامية في لبنان” (على غرار الثورة الإسلامية في إيران). وفي فبراير عام 1984 بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط الشيخ راغب حرب، على أيدي عملاء للقوات الإسرائيلية، أصدر حزب الله “الرسالة المفتوحة” التي ضمت برنامجه السياسي ورؤيته للواقع المحلي والإقليمي.
اعتبرت رؤية حزب الله كما عكستها الرسالة المفتوحة أن حزب الله هو جزء من الأمة الإسلامية التي تأتي في طليعتها إيران، وأنه يلتزم بأوامر قيادة حكيمة تتمثل في الولي الفقية (آية الله الخميني)، ويرتبط مع المسلمين في كل أنحاء العالم برباط الإسلام، ويرفض النظام اللبناني، وكل معارضة لهذا النظام تتحرك ضمن دائرة الحرص على الدستور. وترفض الرسالة المفتوحة، وجود الدولة الصهيونية وكافة اتفاقيات السلام والهدنة معها معتبرة أنه لا خيار إلا المواجهة معها. ومن ثم فقد جاء في طليعة أهداف حزب الله، كما ورد في الرسالة أن: “تخرج إسرائيل من لبنان كمقدمة لإزالتها من الوجود وتحرير القدس الشريف من براثن الاحتلال”. واعتبرت الرسالة المفتوحة أن أصدقاء حزب الله هم كل المستضعفين في الأرض سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. ورغم تأثر هذا الخطاب، بذلك الصادر عن النظام الإيراني في السنوات الأولى للثورة الإسلامية، إلا إنه عكس أيضاً الوضع الطبقي للشيعة باعتبارهم الطائفة الأكثر فقراً في لبنان.
ومن الناحية التنظيمية تضم قيادة حزب الله والمسماه بالشورى سبعة أعضاء منتخبين، بشكل مباشر من قبل مؤتمر الحزب ويترشح أحد هؤلاء لمنصب الأمين العام. وفي عام 1989، أجريت أول انتخابات مباشرة أتت بالشورى، والتي انتخبت الشيخ صبحي الطفيلي أميناً عاماً، حل محله الشيخ عباس الموسوي في انتخابات عام 1992، وعقب استشهاده في عام 1992 -عندما استُهدفت سيارته في قصف جوي إسرائيلي— خلفه السيد حسن نصر الله. وتجري انتخابات منصب الأمين العام كل ثلاث سنوات.
ومنذ نشأة الحزب، أُجريت عدد من التغيرات على بنائه التنظيمي، حيث أصبح يتألف في الوقت الحالي من خمسة مجالس، هي مجلس الجهاد، ويتولى مسئولية عمليات المقاومة، والمجلس البرلماني، ويقوم بعقد التحالفات الانتخابية، ويشرف على أداء نواب الحزب في البرلمان، والمجلس السياسي يتولى وضع الرؤية السياسية للحزب ويدير العلاقات مع القوى السياسية الأخرى، والمجلس التنفيذي، ويدير أنشطة التثقيف والتعليم والأنشطة الاجتماعية عامةً، والمجلس القضائي، ووظيفته حل الخلافات، وإصدار أحكام حول موقف الشرع من القضايا الخلافية. ولا توجد معلومات مؤكدة حول ميزانية الحزب، حيث تقدرها بعض المصادر بـ 100 مليون دولار سنوياً، وتقدرها مصادر أخرى بضعف ذلك القدر، ويحصل على نصف الميزانية الجهاز الأمني للحزب وهو جهاز بالغ التعقيد والكفاءة، وهو ما جعل من الصعب اختراقه من جانب أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
مصادر الشرعية
اكتسب حزب الله شرعيته بناءً على دعامتين هما المقاومة وشبكة العمل الاجتماعي. في السنوات الأولى كان حزب الله يقوم بعملياته العسكرية تحت مسمى “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” التي نشأت بمبادرة من الزعيمين الشيوعيين جورج حاوي ومحسن إبراهيم عقب الاحتلال الإسرائيلي للبنان وضمت كافة القوى الوطنية والتقدمية في لبنان. ومع وهن وتفكك جبهة المقاومة والذي تزامن مع تطور البنية العسكرية والسياسية للحزب، بدأ حزب الله يشن عملياته تحت مسميات مثل المقاومة الإسلامية، والمقاومة المؤمنة حركة المستضعفين وغيرها، ثم أصبح يعلن عن العمليات بإسم حزب الله. وعرفت عمليات حزب الله تطورات مهمة تراوحت بين زرع العبوات المفخخة وعمل الكمائن والتسلل والهجمات المباشرة وإطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، والعمليات الاستشهادية، التي وقفت أمامها قوات الاحتلال عاجزة، وكانت ملهمة لفصائل المقاومة الوطنية والتقدمية الأخرى. وقد كانت أول عملية على هذا الطريق، تدمير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في عام 1982، قبل الإعلان عن رسميا عن نشأة حزب الله.
وتطور عدد عمليات حزب الله، بأشكالها المختلفة، بشكل ملحوظ، حيث بلغ عدد هذه العمليات في عام 1985 39 عملية، ارتفع إلى 75 عملية في عام 1990. وفي عام 1997، بلغ عدد العمليات 800 عملية ضد قوات الاحتلال و372 عملية ضد العملاء. ووفقاً لاتفاق الطائف، الذي وُقع عام 1989، بهدف إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، احتفظ حزب الله بقواته باعتباره حركة مقاومة للاحتلال، وليس مثل سائر الميليشيات اللبنانية التي تضمن الاتفاق تخليها عن أسلحتها.
لكنه تنبغي الإشارة هنا إلى أن حزب الله بتكوينه الطائفي وارتباطاته الإقليمية لم يكن بمنأى عن صراعات الحرب الأهلية. لذلك فقد قام الحزب بعلميات قتل واختطاف للمسيحيين، وخاض حرباً في عام 1986 ضد الحزب الشيوعي واغتال عدداً من قادته. كما تدهورت علاقة حزب الله بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وتطور الأمر إلى نزاع مسلح في يونيو 1986 انتهت بتدخل السوريين بين المتحاربين. وتكرر الأمر في عام 1988 مع حركة أمل، بزعامة نبيه بري، ولكن هذه المرة على نطاق أوسع، حيث قتل نحو 500 شخص من الجانبين فيما عرف بحرب الضاحية بين أمل وحزب الله، والتي توقفت أيضا بناءً على تدخل سوريا. وفي الأغلب، كانت نتيجة الحروب مع القوى السياسية الدينية والعلمانية الأخرى هي امتداد نفوذ حزب الله خارج مناطق نفوذه التقليدية في الجنوب والبقاع.
ارتكز المصدر الثاني لشرعية حزب الله، على مظلة العمل الاجتماعي الواسعة التي عوضت إلى حد كبير عن غياب الدولة في مناطق الجنوب والبقاع الفقيرة. وكانت من أهم هذه الخدمات مؤسسة “جهاد البناء” التي قامت بإعادة بناء نحو 17 ألف منزلاً ومحلاً تجارياً ومرفقاً دمرها الاحتلال والحرب الأهلية. كما قام الحزب خلال سنوات 1988-1991 بجهد خارق في إزاله أثار الهدم في ضواحي بيروت الجنوبية –التي يقطنها نحو نصف المليون شخص— وهو ما مثل حلاً لمشكلة مهمة عجزت الحكومة اللبنانية عن التعامل معها. ويقوم الحزب بتوزيع مياة الشرب مجاناً على سكان هذه الضاحية. وفي الجنوب أقام الحزب شبكة اجتماعية واسعة من المدارس والمستشفيات وجمعيات رعاية أسر الشهداء ومساعدة الفلاحين بتقديم المبيدات وطلمبات المياة وغيرها من الخدمات.
ولعل القضية الجديرة بالمناقشة في هذا الشأن هي لماذا حظي حزب الله دون المنظمات العلمانية والراديكالية بمثل هذا التأثير الواسع بين الفقراء؟ ورغم أن الإجابة تحتاج إلى إدراك واسع لتطورات الصراع الطبقي والوضع الطائفي في لبنان، ونفوذ وتأثير القوى السياسية الفاعلة هناك، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من العوامل التي تمثل مفاتيح لفهم هذه المسألة. فأولاً أدى خروج المنظمات الفلسطينية الراديكالية العلمانية من لبنان –والتي كما تمت الإشارة سابقاً جذبت أعداداً واسعة من الشيعة في الستينيات والسبعينات— إلى حدوث فراغ كان من الصعب ملؤه من جانب القوى العلمانية اللبنانية، وذلك نتيجة الوهن الذي أصاب هذه المنظمات بفعل صراعات الحرب الأهلية والدور الذي لعبته المنظمات المسلحة في إضعافها. من ناحية أخرى، يصعب فصل ظاهرة نمو حزب الله عن حالة المد الإسلامي والتراجع اليساري في المنطقة، والتي تعود بدورها إلى عوامل عديدة، لا يتسع المجال هنا للخوض فيها. وأخيراً، سمح الدعم المالي الخارجي لحزب الله بالقيام بمهام لم تكن الدولة قادرة أو راغبة في القيام بها. وفي ظل هذا الوضع، بالنسبة لكثير من الشيعة في لبنان، كان حزب الله هو السبيل لمن يريد مقاومة الاحتلال، وكذلك للسكان العاديين المحرومين من الحد الأدني من ضرورات المعيشة.
تأثير القوى الإقليمية
هناك وجهتا نظر متعارضتان عند الحديث عن الصلات الإقليمية لحزب الله. تقول أحداهما أن حزب الله هو ذراع لتنفيذ المصالح الإيرانية والسورية في المنطقة، وأن الحزب يستغل الأراضي اللبنانية لتنفيذ أهداف هاتين القوتين الإقليميتين. أما وجهة النظر المقابلة، فقد عبر عنها السيد حسن نصر الله في حديث أدلى به مؤخراً، حيث قال أن هناك قوى صديقة على استعداد لأن تقدم المساعدة دون مقابل.
ويمكن القول أن كلا من وجهتي النظر السابقتين تتعارض مع الحقائق المتعلقة بنشأة حزب الله والتطورات التي شملته والسياسات التي يتبناها. فإيران كانت طرفاً مؤثراً في الحزب منذ بداية نشأته، بل حتى قبل الرسالة المفتوحة، التي دشنت رسمياً إعلان قيام الحزب. فقد كان الانشقاق عن حركة أمل بإيعاز من طهران، وذلك حينما رفض السفير الإيراني في لبنان مشاركة الحركة في هيئة الإنقاذ الوطني عام 1982. وعبرت الرسالة المفتوحة عن تأثر واضح برؤية الثورة الإيرانية للعالم والعلاقة بين الدين والدولة. وكانت إيران هي مصدر التمويل الأساسي للحزب، وساهمت مجموعات من الحرس الثوري الإيراني في تدريب عناصر الحزب في البداية، كما يعتبر الأمين العام للحزب بمثابة وكيل للولي الفقية في لبنان. ويشير البعض إلى أن إيران تمكنت من خلال إدارة أزمة الرهائن الذين كان يحتجزهم الحزب من عقد صفقات سرية مع الولايات المتحدة ودول أوروبية من أجل مد إيران بالسلاح. كما كانت إيران عنصراً أساسياً في تحول العلاقة بين الحزب وسوريا من علاقة عداء وصلت إلى حد الاقتتال إلى علاقة تعاون وتحالف.
وفي حقيقة الأمر، فقد ظلت علاقة حزب الله بسوريا يشوبها التوتر حتى عام 1987. ففي ذلك العام وقع عدد من الاشتباكات بين الجانبين أدت إلى مقتل ما يزيد عن عشرين مقاتلا من حزب الله. وهنا قررت إيران التدخل لوقف النزاع، وبناء على ذلك أعلن حزب الله التزامه بالانضباط وبالتمسك بما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين وفقاً لرؤية ولاية الفقية. ومن ذلك الحين، انتهى التوتر في العلاقة بين سوريا وحزب الله، واكتسبت هذه العلاقة زخماً بعد بدء ما يسمى بعملية السلام في عام 1991، حيث كانت المقاومة اللبنانية وفقاً لما ذكره عدد من المحليين ورقة مهمة في دعم الموقف التفاوضي السوري، وأصبح حزب الله عاملاً أساسياً في تعزيز النفوذ السوري في لبنان، واكتسب التحالف بين الجانبين أولوية حتى على العلاقة بإيران. وعقب رحيل الاحتلال عن جنوب لبنان، استمرت هذه العلاقة بين سوريا وحزب الله بنفس القوة، وكان الأخير من أهم مؤيدي تعديل الدستور الذي سمح بتمديد فترة رئاسة الرئيس أميل لحود وهو التعديل الذي تم بإيعاز من سوريا في الأساس.
وفي ضوء ذلك، هل يمكن القول أن حزب الله هو مجرد أداة تُستخدم في دعم النفوذ السوري/ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط؟ نعتقد أن الإجابة القاطعة هي النفي. فالإجابة بنعم لا تتضمن فقط ظلماً فادحاً وانتقاصاً مخلاً للمكون النضالي والوطني لحركة حزب الله، ولكنها أيضاً تمثل تماهياً مع وجهة نظر الإمبريالية والصهيونية وحلفائهما من نظم الحكم في المنطقة، والتي تريد تجريد الحزب من طابعه المقاوم، والتغاضي عن حقيقة أن حزب الله نجح فيما فشلت فيه النظم العربية مجتمعة وهو تحرير أرض عربية عبر سلاح المقاومة، وإجبار إسرائيل في سابقة هي الأولى من نوعها على الخروج مهزومة.
إن ما ينبغي التأكيد عليه هنا إذاً هو أن حزب الله يمثل حركة نضالية معادية للإمبريالية ذات قاعدة شعبية، خرجت من رحم المجتمع اللبناني، وتحديداً من الطائفة الأكثر فقراً في هذا المجتمع، لأجل المطالبة بتوزيع المزايا بشكل أكثر عدالة بين طوائف المجتمع البناني، وتحرير الجنوب من الاحتلال. ولما كان الحزب هو في النهاية، شأنه شأن الحركات الإسلامية الأخرى على اختلاف توجهاتها، حركة إصلاحية، بمعنى إنه يطمح إلى إزالة الظلم وتحقيق العدالة دون الإخلال بالنظام الاجتماعي القائم، أي النظام الرأسمالي المرتكز على الملكية الفردية، فإن النتيجة الطبيعية لذلك أن يستمد الحزب دعمه من النظم التي يجدها أقرب له في المنطقة، سواء كان ذلك من الناحية العقائدية، كما هو الحال مع إيران حيث تعتبر أدبيات الحزب أن نظام ولاية الفقيه هو أرقى ما توصلت إليه البشرية من نظم اجتماعية، أو من الناحية العملية، كما هو الحال مع سوريا التي تلاقت مصالحها – الانتهازية التي لا تختلف عن مصلحة كافة النظم الحاكمة العربية في البقاء جاثمة على أنفاس الشعوب— مع خيار المقاومة الذي تبناه حزب الله.
حزب الله اليوم
إن حزب الله اليوم هو بالتأكيد كيان يختلف جذرياً عنه عند ولادته قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن. فعلى المستوى السياسي، لم يعد مطروحا من قبل الحزب –على الأقل في المدى المنظور— هدف إقامة الدولة الإسلامية في لبنان القائمة على نظام الولي الفقيه، أو رفض الدستور واعتبار كل من يعارض في ظل النظام السائد أعداء، كما لم يعد مطروحاً هدف إزالة إسرائيل من الوجود، أو حتى رفض عقد أي اتفاق للهدنة أو لوقف إطلاق النار معها.
ويمكن القول أن مقتضيات الواقع فرضت على الحزب العديد من التغيرات خلال مسيرته. فعلى صعيد المقاومة، توصل الحزب في عام 1993 إلى اتفاقات مع حكومة الدولة الصهيونية تتضمن وقف قصف المستوطنات بالكاتيوشا مقابل وقف استهداف المدنيين اللبنانيين، وسعى إلى تحقيق نوع من التفاهم مع الجيش اللبناني، بل وقام بعمليات مشتركة مع الجيش اللبناني ضد الاحتلال، وأصدر البيانات التي تعتبر قتلى هذا الجيش شهداء. وعقب التحرير أجرى مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر ألمانيا بهدف تبادل الأسرى. وعلى مستوى العلاقات الخارجية، أقام حزب الله صلات مع العديد من دول العالم ومنها دول الاتحاد الأوربي. وبصدد الداخل اللبناني تغيرت استراتيجيات الحزب بشكل مهم. فبعد السنوات الأولى التي كان الخطاب المطروح يتجه كليةً صوب إيران، بدأ حزب الله يتحدث عن “اللبننة”، مع بداية التسعينيات، وقرر المشاركة في الانتخابات التشريعية لأول مرة عام 1992 وحصل على 12 مقعداً وحصلت قائمة حزب الله في انتخابات 1996 و2000 و2005 على 9 و12 و14 مقعداً على التوالي. وخلال هذه الانتخابات دخل حزب الله في تحالفات مع قوى متعددة سنية ومارونية. وعكس أداء حزب الله البرلماني طبيعته التمثيلية باعتباره يعبر عن أكثر المناطق فقراً في لبنان، حيث خاض معارك بالتنسيق مع القوى الأخرى ضد الخطط الموضوعة من قبل البنك الدولي، بشأن الحد من الإنفاق ورفع الأسعار وتغيير قوانين الضمان الاجتماعي في غير صالح الفقراء، وذلك عن طريق تنظيم الإضرابات الطلابية والعمالية والنقابية احتجاجاً على تلك الخطط. وبشكل عام، فقد اكتسب هذا الدور السياسي زخماً بعد تحرير لبنان، وحديث العديد من الأطراف المحلية والدولية عن انتهاء دور حزب الله، والذي تُوج بقرار 1559 الذي عبر عن رغبة القوى الدولية والإقليمية في التخلص من المقاومة. وقد استطاع حزب الله أن يطرح نفسه كحركة سياسية تمتلك رؤية حول التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي.
الموقف الراهن
والآن، في الوقت الذي يخوض فيه حزب الله مقاومة شجاعة وشرسة ضد القوات الإسرائيلية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هو إلى أي جانب يجب أن نقف نحن الاشتراكيون. فهل يجب أن نؤيد ما يسمى بالشرعية وحق الدولة في بسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، بما يعني نزع سلاح حزب الله؟ وهل يعد تأييدنا لحزب الله في هذه المواجهة إعلاء من شأن النزعات الطائفية والمذهبية؟
في حقيقة الأمر، يجري طرح تلك الاسئلة عادةً عند تناول حركات المقاومة المسلحة الأخرى، والتي أصبحت غالبيتها الساحقة ذات طابع إسلامي. وهنا أيضاً لا نجد بديلاً عن التأييد غير المشروط لحزب الله. ذلك أن الوقوف إلى الجانب الآخر، أو الموافقة على نزع سلاح حزب الله هو في النهاية يصب في صالح الخطط الإمبريالية والصهيونية في المنطقة، والتي تصارع من أجل القضاء على الرمز الوحيد المتبقي للمقاومة، والذي استطاع أن يقدم بديلاً حقيقياً لنهج “الواقعية” –التي تعني الاستسلام والقبول بتفوق وهيمنة الطرف الآخر— الذي تنادي به نظم الحكم العربية. ومن ثم فإن التأييد غير المشروط للمقاومة، ورفض أية دعاوى لنزع سلاح حزب الله، هو مسألة لا تقبل المساومة لأن هزيمة المقاومة هي بالتأكيد خطوة للوراء تصب في مصالح إسرائيل وأمريكا في المقام الأول. ولا يعني هذا الموقف بأي حال النظر إلى حزب الله باعتباره حركة فوق النقد، أو إضفاء هالة من التقديس وعبادة الفرد على زعيمه السيد حسن نصر الله –رغم كل الاحترام والمصداقية اللتان يستحق أن يحظى بهما هذا الزعيم— والنظر إليه باعتباره مخلص الأمة، لأن هذا النهج سبق وأن أدى لنتائج كارثية. فمع عدم إغفال أهمية دور الأفراد، فإن التحرر في النهاية يبقى رهناً بإرادة الشعوب.