حزب الله.. صورة عن قرب
من أرض المعركة ومن أرض الواقع الملموس نشأ وتشكل حزب المقاومة الإسلامية المعروف باسم حزب الله. يعتقد البعض أن الدعم والرعاية الإيرانية لحزب الله هي سر قوته لكن هذا ليس كل شيئ. فبعد مسيرة نضالية باسلة استمرت طوال 24 عاما كلفته تضحيات جسام، بات حزب الله كمقاومة وكتنظيم سياسي في صلب المجتمع اللبناني. ولم تكن التطورات في تكتيكات حزب الله وليدة الصدفة. فقد ارتبط الحزب كحركة تحرر وطني منذ نشأته وعبر مراحل تطوره المختلفة بالصراعات المحلية والإقليمية والدولية الدائرة.
البدايات
في عام 1982 اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان بغرض إزالة الوجود المسلح الفلسطيني من لبنان لضمان أمن رعاياه المستوطنين بشمال الأراضي الفلسطينية المحتلة. شهدت تلك الفترة سيطرة العدو الإسرائيلي على أجزاء كبيرة من البلاد ودرجة عالية من التخبط والتشتت بين صفوف الحركة الوطنية نتيجة لتغير موازين القوى الذي تمثل في خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. كان هذا هو الدافع والمبرر المباشر لقيام حزب الله. جاءت أول عملية استشهادية للحزب في نفس العام على يد الشهيد أحمد قصير ضد مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور.
أما بالنسبة لظروف نشأة حزب الله غير المباشرة فهي متعددة. نشأ الحزب ضمن لبنان الكيان السياسي والاجتماعي متعدد المذاهب. فالنظام السياسي المعمول به شفهيا منذ الاستقلال في عام 1943 يوزع حصص السلطة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة المجلس التشريعي) على أساس طائفي محض. بحكم نشأة حزب المقاومة في الريف وما بين الشيعة، وبالتالي بين جمهور مهمش سياسيا ومحروم اقتصاديا، كان من الطبيعي أن تلقى شعاراته الجذرية والقائمة على مواجهة الاحتلال واتخاذ الجمهورية الإسلامية في إيران قبلة بدلا من الدولة اللبنانية العميلة صدى بين جمهوره (كان رئيس الدولة أمين الجميل عميلا للاحتلال الإسرائيلي). ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الأغلبية الساحقة من الطائفة الشيعية عاشت تحت كابوس الفقر والاضطهاد لعقود.
اعتمد حزب الله منذ بداياته، أي بعد أسابيع قليلة من الاجتياح، بشكل أساسي على تراث عدد من الأئمة والعلماء الشيعة البارزين والذين عملوا على جمع شتات الطائفة الشيعية وتنظيم قدراتها والدفاع عن مصالحها. من أبرز هؤلاء على وجه الإطلاق مؤسس حركة أمل الإمام موسى الصدر الذي رفع راية حركة المحرومين بأوائل الستينات وعمل على تعبئة الشارع الشيعي للدفاع عن مصالحهم السياسية والاجتماعية حتى اختفاؤه في 1978 مع غزو قوات العدو الإسرائيلي لجنوب لبنان وتأسيس ميليشيا سعد حداد العميلة بالجنوب.
تأسست نواة حزب الله الأولى من ثلاث تيارات إسلامية شيعية مختلفة كان لها نشاطها وعملها في الجنوب والبقاع. كان أبرز تلك التيارات هي مجموعة العمل الإسلامية المنشقة عن حركة أمل بسبب الرفض القطعي لقيادات الحركة الاستعانة بإيران في الصراع اللبناني – الإسرائيلي. بذلك، انشق الشهيد عباس الموسوي (الأمين العام الثاني لحزب الله) وترأس الوفد الذاهب للقاء الخوميني، اللقاء الذي أسفر عن إرسال الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع بهدف تدريب مقاومي حزب الله وكوادره. أما التياران الآخران فهما مجموعة الإخوان المنشقة عن حزب الدعوة الإسلامية ومجموعة علمانية خرجت على تجمع العلماء المسلمين في البقاع بسبب تحفظ أبرز علماء التجمع على تدخل إيران فيما اعتبروه الشأن اللبناني.
عكست اللجنة القيادية الأولى للحزب طبيعة الوحدة القائمة على الأرض بانتخاب ثلاثة أعضاء من كل مجموعة مؤسسة. برغمذلك لم يتم الإعلان عن الحزب حتى سنة 1985 على لسان الناطق الرسمي باسم الحزب حينها ومسئول الكتلة النيابية الحالي لحزب الله السيد إبراهيم أمين السيد. وأصدر الحزب “الرسالة المفتوحة” بهدف تعريف الشارع الشيعي بمبادئه الاستراتيجية وعقيدته الدينية ورؤيته السياسية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. بذلك تأسس الحزب على مبدأ ولاية الفقيه “الخوميني” آنذاك وعلى مبدأ تأسيس الجمهورية الإسلامية في لبنان. كما تضمن نص الرسالة تحديد أعداء حزب الله: الكتائب المارونية العميلة لإسرائيل في لبنان، والكيان الصهيوني لكونه “عدو غاصب يجب محاربته حتى يعود الحق المغصوب إلى أهله”، ذلك على الصعيد الإقليمي، و” قوى الاستكبار الأكبر” المتمثلة في أمريكا وفرنسا على الصعيد الدولي.
ركز الحزب منذ بداياته على خوض الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في الجنوب وعدم الانخراط في الحرب الأهلية التي نشبت بين حركة أمل والجيش اللبناني في سنة 1984. جاء الاستثناء الوحيد في سنة 1988 بانفجار النزاع ما بين حزب الله وحركة أمل في معارك تكسير عظام ببيروت والبقاع وقرى الجنوب. جاء ذلك على خلفية قرار 425 الصادر عن الأمم المتحدة. ففي الوقت الذي روجت فيه حركة أمل للقرار، أصر حزب الله على رفضه باعتبار أنه يحمل في طياته اعتراف ضمني بشرعية دولة إسرائيل الأمر الذي يجعل الاعتراف بأمنها ملزما. انتهى الاقتتال الشيعي – الشيعي عبر وساطة كلا من إيران وسوريا.
تحولات
غير التوقيع على اتفاقية الطائف في سنة 1989 وانتهاء الحرب الأهلية عمليا في 1991 الكثير من الأوضاع الداخلية في لبنان، الأمر الذي كان له تأثيره في تكتيكات حزب الله وخطابه. نقد حزب الله الشق السياسي من بنود الاتفاقية لأنه “أقل بكثير من طموحات الشعب اللبناني” و “لا يعالج جذريا المشكلة التي أدت الى قيام الحرب الأهلية”. لكن بضغط من إيران وسوريا أقرت الاتفاقية بحق حزب الله في الحفاظ على سلاحه باعتباره حركة مقاومة لبنانية وليس ميليشيا كباقي المليشيات. تزامن البدء بتطبيق الاتفاقية مع انتهاء ولاية الأمين العام الأول لحزب الله صبحي الطفيلي، الأمر الذي فتح الباب أمام قيادات الحزب وكوادره لعمل تغييرات مفصلية في تكتيكات الحزب وأدواته.
بدأ هذا التغيير بانتخاب مجلس شورى وأمين عام جديد للحزب وإقرار مبدأ الانفتاح على القوى السياسية الأخرى مع وجود ضابط وحيد هو العلاقة مع إسرائيل. تجلى هذا التغيير في تحول خطاب الحزب من التأكيد على أولوية قيام دولة إسلامية في لبنان إلى القول بأن قيام الجمهورية الإسلامية أمر تطبيقي في مشروع حزب الله قد يتم وقد لا يتم. في هذا السياق، شارك حزب الله في الانتخابات النيابية (البرلمانية) في سنة 1992 بهدف الدفع بمشروعه الجهادي والمقاوم في جميع المنابر التي تسمح المشاركة بارتيادها مصرا على أن مشاركته مبنية على كون الحصول على مقاعد مرتبط بالتصويت الحر المباشر للشعب اللبناني وليس على التعيين. تحالف الحزب مع حركة أمل الشيعية وعدد من القوى السياسية الأخرى وحصل على 8 مقاعد شيعية و4 مقاعد لحلفائه من غير الشيعة ليتكون ما عرف لاحقا بـ”كتلة الوفاء للمقاومة”. أيضا، بدأ الحزب الانتقال إلى مرحلة “مأسسة العمل”. كان هذا يعني التحول من مرحلة اللجان الإنمائية والإعلامية والاجتماعية التي تهتم بملف معين إلى مرحلة المؤسسات التي ترعى شأن معين بإداراتها وموازناتها وخططها، مثل مؤسسة الشهيد المعنية برعاية أسر الشهداء والأسرى ومؤسسة البناء للمقاومة المعنية بإعادة بناء المنازل والمدارس والمستشفيات المهدمة. بالإضافة إلى مؤسسات الإعلام المرئي وغير المرئي المعنية بالتعبئة المحلية والإقليمية والدولية لمشروع المقاومة، قناة المنار وجريدة العهد ومن ثم الانتقاد الأسبوعية.
في نفس الوقت رفض الحزب منح ثقته للحكومات اللبنانية المتعاقبة لسنوات طويلة بسبب عدم اتفاقه مع سياسات السلطة التنفيذية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي معترفا بعدم قدرته على تغيير سياساتها بمشاركته، ومؤكدا على مواقفه الخاصة بالعدالة الاجتماعية ومنع سياسات الاحتكار. لم يتغير هذا الوضع حتى تشكيل حكومة 2003 ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في سنة 2000 وأحداث 11 سبتمبر 2001 وبدء الإدارة الأمريكية في شن حربها على الإرهاب ووضع إسم حزب الله على لائحة التنظيمات الإرهابية.
لم تمر التغييرات في خطاب الحزب ورؤيته لدوره على الساحة اللبنانية دون مشاكل على المستوى التنظيمي للحزب وعلى مستوى علاقته بالدولة اللبنانية.
جاءت أبرز تلك المشكلات في المؤتمر العام للحزب في عام 1995 بإعلان صبحي الطفيلي رفضه لسياسات الحزب المنفتحة على القوى السياسية “الفاسدة” وتخليه عن مبدأ إقامة الدولة الإسلامية في لبنان. جاء هذا المؤتمر على خلفية انتهاء ولايتين للسيد حسن نصر الله بمنصب الأمانة العامة للحزب. انتهى المؤتمر بانشقاق الطفيلي عن الحزب وتكوينه في وقت لاحق لتنظيم “ثورة الجياع” وبتصويت أغلبية مجلس الشورى المنتخب على تغيير اللائحة الداخلية للحزب بحيث يصبح منصب الأمانة العامة غير محدد المدة.
أما الأزمة الثانية فجاءت بإعلان الحزب رفضه التام والمطلق لمبدأ الأرض مقابل السلام الذي يختصر فلسطين في ثلث مساحتها الحقيقية أي في الأراضي المحتلة سنة 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية). بدأ حزب الله بتوطيد علاقاته مع حركات المقاومة الإسلامية السنية مثل حماس وتنظيم الجهاد الإسلامي. ودعا مناصريه إلى التظاهر في مسيرة ضخمة للتنديد باتفاق أوسلو الأمر الذي أسفر عن حادثة جسر المطار الشهيرة عندما أطلقت قوات الجيش اللبناني الرصاص على المتظاهرين لمنعهم من السير باتجاه بيروت مما أدى إلى مقتل 9 أشخاص وإصابة العشرات. حمل حسن نصر الله حكومة الرئيس رفيق الحريري مسؤولية الحادث لكنه في نفس الوقت حث جنود حزب الله وكوادره على عدم الدخول في اشتباكات بغرض تفويت الفرصة على من يريدون تعطيل قدرة المقاومة على الاستمرار والعمل.
جدير بالذكر أن تلك الفترة شهدت تصاعد رهيب للعمليات العسكرية وتطور مذهل لقدرات الحزب القتالية. ففي الفترة ما بين 1982 – 1992 قام مقاومو الحزب بـ109 عملية حربية بينما شهدت الفترة ما بين (1993- 2000) 491 عملية حربية. وكانت أبرز المعارك التي دخلتها المقاومة وكبدت فيها العدو الإسرائيلي خسائر فادحة معركة “تصفية الحسابات” و “عناقيد الغضب” و”أنصارية”، حتى حقق الحزب الانتصار التاريخي بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في 21 مايو سنة 2000.
بإمكاننا القول أن أبرز خطابات حزب الله جاء على لسان أمينه العام حسن نصر الله بعد ثلاثة أيام من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. في هذا الخطاب أعلن نصر الله إهداء جنود حزب الله ومقاوميه الأحياء منهم والشهداء النصر إلى لبنان ككل بكافة طوائفه. لم تكن هذه نقطة تحول في خطاب حزب المقاومة بقدر ما كانت ترسيخ لنهج احتذاه الحزب وطوره عبر عقد من الزمان. أيضا، منع قيادات الحزب التعدي على عائلات العملاء الهاربين وممتلكاتهم ما بعد التحرير بقرى الجنوب التي تسكنها الطائفة المارونية بالتوجه إلى أسر الشهداء والأسرى وكل من تعذبوا بخطاب مفاده أن النصر لن يتحقق إلا بالمزيد من الصبر والانضباط حتى تحرير الأسرى اللبنانيين ومزارع شبعا.
زاد انخراط الحزب أكثر فأكثر في الساحة السياسية اللبنانية بدخوله الانتخابات البرلمانية في سنة 2000 ليسترد مقعدي بيروت وجبل لبنان الذي كان قد خسرهما في انتخابات سنة 1996 وبتوقيعه على وثيقة الأحزاب الوطنية اللبنانية. ولم يكتف أمين عام الحزب بإعلان دعم الحزب وتأييده المطلق لانتفاضة الأقصى الثانية، بل أكد على أن النصر الذي حققه الحزب بتحرير الجنوب اللبناني كان بمثابة الملهم للشعب الفلسطيني.
كان هذا السياق الحقيقي للهجمة الدولية على حزب الله بغرض نزع سلاحه وإدماجه بالجيش اللبناني طبقا لقرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة ما بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. فحزب الله يصر على استمرار ارتباطه بالصراع العربي ضد العدو الإسرائيلي من خارج النظام اللبناني أو في تجاوز واضح لإمكانيات وعلاقات وارتباطات هذا النظام.