بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

جذور الصراع في غزة

“حماس تستولي على السلطة بقوة السلاح في قطاع غزة، وفتح تتراجع إلى الضفة الغربية…”، لم يكن هذا الخبر مثار اهتمام وكالات الأنباء والصحف والفضائيات فقط، بل صار موضع جدل واسع داخل الشارع السياسي المصر والعربي بكل أطيافه من أقصى اليمين إلى أقصي اليسار.

كان واضحا أن حالة الجدل هذه خلقت استقطابا شديدا بين أقصى المؤيدين لحماس، باعتبار أن ما فعلته من حقها تماما في مواجهة مخططات أبو مازن وفتح لتصفية المقاومة، وبين المعارضين لمسلكها واصفين إياه بالانقلاب على الشرعية. وطبعا كانت كفة المعارضين أرجح في ظل سيل الاتهامات بالعمالة لدول أخرى، وبالممارسات الدموية التصفوية، وحتى إثارة المخاوف من خطورة إنشاء إمارة إسلامية في غزة ربما تكون نموذجا يشجع آخرين في الدول المجاورة على تقليدها!

ويجب الإشارة هنا أن عملية الاستقطاب هذه لم تكن بالضرورة بين معسكري اليمين واليسار، وإنما أيضا داخل معسكر اليسار نفسه، الذي انقسم بين مؤيد ومعارض لنتيجة الصراع في غزة. وربما يكون مفهوما لماذا يحسم معسكر اليمين موقفه ضد حماس، بناء على موقفه الواضح من مشروع المقاومة، وانبطاحه المعلن أمام مخططات نظام مبارك والصهيونية والإمبريالية الأمريكية تحت مسمى “عملية السلام” و”نبذ العنف”.. إلخ. لكن المثير للنقاش حقا هو موقف اليسار الذي أخذت أقسام منه تردد مخاوف الأنظمة الحاكمة من سيطرة حماس على مقاليد الأمور في غزة، إلى الحد الذي وصل إلى إعادة انتاج نظرية المؤامرة بوصف حماس شريكة في مخطط صهيوني أمريكي لضرب المقاومة وتفتيت المنطقة طائفيا ومذهبيا!

إن التعرف على حقيقة الصراع الدائر في غزة بين فتح وحماس منذ شهور، وفهم النتيجة الأخيرة له باستيلاء حماس على السلطة بقوة السلاح، وتقييم موقف الطرفين فيه، ووضعه في نصابه الصحيح من القضية الفلسطينية، كل ذلك يحتاج إلى الرجوع قليلا للوراء لفهم ماذا حدث حتى نصل إلى هذه الوضعية. والنقطة المفصلية في التاريخ القريب التي يجب الانطلاق منها هي الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في سبتمبر 2000 واستمرت أربع سنوات. بمعنى التعرف على تركيبة قوى المقاومة عشية اندلاع الانتفاضة، ولماذا تحولت دفة المقاومة من فتح إلى حماس، ثم حصاد الانتفاضة من جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، ثم تشكيل حماس للحكومة بعد فوز ساحق في الانتخابات، وأخيرا مأزق تحول حماس من حركة مقاومة إلى سلطة، وأى أفق لهذا المأزق؟

الانتفاضة وانهيار فتح
منذ الأيام الأولى للانتفاضة الفلسطينية الثانية بدا واضحا للعيان أن فتح ليست وحدها على الساحة، بل على العكس بدا نفوذها وتأثيرها متضائل أمام قوى المقاومة الإسلامية الجديدة، وخاصة حركة حماس. فميراث الانحطاط الفتحاوي أخذ يتضح يوما بعد يوم خلال العقد السابق للانتفاضة. حيث انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000 على خلفية وصول عملية المفاوضات التي قادتها حركة فتح برئاسة ياسر عرفات إلى طريق مسدود بمنتجع كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية.

لم تكن كامب ديفيد الثانية سوى “القشة التي قصمت ظهر البعير”. فمع مطلع التسعينات انطلقت عملية المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فتح وإسرائيل في إطار توازن جديد للقوى. فمنظمة فتح التي كانت خلال حقبتي الستينات والسبعينات تقود عملية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، غيّرت استراتيجيتها إلى النقيض خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، وقبلت بإلقاء السلاح وبدء مسيرة المفاوضات السلمية بعد الإعتراف بحق إسرائيل كدولة في الوجود.

أتى هذا التغيير على خلفية تغير موازين الصراع العربي – الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973 وتحييد أكبر قوة بين دول المواجهة في الصراع، وهي مصر، بعد توقيع نظام السادات لاتفاقية سلام مع إسرائيل، أصبح النظام المصري بموجبها خارج حلبة الصراع. ثم توالت اتفاقيات ما سُمى بـ”السلام” مع الأنظمة الأخرى، ممن كانت فتح تعتمد عليهم بشكل أساسي في تدعيم حركتها ومقاومتها المسلحة.

ولأن تركيبة فتح كان يسيطر عليها بشكل تاريخي قيادات برجوازية صغيرة من المهنيين والطلاب الذين اعتمدوا في حركتهم على دعم الأنظمة العربية، فإن تغليب هذه الأنظمة لمصالحها ومصالح طبقاتها الرأسمالية الحاكمة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بل وقبل ذلك، دفع قيادات فتح هي الأخرى إلى الارتماء في أحضان الإمبريالية العالمية والرضوخ لشروطها في التعايش مع إسرائيل. ومن ثم وجدت فتح نفسها في النهاية أمام اختيارين لا ثالث لهما: الأول أن تدخل في مواجهة مع هذه الأنظمة، وهي الحركة المفتقدة للقاعدة الجماهيرية بحكم كونها في المنفى ثم لتركيبتها الطبقية؛ والثاني أن تستمر في نهجها في الاعتماد على هذه الأنظمة، وهو ما يعني الرضوخ لشروطها التي تعني محصلتها النهائية إلقاء السلاح والدخول في دائرة المفاوضات السلمية والقبول بما تلقى به إسرائيل، وقد اختارت فتح بالفعل الاختيار الثاني.

ومنذ حقبة الثمانينات أعلنت حركة فتح قبول مبدأ المفاوضات على قرار التقسيم 242 والعودة إلى حدود ما قبل 1967 وإنشاء دولتين تتعايشان في سلام! لكن إسرائيل لم تكن قد اعترفت بعد بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني يمكن التفاوض معه، إلى أن جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، التي هددت أمن إسرائيل في مقتل، وأصبحت إسرائيل مقتنعة، أو مضطرة، تحت وطأة الانتفاضة إلى بدء عملية التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية وهي تعلم تماما حدودها التي هي في الحقيقة حدود الأنظمة العربية الداعمة لها.

هنا بدأت مسيرة “أوسلو” عام 1991 والتي أعطت للفلسطينيين بعض الفتات من حقوقهم، كان أهمها لعرفات وفتح هو العودة إلى قطاع غزة وتكوين السلطة الفلسطينية تحت الحصار الإسرائيلي، بكل ما صاحب ذلك من المعونات بالمليارات التي أُغدقت على منظمة التحرير لبناء السلطة الجديدة، والتي ثبت بعد ذلك أنها استخدمت لبناء ثروات قيادات ورجال أعمال فتح وعلى رأسهم عرفات وأبو مازن ودحلان وغيرهم، الذين دخلوا بعد ذلك في علاقات أقل ما يقال عنها أنها مشبوهة مع إسرائيل لتأمين مصالحهم الناشئة عن الوضع الجديد. وربما في هذا السياق يمكن أن نفهم تأكيد عرفات في كل خطبه على أن السلام أصبح هو الخيار الاستراتيجي.

لكن، بينما كانت هذه العملية تجري على الأرض كان الشعب الفلسطيني يئن تحت أسوأ ظروف للحياة في الأراضي المحتلة، من اغتيالات وإعتقالات بالآلاف وفقر وبطالة وجوع، وبالتالي كان طبيعيا في ظل هذه الأوضاع، ومع انهيار شعبية فتح كحركة مقاومة في الشارع الفلسطيني، أن تتبلور قوى جديدة تتقدم مشهد المقاومة بمشروع بديل راديكالي يحل محل المشروع الفتحاوي الذي تعفن.

حماس تحتل الفراغ
رغم أن الإعلان الفعلي عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس كان عشية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية عام 1987، فإن جذور الحركة تعود إلي الأربعينات من القرن الماضي كامتداد لحركة الإخوان المسلمين التي اتخذت أسماء مختلفة منها “المرابطون على أرض الإسراء” و”حركة الكفاح الإسلامي”.

في أواخر النصف الثاني من عقد الخمسينات خرجت حركة فتح من تحت عباءة الإخوان المسلمين الفلسطينيين في قطاع غزة بسبب تمسك الإخوان بمبدأ “إعداد الجيل قبل الشروع في التحرير”. كان إخوان فلسطين يخشون من المواجهة مع نظام عبد الناصر الذي كان العداء بينه وبين الإخوان في مصر قد وصل إلى نقطة تكسير العظام. هذا العداء انتقل إلى قطاع غزة، الذي كان تحت الإدارة المصرية بعد حرب 1948، وأضفي أجواء من الخوف على الإخوان الذين سرعان ما فقدوا بريقهم الذي تصاعد خلال حرب فلسطين ومشاركتهم في المقاومة.

ومع حرب 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين، انسحب الإخوان من ساحة النشاط العسكري ضد إسرائيل أكثر فأكثر مع بروز التنظيمات الفلسطينية اليسارية والقومية واحتلالها صدارة العمل الوطني. وفيما عدا المساهمة المحدودة التي ساهم بها “الإخوان” الفلسطينيون خلال سنوات 1968 – 1970 في معسكرات فتح في شمال الأردن، فإن العمل الإسلامي الإخواني انحصر في الدعوة والتربية والاهتمام بالعمل الاجتماعي الهادئ.

ظل الوضع هكذا حتى هبت رياح الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي أنقذت الإخوان من مزيد من التهميش السياسي، وبدأ نجمهم في الصعود. حيث تم الإعلان رسميا عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي لعبت دورا كبيرا في تنظيم الإضرابات العامة والمقاومة المسلحة. وبدا من هذا الدور أن الحركة قررت نقل الفكر الإخواني من مرحلة “إعداد الجيل” إلى مرحلة “التحرير”.

وكانت الدفعة التالية التي أكدت تصدّر حماس لمشهد المقاومة الفلسطينية، باعتبارها أكثر الفصائل نفوذا وتأثيرا في الشارع الفلسطيني، هي الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000. حيث قادت حماس حركة المقاومة في الانتفاضة ببسالة، مقدمة عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى، الأمر الذي أدى إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى تحوّل قطاع عزة إلى جحيم حقيقي لجيش الاحتلال الإسرائيلي مما اضطر شارون إلى إعلان الانسحاب من القطاع من جانب واحد عام 2005؛ والثانية وضوح الثقل الحقيقي للحركة في الشارع الفلسطيني والتأكيد على انهيار شعبية فتح وانزوائها، الأمر الذي لم يعد فيه مجالا للشك بعد الفوز الساحق الذي حققته حماس في أول انتخابات بلدية وتشريعية تجري بعد الانسحاب الإسرائيلي.

حماس بين المقاومة والسلطة
مع تشكيل حماس الحكومة بدأ اختبار من نوع جديد. فالسلطة الفلسطينية التي شكّلها عرفات في غزة قبل التحرير تقوم بالأساس على قواعد اللعبة التفاوضية بين فتح وإسرائيل. هذه اللعبة كانت هي أساس نجاح وزارتي أبو مازن وأحمد قريع الفتحاويين في الاستمرار بالرغم من اندلاع الانتفاضة.

لكن هذه اللعبة التفاوضية مرفوضة من قبل حماس التي مازالت متمسكة بالحق في المقاومة المسلحة وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني. هنا وجدت حماس نفسها هذه المرة ليست في مواجهة مع إسرائيل فقط ولكن أيضا مع حلفائها الفتحاويين شركائها في السلطة. هذا ما يفسر لنا حالة الصدام التي بدأت مع بدء المشاروات في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، ثم ضرب الحصار على قطاع غزة من قبل إسرائيل والأنظمة العربية والإمبريالية، في محاولة لإجبار حماس على تغيير مسارها نحو أبو مازن وإسرائيل، أي التخلي عن المقاومة المسلحة والاعتراف بإسرائيل والانخراط في العملية التفاوضية، وإلا فالبديل هو الحصار والتصفية.

هنا يجب الأخذ في الاعتبار عامل على جانب كبير من الأهمية، هو العامل الإقليمي والدولي. فالأطراف المشاركة في حصار حماس ذات مصلحة أصيلة في عدم استمرار هذه التجربة للمقاومة على أرض فلسطين. فالولايات المتحدة الغارقة في المستنقع العراقي تعلم جيدا أن استمرار حماس بهذا الطابع المقاوم يضعف من كلب حراستها إسرائيل، خاصة وأنها تعد العدة لمواجهة محتملة مع إيران ومناوشات مع سوريا، وبالتالي فهي في حاجة لتأمين خطوطها الخلفية.

وفي نفس الوقت فنظام مبارك غارق في أزمة داخلية تحتاج إلى تدعيم أسياده الأمريكان، وهذا التدعيم أحد شروطه المساهمة في الإجهاز على المقاومة في فلسطين، هذا بالطبع بالإضافة إلى الفزع من قيام سلطة مقاومة يقودها تيار إسلامي إخواني في ظل صعود الإخوان المسلمين في مصر. أما فتح فموقفها واضح كما ذكرنا. فأباطرة السلطة من أبو مازن ودحلان وغيرهما بنوا نفوذهم السياسي والاقتصادي من خلال هذا الدور الذي حددته لهم الإمبريالية والصهيونية ومن ثم فهم يدافعون عنه بكل ما يملكون.

لم تقبل حماس بالاستسلام للضغوط التي قادتها إسرائيل بمعاونة مصر والأردن والولايات المتحدة وفتح. فبدأ تضييق الخناق على حكومة حماس، بداية من محاولات تأليب الشارع عليها كما شاهدنا في أزمة أجور المعلمين في القطاع، ثم تهديد أبو مازن بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة وفقا لوثيقة الأسرى، كذلك محاولات إقصاء عناصر حماس عن الأجهزة الأمنية وانفراد فتح بها. ثم تصاعد الصراع حتى انفجر في نهاية المطاف بمواجهة مسلحة شاملة بين ميلشيات فتح وحماس، وحسمت المعركة في النهاية لصالح الأخيرة، التي سيطرت على القطاع، بينما تراجع أبو مازن ورجاله إلى الضفة معلنين إقالة حكومة حماس وتشكيل حكومة طوارئ.

هذا هو التسلسل الطبيعي لتطور الصراع بين فتح وحماس. والسؤال هو: هل كان من المفترض أن تستسلم حماس لمحاولات فتح المدفوعة من الإمبريالية لتصفيتها؟ والإجابة من وجهة نظرنا بالقطع لا. فحرب حماس ضد قيادات فتح لا تقل أهمية عن – بل هي جزء من – نضالها ضد الاحتلال الصهيوني. هنا قد يردد المعارضون لمسلك حماس، سواء من الأنظمة أو اليمين البرجوازي أو حتى اليسار التنويري، هل التمثيل بالجثث وحرق الكنائس وإلقاء الأشخاص من فوق الأبنية وغيرها مما فعلته عناصر حماس أثناء الاستيلاء على السلطة، هو من النضال في شيء؟ وإجابتنا بالقطع لا، ولكن هذه الممارسات في الحقيقة ليست صفة وراثية ملتصقة بحماس أو غيرها من الجماعات الإسلامية المقاومة. أي حركة مقاومة في أى بقعة محتلة في العالم معرضة لحدوث مثل هذه الأخطاء، الجسيمة من وجهة نظرنا، لكن لا يصح بأي حال أن يكون تقييمنا لهذه العملية السياسية بناء على هذه الأخطاء، التقييم الدقيق هو بالنظر لأطراف الصراع وعم يعبرون، في أي معسكر يقف أبو مازن وفتح؟ وفي المقابل أين تقف حماس؟

مأزق حماس الحقيقي

وإذا كان لم يعد هناك شك – كما ذكرنا – في انحدار فتح إلى معسكر الإمبريالية، وأن حماس، على عيوبها، هي القوة المقاومة الحقيقية للمشروع الصهيوني الأمريكي في فلسطين، إلا أن هذا لا يعني أن منهج حماس في المقاومة خالي من التناقض وبعيد عن الانتقادات.

مأزق حماس كحركة مقاومة من وجهة نظرنا لا ينطلق من الانتقادات البرجوازية المتجسدة في أحاديث انقضاضها على الشرعية وحقوق الإنسان في القتال. المأزق أعمق من ذلك، وهو يتعلق بإستراتيجية ورؤية حماس لعملية المقاومة.

تقوم هذه الإستراتيجية على رفض الاعتراف بإسرائيل والإصرار على تحرير كامل التراب الفلسطيني. ترى حماس أن “خير طريقة لإدارة الصراع مع العدو الصهيوني هي حشد كافة طاقات الشعب الفلسطيني لحمل راية الجهاد والكفاح ضد الوجود الصهيوني في فلسطين بكل السبل الممكنة وإبقاء جذوة الصراع مشتعلة لحين استكمال شروط حسم المعركة مع العدو مع نهوض الأمة العربية والإسلامية واستكمال أسباب القوة وحشد طاقاتها وإمكاناتها وتوحيد إرادتها وقرارها السياسي…”. وتضيف أنه “لا يجوز بأي حال من الأحوال التفريط في أي جزء من أراضي فلسطين أو الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني لها وأنه يجب على أهل فلسطين وعلى جميع العرب والمسلمين إعداد العدة لقتال الصهاينة حتى يخرجوا من فلسطين…”

في هذا السياق تأتي رؤية حماس للمقاومة المسلحة حيث تعتبرها “الوسيلة الإستراتيجية لدى الحركة في مواجهة المشروع الصهيوني، وهي – في ظل غياب المشروع العربي والإسلامي الشامل للتحرير – ستبقى الضمانة الوحيدة لاستمرار الصراع وإشغال العدو الصهيوني عن التمدد خارج فلسطين..”. كذلك ترى حماس أن “اندماج إسرائيل في المنطقة العربية والإسلامية من شأنه تعطيل أي مشروع نهضوي للأمة، حيث تهدف إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة ومنظومتها الحضارية إلى استثمار ضعف الأمة أمامها من أجل إنجاز مشروع التسوية الهادف إلى ربط الاقتصاديات العربية وإمكاناتها المختلفة بمنظومة جديدة عمادها إسرائيل…”

هذه الرؤية الحماسية للصراع تؤكد على عدد من النقاط الأساسية أهمها أن التحرير الشامل لفلسطين والقضاء على إسرائيل مرهون بمشروع عربي إسلامي للتحرير، ليس فقط على الصعيد السياسي العسكري، ولكن أيضا على المستوى الاقتصادي الذي يجب أن يكون مستقلا عن المنظومة الأمريكية الغربية. لكن حماس لا تقدم لنا في حقيقة الأمر أي تصور عن هذا المشروع العربي الإسلامي للتحرير ولا عن مفهوم الاستقلال الاقتصادي الذي ينبغي بالضرورة أن يكون نابعا من انحياز اجتماعي محدد. هناك فجوة غموض بين الهدف والوسائل. إذ لا يوجد تصور واضح عن استقلال الاقتصاد العربي والإسلامي في ظل عالم رأسمالي تحكمه الرأسمالية الاحتكارية التي تربطها علاقات وثيقة بالطبقات الرأسمالية العربية والإسلامية الحاكمة.

ومن زاوية أخرى، فرغم تأكيد حماس على أن تحرير فلسطين مرتبط بنهضة الأمة العربية والإسلامية، فإنها لا تقصد هنا ولا تعوّل على شعوب هذه الأمة، ولكنها تقصد الأنظمة الحاكمة. فوثائقها تنص على أن الحركة “تشجع الحكومات العربية والإسلامية على نبذ خلافاتها وتوحيد مواقفها إزاء القضايا القومية.. وأن حماس غير معنية بالشئون الداخلية للدول ولا تتدخل في السياسيات المحلية…” ويبدو ذلك واضحا في حرص حماس على توثيق الصلة بالأنظمة العربية باعتبار أنها يمكن أن تلعب – ببعض الضغط – أدوارا في مصلحة القضية الفلسطينية، في تناقض مدهش مع موقف هذه الأنظمة التي خانت القضية من زمن بعيد ومازالت تقبض الثمن.

هذه بعض ملامح التناقض الأساسية في مشروع حماس المقاوم. فعدم الانتباه إلى كون الحصار المفروض عليها تشارك فيه الأنظمة، جنبا إلى جنب الإمبريالية والصهيونية، يضرب إستراتيجية حماس في مقتل. فهي على حق في أن شعوب المنطقة التي ثارت مرات عديدة تضامنا مع القضية الفلسطينية هي القادرة على تحرير فلسطين. لكنها تخطئ عندما تتصور أن الأنظمة الحاكمة هي ممثلة لهذه الشعوب وبالتالي يجب التعاطي معها.

هذه هي حدود رؤية حماس للمقاومة. وكما هو واضح فإن بها تناقضات جوهرية، لسبب بسيط من وجهة نظرنا، وهو أنها غير مبنية على رؤية اجتماعية تنظر إلى تحرير فلسطين في إطار عملية أكبر وأوسع لتحرير الإنسان العربي من واقع الاستبداد والاستغلال الذي يعيشه ويكبله لصالح الطبقات الحاكمة. لكن رغم أن المقاومة الإسلامية المسلحة بمشروعها هذا عاجزة عن طرح رؤية متماسكة لتحقيق النصر النهائي، إلا أنها تلعب دورا هاما في عرقلة مشاريع الإمبريالية في إحكام قبضتها على المنطقة، وهي إذ تصنع ذلك فإنها تفتح المجال واسعا لبلورة مشاريع اجتماعية أخرى – لن يتبناها إلا اليسار العربي المناضل – قائمة على رؤية شاملة وجذرية لعملية التحرير.