بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أكراد تركيا بين الاستئصال والتهميش

يشهد الشارع الكردي، في تركيا، حالة احتقان واسع، وغضب ضد الحكومة التركية، بعد صدور حكم المحكمة الدستورية العليا، بحظر حزب «المجتمع الديموقراطي»، في 11/12/2009، وهو الحزب الذي يعد النافذة السياسية الوحيدة المتاحة، للأكراد في تركيا، و يُعَد كذلك جزءًاً مما يسمى «منظومة المجتمع الكـُردستاني»، وهي الهيئة السياسية الجامعة، لمجمل التشكيلات السياسية، والعسكرية، والجماهيرية الكردية، في عموم كردستان، والتي يشكل «حزب العمال الكردستاني»، الدعامة الرئيسية لها.

قامت الشرطة التركية، بأعمال عنف واسعة النطاق، في مواجهة المظاهرات الكردية، التي اندلعت في أعقاب هذا الحظر، اعتراضاً عليه، حيث قتلت ثلاث مدنيين أكراد، أثناء قمعها لتلك الاحتجاجات، فضلاً عن اعتقال العشرات من قادة الحزب. ولا يمكن فهم هذا التطور الأخير، إلا في ضوء العنف الذي اعتادت أن تمارسه الدولة التركية، ومنذ عقودٍ طويلة، ضد الشعب الكردي، وتنظيماته السياسية، الساعية لتحقيق حقوقه المشروعة.

الحرب التركية ضد حزب العمال الكردستاني

في هذا السياق لابد من التذكير بالحملة العسكرية، التي شنها الجيش التركي، في الفترة من 21/2 وحتى 29/2/2008، على معاقل قوات «الدفاع الشعبي الكـُردستاني» (الذراع العسكري، لحزب العمال الكـُردستاني)، في جنوبي شرق تركيا، والتي نفذها أكثر من ثلاثين ألف جندي، معززين بالمدرعات، والمدفعية، وطائرات الأباشي، والكوبرا، والإف 16، وبتنسيق كامل مع البعثة العسكرية الإسرائيلية الدائمة، والمتمركزة في مدينة باتمان التركية، منذ منتصف عام 2007، لمعاونة الجيش التركي في ضرب المقاتلين الأكراد، في إطار الاتفاق العسكري الاستراتيجي المبرم، بين تركيا وإسرائيل منذ عام 1996، فمنيت تلك الحملة العسكرية، بهزيمة عنيفة للجيش التركي، ولم تحقق أياً من مستهدفاتها، ما أضعف الوزن النسبي لتأثير الجيش، في الحياة السياسية التركية، جزئياً.

في أعقاب تلك الحرب جنحت «منظومة المجتمع الكـُردستاني» لإعلان وقفاً أحادياً لإطلاق النار، من جانبها، لإتاحة الفرصة، لتنشيط المساعي السلمية، التي تقدمت بها حركة التحرر الكـُردية، لحل الصراع الدائر بين تلك الحركة، والحكومة التركية، منذ 15 أغسطس 1984، وحتى الآن، ثم جددت تلك الحركة، الهدنة عدة مرات متتالية، منادية بالحل السلمي للصراع، عبر مبادرات من النواب البرلمانيين لـ»حزب المجتمع الديموقراطي» (D.T.P.)، بطلب بحث مطالب الأكراد، داخل البرلمان، قوبل بتجاهل تام، من جانب حكومة «حزب العدالة والتنمية».

الحسم العسكري والدعوات السلمية

تخلل تلك الفترة، إجراء انتخابات المجالس البلدية، في تركيا، في 29/3/2009، والتي فاز فيها «حزب المجتمع الديموقراطي»، فوزاً ساحقاً، في كافة الولايات الكـُردية، فحاز على رئاسة 98 بلدية كاملة، رافعاً بذلك رصيده السابق، والذي كان يحوز فيه على رئاسة 56 بلدية، فقط، ما عزز موقفه السياسي، على الساحة السياسية التركية، كممثل سياسي، يحمل مطالب الشعب الكـُردي، وتطلعاته، في مناطق شمالي كـُردستان، ذلك الحزب، الذي يحوز أعضاءه، واحداً وعشرين مقعداً، في البرلمان التركي، المكون من 550 نائباً.

دعت «منظومة المجتمع الكـُردستاني»، الحكومة التركية، لفتح حوار مباشر، مع ممثلي حركة التحرر الكـُردية، لحل المشكلة الكردية في تركيا، دون أن تجد لذلك مجيباً، حيث أعلن الزعيم الكردي «عبد الله أوجلان»، منتصف إبريل/ نيسان 2009، عبر محاميه، ومن داخل السجن، بأنه يعد خارطة طريق، لفتح أفقٍ لحلٍ مقترح للمشكلة الكردية، سيطلقها في 15/8/2009، الأمر الذي دفع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، للمسارعة بإعلانه، ما أسماه «سياسة الانفتاح على الأكراد»، فأعلنت الحكومة أنها بصدد إعداد خطة لحل الصراع في المناطق الكردية، إلا أن الحكومة التركية لم تعلن عن تلك الخطة، ولم تحدد لها أي بنود، أو ملامح، منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن، في حين سلَّمَ محامو أوجلان «خارطة الطريق»، سالفة الذكر، في 15/9/2009، إلى سلطات السجن، لتسليمها إلى الحكومة، التي تجاهلت مضمون تلك الخارطة، ومحتوياتها، وعتمت عليها.

بشكل مناقض لإعلان حكومة «العدالة والتنمية» عن «سياسة الانفتاح على الأكراد»، تقدمت تلك الحكومة إلى مجلس النواب بمذكرة، في 6/10/2009، لمد تفويض، يجيز للجيش التركي، شن الحرب، والعمليات العسكرية، خارج الحدود، لمدة عام إضافي، لإتاحة الفرصة للجيش، لضرب المناطق الكـُردية، بدعوى مطاردة قوات «حزب العمال الكـُردستاني»، فجاءت نتيجة التصويت لصالح منح التفويض بأغلبية المجلس.

مبادرة أوجلان

فبادر عبد الله أوجلان، من داخل سجنه، في 15/10/2009، إلى الدعوة لإرسال، وفدين كرديين، أحدهما من أوروبا، والثاني من مخيم «مخمور» للاجئين الكـُرد، إلى تركيا، من أجل عرض المطالب الكـُردية، والتباحث في حل القضية الكردية، بشكلٍ ديمقراطي عادل، فبادرت «منظومة المجتمع الكـُردستاني»، إلى تنفيذ تلك الدعوة، بتشكيل ثلاثة وفود كـُردية للسلام، فانطلق وفدٌ مكون من ثمانية من مقاتلي ومقاتلات «قوات الدفاع الشعبي الكـُردستاني»، من معقل جبال قنديل، بدون أسلحتهم، وانضموا إلى وفدٍ من ستةٍ وعشرين شخصاً، من المدنيين الكـُرد، من أهالي مخيم «مخمور» للاجئين، تشكل وفدهم من تسعة نساء، وأربعة أطفال، وثلاثة عشر رجلاً، حيث اجتازوا في 19/10/2009، معبر الخابور الحدودي، ودخلوا أراضي شمالي كردستان، حاملين معهم ملفاً يحتوي على مطالب الشعب الكردي، ليسلموا نسخة منه إلى رئيس الجمهورية، ونسخة إلى رئيس مجلس الوزراء، وثالثة إلى البرلمان التركي. وأثناء مسير الوفد المذكور من جنوب شرق تركيا، إلى أنقرة، حيث يلتقي بالوفد الثالث، القادم من أوروبا، والذي منعته الحكومة التركية، لاحقاً، من دخول البلاد.، أحتشد مئات الآلاف من الأكراد، وبحضور قادة حزب المجتمع الديموقراطي، ونوابه البرلمانيين، وجماهيره، في استقبال الوفد المذكور، ترحيباً به، وتعبيراً عن دعمهم لتلك المبادرة السلمية، العملية، من حركة التحرر الكـُردية. الأمر الذي أثار حفيظة السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، حيث اعتبره استعراضاً للقوة الجماهيرية لحزب العمال، فعمدت الحكومة التركية، إلى التحذير من مغبة الاستمرار في ذلك المسلك الاحتفالي، وقامت بالتضييق عليه، ومنعه.

تشديد الخناق

كثفت الحكومة التركية من نشاطها الدبلوماسي في الفترة الأخيرة، في أعقاب الأحداث سالفة الذكر، هذا النشاط الذي بدأ بشكل ملحوظ في أواسط عام 2008، لتليين علاقاتها الخارجية مع دول الجوار، والولايات المتحدة الأمريكية، لفتح مجال للعلاقات الاقتصادية مع تلك الدول، ولحشد تأييدها، لسياسات «العدالة والتنمية»، الهادفة لحصار، وضرب «حزب العمال الكردستاني»، فتعددت زيارات رئيس الوزراء التركي، وعدد كبير من وزرائه، للدول المحيطة، وتوقيع عدد كبير من البروتوكولات، والاتفاقات الاقتصادية، والأمنية معها، ومن أهمها اجتماعات التنسيقات الأمنية، التي تنعقد بشكل شبه دوري، ويحضرها مسؤولون رفيعو المستوى، من وزارات الداخلية الإيرانية، والتركية، والعراقية، وممثلون أمنيين عن الفيدرالية الكـُردية بشمال العراق، وبمباركة أمريكية.

على مدار العامين الماضيين، وحتى الآن، لم تكف الحملات التمشيطية، التي يقوم بها الجيش التركي، على المناطق الكردية، والتي سقط خلالها ما يزيد عن خمسة وتسعين من المقاتلين، والمدنيين الأكراد، على حدٍ سواء، ومنهم عدد من الأطفال دون الخامسة عشر من أعمارهم، فضلاً عن استخدام الشرطة للعنف المفرط، في مواجهة التظاهرات السلمية، للجماهير الكردية، الداعمة لمبادرات الحل السلمي، والمطالِبة بالإفراج عن عبد الله أوجلان، أو تحسين شروط اعتقاله، حيث قامت الحكومة التركية، وفي إطار برنامجها المزعوم، وغير المعلن عن بنوده، لحل القضية الكـُردية، وعقابٍاً منها لأوجلان على مبادراته، ونداءاته المتكررة للحل السلمي، بالتضييق، وتشديد العزلة عليه، بنقله من زنزانته، ذات الثمانية عشر متراً مسطحاً، إلى زنزانة جديدة سيئة التهوية، مساحتها ستة أمتار، فقط.

إن الإجراء الأخير بنزع شرعية، وحظر «حزب المجتمع الديموقراطي»، النافذة السياسية الوحيدة المتاحة للأكراد، إنما يـُقـَوِّض، تماماً، الثقة في العملية الديموقراطية، التي تدَّعيها حكومة «العدالة والتنمية»، كما يزعزع الثقة بمصداقية الادعاء بالانفتاح على الملف الكردي. ويعني، عملياً، حرمان الشعب الكردي، من ممارسة حريته السياسية، ودفعه إلى مزيد من الإقصاء، والتهميش. ويمثل تصعيداً مؤكداً، من جانب «العدالة والتنمية»، والدولة التركية، والقوى العلمانية، لن يفضي، بكل تأكيد، إلى حل سلمي لقضية الصراع التركي – الكردي، بل إلى تعقيد الوضع، ودفع الأمور إلى مزيد من التوتر، والصدام.