في اسبانيا:
لا بديل عن مواجهة الرأسمالية

أمتلئ ميدان "بوريتا دي سول" بالعاصمة الإسبانية مدريد بالمتظاهرين المعتصمين احتجاجاً على أرتفاع نسب البطالة ورفضاً لخطط التقشف، وتكرر هذا المشهد في أكثر من 50 مدينة في جميع أنحاء اسبانيا، ولا تزال موجة الاحتجاجات العالمية ضد سياسات الليبرالية الجديدة تتواصل. ويعرض هذا التقرير حركة الشارع الإسبانية كما يقدم بعض المعلومات حول العوامل التي أدت لإندلاع الانتفاضة الإسبانية. الأزمة الاقتصادية الإسبانية شقت الأزمة المالية في الولايات المتحدة طريقها إلى النظام المصرفي في منطقة شمال الاطلنطي في العام 2008 ومنذ هذا الحين وأسبانيا تعاني من ركوداً حاداً. حيث إنخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 3.7 في المائة في العام 2009 و بنسبة 0.1 في المائة في العام 2010، وتزايدت نسبة البطالة لأكثر من الضعف خلال ثلاث سنوات وأصبحت حوالي 20 في المائة، كما وصلت أسعار العقارات إلى أدنى مستوايتها خلال نفس الفترة. وبالرغم من أن المؤسسات المالية الأسبانية لم تتأثر بشكل كارثي كما كان الحال بالنسبة للبنوك البريطانية و الأمريكية، إلا أن ميزانيات تلك المؤسسات عانت تحت وطأة التباطؤ الاقتصادي وانهيار سوق العقارات.وتشباهت إستجابة الرأسمالية الأسبانية للأزمة مع ما حدث في الكثير من البلدان في جميع أنحاء العالم: حيث شهد القطاع الاقتصادي إنهياراً ( أكثر 9 مليار جنية استرليني)، مما دعا القطاع المصرفي للإلحاح في طلب الدعم المالي من الحكومة، وكان أن تلقت المؤسسات دعماً وصلت قيمته إلى 32.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، كما اتخذت تدابير لوقف الإنهيار الاقتصادي بما تصل قيمته إلى 50 مليار جنية استرليني، نتج عن ذلك تضخم هائل في الدين الحكومي ليصل لحوالي (11.2 في المائة من إجمالي الدخل القومي). وكنتيجة لهذا الوضع جاءت خطة التقشف لتضع عبء سداد هذا الدين على كاهل الطبقة العاملة.وأشتملت خطة التقشف تلك على العديد من الإجراءات مثل فرض ضريبة القيمة المضافة و ومضاعفة الضريبة على الدخل الشخصي. خفض أجور موظفي القطاع العام بنسبة 5 في المائة، إلى جانب تخفيضات كبيرة في الاستثمار العام. وبدءاً من 2011 تم تجميد معظم الأجور والمعاشات التقاعدية العامة، كما تم تقليص التوظيف في القطاع الحكومي بمعدل وظيفة واحدة من أصل عشرة وظائف. وتنعكس تلك الإجراءات والتدابير في ميزانية الحكومة لعام 2011 حيث يتوقع خفض الإنفاق بنسبة 7.9 في المائة.
تأثير الأزمة على المجتمع الإسباني
البطالة واليأس والغضب هذا هو حال الأسبان في ظل نظام سياسي غير قادر على رد المظالم أو تحقيق تطلعات الغالبية العظمى من السكان، نظام غارق في الفساد السياسي والمحسوبية، نظام لا يشغله سوى تقديم المساعدات للأغنياء، ومهاجمة الفقراء بل هوادة، هذا هو حال النظام بعد أزمة الرأسمالية الإسبانية.
والحقيقة أن مظالم وشكاوى مشابهة لتلك هي التي عجلت بالموجة الثورية الضاربة في شمال أفريقيا والشرق الاوسط، وهي التي دفعت الطلاب إلى التمرد الشامل في كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وكانت الحافز وراء خروج مئات الآلاف من العمال للاحتجاج في شوارع اليونان وإنجلترا وفرنسا والبرتغال والولايات المتحدة الأمريكية، وها نحن الىن نراهم يمائون ميادين مدريد وباقي المدن الإسبانية.يصل معدل البطالة في أسبانيا حالياً إلى 20.7 في المائة، وهي أعلى نسبة منذ عقود وفقاً لتقارير "منظمة التعاون والتنمية"، وتصل نسبة البطالة بين من هم أقل من 25 عاماً إلى حوالي 44.6 في المائة. ورغم هذا فإن الحصول على وظيفة ليس كافياً، ووفقاً لدراسة نشرت في مجلة "السياسة الخارجية": حقيقة الأمر أن الأسبان الذين تقل أعمارهم عن أربعين عاماً وتمكنوا من الحصول على عقد عمل، عادةً لا تتجاوز دخولهم الألف يورو شهرياً. فنظام العمل ذو المستويين والمعمول به في أسبانيا لا يوفر للشباب سوى وظائف غير مستقرة، بعقود مؤقتة وأجور زهيدة، في حين أن العقود المربحة والوظائف المرموقة الدائمة تقع في أيدي كبار السن ذوي الياقات البيضاء.ويعاني أكثر من 20 في المائة من المجتمع الأسباني من الفقر، ووفقاً لمنظمة "كاريتاس الخيرية الكاثوليكية" فإن أكثر الفئات تضرراً هم الأمهات العازبات والعاطلين عن العمل من حملة المؤهلات المتوسطةو تخطوا سن الأربعين، وأيضاً النساء المهاجرات اللاتي يبحثن عن العمل لأول مرة. وينعدم الأمل في حدوث تحولات اقتصادية من شأنها الحد من الفقر والبطالة بشكل كبير على المدى القصير. ولكن نأمل أن تكون الاحتجاجات الحالية الرافضة لتلك السياسات هي الممهدة لمستقبل أفضل في العقد القادم. إن المتظاهرون المعتصمون في ميدان "بويرتا دي سول" وكافة المدن الإسبانية الأخرى يطلقون على أنفسهم أسم "الغاضبون"، هم حقاً غاضبون بسبب هذا التردي في الأوضاع الاقتصادية وإنعدام الأمل في مستقبل أفضل، كما أنهم يشعرون بالاستياء تجاه المؤسسة السياسية بشكل عام. إفلاس قيادة الاتحادات العمالية عكف الحزب الاشتراكي، بقيادة "رودريغيز خوسيه لويس ثاباتيرو"، وعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة وباخلاص شديد على السماح للطبقة الحاكمة الإسبانية بسحق العمال والفقراء بحجة التقشف، بينما وفي نفس الوقت قدم يد العون للأغنياء من أصحاب المؤسسات والثروات. وهنا سؤال لماذا تطلب الأمر وقتاً طويلاً حتى تتدفق كتلة الغضب تلك؟ وربما يكون من أهم الأسباب هو فساد المنظمات العمالية وهذا الأمر لا يقتصر على أسبانيا وحدها، بل ظهر هذا الفساد في كل قيادات الاتحادات العمالية الغربية الذين أقروا بخطط التقشف.
من ناحية أخرى فإن إذعان واستسلام الاتحادات العمالية لتلك الطبقة الحاكمة له مرجعية اجتماعية تظهر في الدور الذي يقوم به المسؤولين كوسطاء بين أرباب العمل والعمال. ولكن هناك أيضاً اامسئولون الذين يميلوا للمحافظة والذين باركوا هذا الإذعان نتيجة لاختيارهم الحياة البرجوازية، وقبول مبادئها، والعمل في مؤسساتها. ومن المعلوم أن قيادات الاتحادات العمالية لم تكن فقط غير راغبة في الوقوف بجدية في صف العمال ضد هجمات التقشف تلك، ولكنها قد تبنت الفكر الاقتصادي لللبرالية الجديدة، وهم شركاء بشكل كامل في تدمير مجتمعات الطبقة العاملة وفي الأزمة الاجتماعية التي تتجلى بوضوح الآن، وذلك عندما أقروا بأن التقشف هو الحل والمخرج للأزمة العالمية.الوضع السياسي ومن المنطقي أن يضيق مئات الآلاف من الأسبان ذرعاً من الطريقة المعتادة للسياسات البرلمانية، وهناك عشرات الآلاف الذين باستطاعتهم تنظيم أنفسهم بشكل مغاير تماماً لما يرغب فبه القائمين على الحكم، وستمكنهم الخبرة التي سيكتسبونها القوة الضاغطة لأحتجاجات الشوارع حيث أن التنازلات السياسية تمنح فقط لأولائك الذين يقاتلون من أجل الحصول على حقوقهم.لكن المشكلة لا تكمن في "السياسة" بشكل مجرد، ولكن في شكل السياسة التي تفرض هيمنتها. في بلد تلو الآخر، كانت الأحزاب السياسية التقليدية من الطبقة العاملة في طليعة من أقروا وعملوا على تنفيذ خطط التقشف،والأمثلة كثيرة الباسوك في اليونان ، والحزب الاشتراكى فى اسبانيا، و الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا وحزب العمال الجديد في بريطانيا.
وكان الحزب الاشتراكى الاسبانى قد خسر الانتخابات الإقليمية التي أجريت مؤخراً ، حيث تقلصت نسبة التصويت له من 34.9 في المائة في الانتخابات البلدية السابقة إلى 27.8 في المائة، أي أن الحزب فقد حوالي مليون ونصف المليون صوتاً، ولكن مجمل الأصوات هو 6 ملايين صوت مما يعني أن الحزب لا يزال يحظى بولاء بعض الفئات، تماماً مثلما يظهر العمال ولائهم لنقاباتهم. ولهذا فإن إمكانية عزل الحزب لا تزال بعيدة.ومع ذلك، تظهر بوضوح شديد الحاجة الماسة لوجود بديل سياسي، يعتمد سياسات ثورية، سياسات لا ترفض فقط المساومة مع المستنقع البرلماني الحالي، ولكن تضمن وجود آليات فعالى لاستبدال ها النظام الفاسد بأكمله وبناء مجتمع جديد يلبي المطالب الإنسانية. وعلى الرغم من أن اليسار الثوري لا يزال أقلية، إلا أن الفرصة لا تزال سانحة لتنظيم صفوفه، وبإمكانه ابالنضال أن يصبح قطباً جاذباً لكل الساخطين الغاضبين من النظام.
في اسبانيا، كما هو الحال في معظم أنحاء أوروبا، السنوات القادمة ستكون مريرة . فالطبقة الحاكمة ومؤسساتها لن تتوقف عن شن المزيد من الهجمات على المفاوضات الجماعية، وأعانات البطالة والمعاشات كما هو الحال أيضاً في الصحة والتعليم . ورغم هذا فكلما ازدادتحدة الهجمات، كلما أشتدت وأنتشرت المقاومة. وعلى نحو متزايد، فإن أعداداً كبيرة من الناس ستشكك في شرعية الأنظمة الحاكمة، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم اليوم، وغدا سيحظى كل عمل من أعمال المقاومة بجذور في واقع الحياة الرأسمالية : نظام تحكمه أقلية، تتحكم فيه أرباح الشركات التي هي بيت القصيد لصنع القرار السياسي، ولا يمكنه توفير احتياجات الجزء الأكبر من البشرية.*نقلاً عن البديل الاشتراكي الأسترالي*تم نشر المقال المترجم في جريدة الاشتراكي، العدد 61، 3 يونيو 2011