بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

لا أفق لسلامهم

منذ أن تم توقيع اتفاق مكة، الذي أعلن عن تفاصيله في التاسع من فبراير الماضي، بعد مفاوضات دامت يومين برعاية السعودية، والساحة الفلسطينية الإسرائيلية تتحرك في مسار متعرج ومتناقض.

الجوانب التي يمكن اعتبارها إيجابية بالنسبة لجبهة المقاومة متعددة. فقد أوقف الاتفاق الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني الذي ميز الأسابيع السابقة عليه وهدد بحرب أهلية بين فصيلي فتح وحماس. ومهد الاتفاق أيضا لحكومة وحدة وطنية فلسطينية برئاسة إسماعيل هنية، اعتبرها البعض أول خطوة على حل مأزق انتخابات 2006 التي أتت بحكومة حماسية صرف صار إسقاطها وتدمير شرعيتها هدفا مباشرا لإسرائيل والإمبريالية الأمريكية، وهو أمر دفع ثمنه الشعب الفلسطيني كله. بل إن تقارير صحفية إسرائيلية أشارت في أكثر من مناسبة إلى أن إسرائيل فوجئت بالاتفاق وإلى أنها تراه في غير صالحها.

وصرح رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية الشاباك يوفال يسكين، الذي يوصف بأنه الأقوى تأثيراً على القرار السياسي، لصحيفة هآرتس بأن نجاح الفلسطينيين في تشكيل حكومة وحدة وطنية يعني أنه يتعين على إسرائيل أن تتحرك فوراً للقيام بعمل عسكري في القطاع ضد حركة حماس بعد أن كان الاقتتال الفلسطيني يلغي أي مبرر لأي تدخل عسكري إسرائيلي.

الأكثر من ذلك، فقد رأى الكثيرون في الاتفاق حلا وسطا طال انتظاره في الساحة الداخلية باتفاق حماس وفتح على تبني الحكومة الجديدة وثيقة الأسرى التي تنص على تأسيس دولة فلسطينية في حدود 1967 على أن تكون عاصمتها القدس، وأن تعمل حماس على الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها فتح، وأن تقوم الأخيرة بتولي عملية التفاوض.

كم تبدو هذه النتائج إيجابية إذا ما رؤيت في سياق حمام الدم الفلسطيني الفلسطيني؟ لكن عناصر عديدة تؤشر على أن الكثير من العوامل التي أدت للاقتتال وإلى حصار حكومة حماس لم تتغير أيضا. فالمشكلة بين حركتي فتح وحماس لم تكن حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بل في المشروع السياسي لكل منهما، وتتركز حول الموقف من المقاومة بشكل أخص. وقد تجلى ذلك في الإصرار الأمريكي الإسرائيلي على أن تستوفي الحكومة الجديدة شروط الرباعية الدولية بالاعتراف بإسرائيل والاتفاقات الموقعة معها ونبذ المقاومة..إلخ. وأكد آخر اجتماع للرباعية التي تضم الاتحاد الأوربي وروسيا والأمم المتحدة، إلى جانب الولايات المتحدة، على ذلك.

ومن ناحية رحب الكثيرون بالاتفاق على أساس أنه مقدمة لتحريك عملية السلام، التي يرغب الأمريكيون، والدول العربية المتواطئة معهم وعلى رأسها مصر والسعودية والأردن، في إحيائها إلى درجة اليأس لتخفيف الاحتقان الإقليمي الضاغط على مصالحهم جميعا. لكن من الناحية الأخرى خرجت القمة الثلاثية بين رايس وعباس وأولمرت، وهي الأولى من نوعها منذ شهور طويلة، بلا شيء تقريبا وكأن العملية عادت لنقطة الصفر لدرجة دعت بارون الحرب صاحب العلاقات الوطيدة مع الإسرائيليين، محمد دحلان، لانتقاد الموقف الأمريكي.

الحقيقة أن الاتفاق كان الطريقة الوحيدة لدى الجميع، بما فيهم الولايات المتحدة، للتقدم للأمام وتجاوز الطريق المسدود الذي واجه الجميع على اختلاف مواقعهم ومصالحهم. لكن كل شيء يشير إلى أنه لم يحسم شيئا كما يظهر من استعراض موقع ما حدث في مكة من استراتيجيات ومصالح الأطراف المختلفة.

الأمريكيون

قد يكون موقف الأمريكيين هو الأكثر تعقيدا وتركيبا وتناقضا في وقت هو الأكثر أهمية على الإطلاق بالنسبة لتوازنات الطبقات الحاكمة في المنطقة. فموقف الأمريكيين من اتفاق مكة، كما تم التعبير عنه في أكثر من مناسبة، جاء متحفظا بل وأحيانا عدائيا. وأكدت الولايات المتحدة مرة أخرى أنها لن تتعامل مع الحكومة الجديدة إلا إذا قبلت بالشروط التي رفضتها حكومة حماس. لكن رايس جاءت للمنطقة بعد الاتفاق بعشرة أيام لتعقد قمة ثلاثية غير مسبوقة مع عباس وأولمرت. وأخذت رايس تتحدث، وفي هذه اللحظة بالذات، عن الدولة الفلسطينية المنتظرة وعن الحل النهائي للقضية الفلسطينية. فما السبب في هذا التعارض؟

نقطة البداية هي أن الأمريكيين يرغبون في تعبئة دعم الأنظمة العربية المتحالفة معها (التي تسميها معتدلة) من أجل معادلة النفوذ الشيعي الإيراني ومن أجل عيون تعاونها في المسألة العراقية، وأخيرا وقد يكون الأهم، لمساندة أي خطوة مستقبلية ضد إيران. وهكذا فإن ممارسة الضغط على إسرائيل لتحريك عملية السلام قد يساهم في تخفيف الضغوط الداخلية على هذه الحكومات والنابعة من الاحتقان الإقليمي. ولا يمكن إغفال قرب انتهاء ولاية بوش وفشل الجمهوريين في تحقيق أي نجاح في الشرق الأوسط وهو ما يجعل تحركا في العملية السلمية نقطة ارتكاز هامة في السياسة الخارجية الأمريكية.

الأمريكيون يعرفون جيدا أن حلا نهائيا يتعلق بدولة فلسطينية وبالقدس قد لا يكون مقبولا في ظل وجود حماس، أو أي قوة تتبنى المقاومة، ضمن السلطة الفلسطينية. ويعرفون جيدا أن إسرائيل لن تقبل ذلك في ظل وجود اليمين المتطرف في حكومة أولمرت، الضعيف من الناحية السياسية. لكن الاتفاق الذي جرى برعاية سعودية لا يمكنها أن تتجاوز إقرارا أمريكيا من نوع ما يوفر لها أرضية لخلق وضع جديد عبر إعطاء الحليف عباس أوراقا جديدة يلعب بها. فبالرغم من الارتياح الذي وفره الاتفاق في الداخل فإن غياب اتفاق حقيقي حول الموقف من مشروع المقاومة يشير إلى أن عمر الحكومة الجديدة قد لا يتجاوز أشهر معدودة. وساعتها فإن الانتخابات التي طالما هدد بها عباس تصبح مقبولة أكثر، بالرغم من أن أهمية معارضة حماس لها لن تتلاشى نهائيا. وعندها سيحتاج عباس شيئا يعطيه للناخب الفلسطيني. ومن ثم كان طبيعيا عودة الحديث عن الدولتين والقدس والإصرار على عقد القمة الثلاثية رغم أنه كان واضحا أنها لن تصل لشيء للتأكيد على استمرار عباس كشريك أساسي في السلام الأمريكي. وفي الوقت نفسه استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على مسافة باردة وجافة بينها وبين اتفاق مكة. وبرغم تصريحات دحلان، فإن البيان القصير الذي قرأته رايس مؤكدا على الشروط الأمريكية حظي بتأييد ومساندة كل من عباس وأولمرت.

فتح عباس ودحلان

دخل مشروع فتح المتوائم مع الإمبريالية في مأزق تلو الآخر في أعقاب فوز حماس الكاسح بالانتخابات التشريعية في مطلع ألفين وستة. لكن الأهم هو أن تكتيكات الضغط على حماس وحكومتها لقبول التنازل عن مشروع المقاومة أو الاعتراف بالفشل في إدارة شئون الفلسطينيين لم تنجح في إسقاط الحكومة. بل أدى تصاعد الاقتتال الداخلي بعد أن فشل عباس في فرض انتخابات مبكرة غير دستورية أو دفع الحكومة للاستقالة إلى تصاعد الضغوط من كوادر فتح ذاتها على عباس لإيقاف التدهور في الساحة الداخلية، خاصة بعد أن بدا واضحا أن أيا من الطرفين لن يستطيع حسم الصراع المسلح على الأرض لصالحه. باختصار، لم يعد استمرار الوضع على ما هو عليه يبشر بأي نتائج إيجابية بالنسبة لعباس وفرقته.

في هذا السياق فإن الاتفاق يعطي عباس فرصة للمناورة، كما أشرنا، مع وضع عينه على الناخب الفلسطيني. لكن عباس مازال ضعيفا في الداخل. وسيكون عليه قبل أن يمضي قدما نحو الانتخابات أن يكون لديه شيء حقيقي يقدمه لإقناع الفلسطينيين بجدوى عملية السلام مرة أخرى. وتزيد المشكلة صعوبة في ظل أن هذا لا يمكن أن يحدث دون أن يقدم الأمريكيين له ما يلعب به، وهو أمر حافل بالصعوبات والعقبات خاصة مع تناقضات الوضع الإسرائيلي الداخلي.

الإسرائيليون

أول رد فعل إسرائيلي على اتفاق مكة كان اتهام أولمرت لعباس بالخيانة وإعلانه أن الأمريكيين مازالوا عند موقفهم من أي حكومة فلسطينية لا تعترف بإسرائيل، لكنه في النهاية قبل المشاركة في القمة الثلاثية. وأولمرت هنا هو الآخر بين طرفي رحى. فما حدث في الحرب اللبنانية دعا الكثيرين في الساحة الإسرائيلية الداخلية للتمرد على إستراتيجية تصفية الأعداء عبر القوة، ودفعت بعدد الراغبين في تسوية قائمة على دولتين مع الفلسطينيين إلى مستويات تاريخية. لكن في الوقت نفسه فإن أولمرت، وهو واحد من أنصار الانسحاب من جانب واحد، حتى وإن قبل حل الدولتين أو صفقة الحدود التي يمكن أن يرغب فيها عباس، فهو غير قادر على إقناع اليمين المتطرف ناهيك عن التعامل مع قضية القدس أو حق العودة دون تفجير موقفه السياسي ومعه الساحة السياسية في إسرائيل.

حماس

بالنسبة لحماس، هي الأخرى، اتفاق مكة هو مخرج من طريق مسدود بعد أن استمر الحصار وأصرت على الاستمرار في الحكومة وبدأ الاقتتال الداخلي. والاتفاق هنا حل يوفر لها رئاسة حكومة تتفاوض مع إسرائيل عبر منظمة التحرير (وهو أمر كانت على وشك قبوله لولا خوفها من خسارة قاعدتها الشعبية وكوادرها المقاتلة) دون أن تتحمل مسئولية ذلك السياسية. وفي الوقت نفسه فإنها تحتفظ بأغلبيتها في المجلس التشريعي وبتسع حقائب وزارية تمكنها من حماية مجالها السياسي. كما أن هذه الأغلبية وهذه المقاعد قد تشكل نقطة انطلاق في المستقبل لإيقاف عباس الذي صارت الكرة في ملعبه الآن، إذ صار مطالبا بإثبات جدوى عودة التعامل مع الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال عملية التفاوض. لكن يبقى كل ذلك مرهونا هو الآخر بما ستسفر عنه المناورات المستقبلية المعقدة بين جميع الأطراف.

أفق رايس السياسي هل هو ممكن التحقق؟

ما تسميه رايس الأفق لعملية السلام هو ما تطور مؤخرا ليصبح الوضع النهائي والدولتان. هذا الأفق ليس جديدا على السياسة الأمريكية فقد كان الهدف الأول على أجندة بيل كلينتون وفشل في تحقيقه قبل سنوات. والسياسة الأمريكية هنا تواجه وضعا أسوأ. فأولمرت ليس إيهود باراك وعباس ليس عرفات. كما أن الوضع على الأرض قد تغير كثيرا عن كامب ديفيد ألفين. فالاستيطان والجدار وتدمير الطرق قد جعلا الحد الأدنى الذي يحتاجه عباس أصعب وأصعب.

هذا بالإضافة إلى أن الانتخابات الأمريكية المقبلة، وهي عامل دافع في موقف أمريكا الأخير، تضعف في الوقت نفسه من إمكانية ممارسة الأخيرة للضغط المطلوب على إسرائيل لتقديم هذا الحد الأدنى. وأخيرا فإن الاحتقان الإقليمي الذي ترغب الولايات المتحدة في تخفيفه عبر تسوية فلسطينية إسرائيلية هو في الوقت نفسه عامل في تأزيم المشكلة الفلسطينية، وتكفي هنا الإشارة إلى الدعم الإيراني المالي والسياسي لحماس وتداعيات الوضع العراقي والحرب الإسرائيلية على لبنان.