البرازيل.. ولاية جديدة للولا دا سيلفيا
ما الذي حدث في انتخابات الرئاسة البرازيلية؟ نجح سيلفيا دي لولا مرشح حزب العمال في دورة الإعادة، بعد ما أضيف إلى أصواته جزء من أصوات لويزا هيلينا، مرشحة اليسار الراديكالي، الحاصلة على 15% من أصوات الناخبين في الدورة الأولى التي جرت في 1 أكتوبر الماضي.
لولا في فترة رئاسته الأولى
السؤال الآن، لماذا نجح لولا في انتخابات الرئاسة للمرة الثانية، علما بأنه لم يحقق في الولاية الأولى من حكمه إنجازات تذكر على صعيد قاعدته الانتخابية الرئيسية، العمال والفلاحين؟ فمنذ عدة أعوام، طرح لولا نفسه على الساحة السياسية باعتباره عامل وقيادي في حزب العمال، الحزب الاشتراكي الذي يفترض فيه أن يتبنى مصالح الفقراء وأن يقف بين صفوف الطبقات المهمشة. لكن، في الواقع، وبالرغم من الدعاية اليسارية، استمر لولا في تطبيق سياسات اللبيرالية الجديدة بكل ما تضمنه من انحياز لمصالح رأس المال المحلي والدولي وانصياع أمام أجندة البنك الدولي وصندوق النقد، وإفقار لمجمل الكادحين. وبنظرة سريعة نجد أن لولا قد قام بخفض الموازنة العامة بأكثر من 3.9 مليار دولار من خلال تقليص الإنفاق على الخدمات العامة من صحة وتعليم فضلا عن تقليص مستحقات العاملين من معاشات وأجور. في نفس الوقت الذي نجد فيه أن لولا قد دأب على مساندة السياسات الأمريكية في شقها الاقتصادي، يصف الرئيس بوش بقوله، “صديق للبرازيل ورجل ذو رؤية ثاقبة في الشؤون العالمية”!
أسباب نجاح لولا
نحن أمام لغز: رئيس يأتي على أرضية يسارية فيدافع عن الإفقار والإمبريالية ثم تتم إعادة انتخابه، لماذا؟
تكمن الإجابة على هذا السؤال في ثلاثة محاور رئيسية. المحور الأول، هو التغيرات التي طرأت على حزب العمال وأسلوب لولا كديماجوج شعبوي. فحزب العمال الذي يمثله لولا، والذي نشأ في عام1980، لازال يعتمد على نضالاته القديمة من دفاع عن مصالح العمال ومساندة لحركة ” فلاحين بلا أرض”، أقوى الحركات الاجتماعية في البرازيل – إن لم يكن في العالم. يستغل الحزب هذا التاريخ النضالي في التورية على واقع تحوله إلى تكوين بيروقراطي يدافع عن مصالح طبقة أخرى خلاف تلك التي كان يدافع عنها في السابق، طبقة الملاك. وبالتالي، يضع بين صفوفه ويعتمد في اختيار قياداته على أساس الرغبة في الصعود والترقي الطبقي بدلا من الكفاحية في الاشتباك مع الجماهير الكادحة.
وفي نفس السياق، يطرح لولا نفسه، بأسلوبه الديماجوجي، باعتباره أول رئيس برازيلي وصل إلى منصب الرئاسة من بين صفوف العمال وينتمي إلى أسرة فقيرة وغير متعلمة، وذلك ليسوق نفسه تحت مسمى ” ابن الشعب”. كما يقوم بتبني مبادرات شعبوية، غير حقيقية، على غرار مبادرة ” لا جوع “، تلك المبادرة التي ادعى أنها ستقوم بتوفير ثلاث وجبات يومية لكل برازيلي. تتضح ادعاءات لولا في هذا الصدد بالإشارة إلى قيامه بتقليص ميزانية هذه المبادرة بأكثر من 10 ملايين دولار بمجرد توليه للحكم بالرغم من وصول هذه الوجبات إلى 5% فقط من مستحقيها من الجائعين. إذا نحن أمام حزب ورئيس يستغلان تاريخ نضالي سابق ويروجان لمبادرات وهمية بغرض تسويق نفس النموذج الذي أدى إلى إفقار وتجويع وتهميش مجمل الكادحين.
أما المحور الثاني، والذي يأتي بالتوازي مع ما سبق ذكره، فهو يرتبط بالتغيرات السلبية التي أحلت بالنقابات العمالية في البرازيل فضلا عن تراجع الحركة العمالية بشكل عام. في هذا السياق، نجد أن النقابة العامة لاتحاد العمال، والتي يتبعها أكثر من 15 مليون عامل، قد فضلت التحالف مع لولا وحزب العمال في مقابل كسب مناصب في الحكومة وعضوية البرلمان، على أن تلعب الدور المنوط بها في فضح الأثر السلبي لسياسات لولا على العمال، وبالتالي تعبئة الرأي العام وعضويتها ضد إعادة انتخابه.
وبالنسبة للمحور أو السبب الثالث وراء إعادة انتخاب لولا فهو يتضح عند فهم طبيعة العملية الانتخابية في بلد يوجد به تباين شديد في الثروة والدخل. ففي هذا الإطار، استطاع التحالف ما بين لولا وحزب العمال من جانب ورأس المال من جانب آخر، وبالتحديد قطاع الإنتاج الزراعي والقطاع المالي، أن يوفر حملة انتخابية سخية للغاية أساسها الترويج لخطاب سياسي يحول إخفاقات لولا إلى نجاحات. هذا فضلا عن استغلال التفاوت الشديد في الثروة ما بين الأغنياء والفقراء وترجمته على الأرض في شراء منظم ومباشر لأصوات الناخبين. تكمن أهمية هذا المحور الأخير في كشفه للحدود الموضوعية لنموذج الديمقراطية البرلمانية، هذا النموذج الذي يتم تصديره كآلية وحيدة لتمثيل إرادة الشعوب وتداول السلطة بالرغم من الهيكل الطبقي للمجتمعات الرأسمالية.
تبعات انتخاب لولا
لا يمكن حصر تبعات إعادة انتخاب سيلفيا دي لولا في أثره على الفقراء والطبقات الكادحة في دولة البرازيل دون غيرها. بالقطع سينعكس استمرار لولا في حكم البلاد بشكل مباشر في المزيد من التدهور في الظروف المعيشية للبرازيليين وفي تقليص الإنفاق بمجال الخدمات العامة وما يستتبع ذلك من قوانين مجحفة بحقوق القطاع الأوسع من المجتمع هناك. لكن لهذا الحدث أثاره العالمية، التي تتجاوز أمريكا اللاتينية.
فحدث كهذا يكرس لوجهة النظر السائدة التي تتعامل مع السياسات الليبرالية الجديدة كما لو كانت من طبائع الأمور. بصيغة أخرى عندما يتبنى الرئيس “اليساري”، المنحاز للكادحين، لمثل هذه السياسات يتم التكريس لفكرة أن هذا النموذج هو ” الممكن ” و” العملي” الوحيد، الأمر الذي يعمل على إضعاف إمكانية قيام نضالات أكثر جذرية. فالمعارك تنحصر في سرعة تطبيق هذا النموذج بدلا من التصدي له في مجمله.
هذا التصور كاذب، على أقل تقدير، سواء على المستوى النظري أو الفعلي بالنظر إلى تجارب أخرى كالتي نشهدها في بوليفيا وفنزويلا. فبالرغم من وجود بعض التحفظات على الخط السياسي السائد بهاتين الدولتين، إلا أنهما يضربان مثلا واضحا في إمكانية الخروج من عباءة اللبيرالية الجديدة ومشروعها الإمبريالي.