انتخابات الكونجرس الأمريكي:
الفضائح في الداخل والحرب في الخارج
في يوم 7 نوفمبر الماضي جرت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، والتي أسفرت عن سيطرة الحزب الديمقراطي بالأغلبية على الكونجرس بواقع 231 مقعد في مقابل 204 مقعد للحزب الجمهوري. كانت المسألة العراقية – التي تستحوذ على اهتمام الشعب الأمريكي – في قلب المعركة الانتخابية ولعبت دوراً حاسماً في الهزيمة الساحقة التي منى بها الجمهوريين. ولم يتوقف الأمر عند حد فقد حزب بوش للسيطرة على الكونجرس، لكن هذه النتيجة أفقدت المحافظين الجدد في البيت الأبيض توازنهم حيث تمثل هذه النتيجة تصويتا على خطة الحرب واحتلال العراق، الأمر الذي دعا إدارة بوش إلى محاولة إنقاذ الموقف بإعلان استقالة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع ومهندس الحرب على الإرهاب والمسئول الأول عن الوضع في العراق، في محاولة لحفظ ماء الوجه.
في ظل هذه النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات الأمريكية وما صاحبها من ارتباك وسط مجموعة المحافظين الجدد الحاكمة، يقول كثيرون إن “ديمقراطية” أمريكا معناها ديكتاتورية نظام الحزبين لخدمة الشركات الرأسمالية الكبرى. ويقول آخرون إن الانتخابات في أمريكا تجري بين حزبين أحدهما يمثل اليمين والآخر يمثل اليمين المتشدد. إذا كانت هذه المقولات كلها صحيحة، ما هي دلالة هذه النتيجة؟ هل هناك جديد فى انتخابات هذا العام؟ لا يوجد أي جديد، عدا في بعض التفاصيل الصغيرة.
شعار الحرب يخيم في الأفق
في وقت الحرب لا صوت يعلو فوق مصلحة الإمبريالية. وبمعنى آخر، فإن الحديث عن الفقراء أو التعليم أو الإقتصاد يختفي في وقت الحروب. ويعمل التحالف المعقد المكون من الشركات الرأسمالية الضخمة للمقاولات والتسليح والبترول والمسيحيين المتشددين والمحافظين الجدد، على إخراس أي صوت ينتقد الحرب بحجة أنه غير وطنى. وليس معنى ذلك أن الحزب الديمقراطي ليس ممثلاً للرأسمالية الأمريكية. فطبقياً، يتحدث الجمهوريون والديمقراطيون بلسان واحد.
وهناك أمر ذو دلالة كبيرة فى هذا السياق، وهو قضية الفضائح الجنسية لرجال الحزب الجمهوري من اليمين المحافظ. فالفزع الشديد من هذه القضايا، يعطينا مؤشراً على انحطاط الإنتخابات الأمريكية وعلى حرص الحزبين الرئيسيين على استقطاب أصوات الناخبين على أرضية بعيدة عن السياسة والاقتصاد. فقد أصبحت الفضائح الجنسية أكثر أهمية من أجندة الحزبين فيما يتعلق بالإعفاءات الضريبية للأغنياء، أو الميزانية المهولة للحرب.
من حوالي شهرين حدثت واقعة هامة أثناء الذكرى السنوية لكارثة كاترينا. فبمناسبة زيارة بوش لنيو أورليانز تم إعداد مكان ليتحدث منه، وتحسين شكل بعض المنازل المواجهة لمكان خطابه. كان على مقربة خطوات منه مقالب قمامة ومخلفات أدوات صحية مهملة. هذا التناقض الوقح لم يهم أحد فى الإعلام، ولكن فقط عرف بالصدفة بسبب إذاعة يسارية في ولاية كاليفورنيا. ففي وقت الحرب، يتراجع الحديث عن الفقراء وعن واقع “اللاجئين الأمريكيين داخل أمريكا”.
وهناك واقعة حدثت مؤخراً ذات دلالة كبيرة على منطق الإمبريالية الأمريكية فيما يخص الحرب والأمن. ففي الأسبوع الأول من نوفمبر، خرج عضو مجلس الشيوخ (السيناتور) جون كيرى – المرشح السابق لانتخابات الرئاسة عام 2004 – في جولة انتخابية لدعم المرشحين الديمقراطيين. وفي أثناء لقائه بطلاب أحد المدارس الموجودة في ولاية كاليفورنيا قال لهم “أنا لست في حاجة للتأكيد على الأهمية الشديدة للتعليم. هل تعلمون أنه اذا لم تدرسوا جيداً، وإذا لم تكونوا أذكياء، أو إذا كان لديكم ذكاء متكاسل فسوف يتم غرسكم فى حرب مثل العراق. واذهبوا اسألوا بوش”. وفور حدوث هذه الواقعة هاجت الدنيا وماجت، وتم التعامل مع كلامه كإهانة للجيش الأمريكي. كما عبر الجمهوريون وقارعو طبول الحرب فى الإعلام عن رأي مفاده أن كيري قد قام بإهانة القوات المسلحة. وبالطبع، اغتنم بوش وتشيني ورموز الحزب الجمهوري الفرصة الذهبية لانتقاد الحزب الديمقراطي باعتباره أقل حسماً في قضية الحرب والأمن. وبعدها بأيام معدودة اعتذر كيري وأكد على تقديره الكبير للقوات المسلحة الأمريكية.
ومنذ حوالى الشهر حدثت واقعة مماثلة، باحتجاج نواب ديمقراطيين على وصف الرئيس الفنزويلي شافيز للرئيس بوش بـ”الشيطان الأكبر” في اجتماع للأمم المتجدة. رأى هؤلاء أن انتقاد رئيس الدولة “غير مقبول” لأنه “رئيس كل الأمريكيين والقائد الأعلى للقوات المسلحة”!!
هناك أمر آخر ذو دلالة كبيرة هنا وهو اهتمام الحزب الديمقراطى بإظهار وجهه الحاسم والحربي، عن طريق إظهار الديمقراطيين من المحاربين القدماء في وسائل الإعلام بهدف طمأنة الشعب الأمريكي حول أنهم ليسوا أقل حسماً من الجمهوريين.
الدولة البوليسية
أما ثاني متغير يميز الواقع الذي جرت فيه هذه الانتخابات فهو ترسانة القوانين المقيدة للحريات، والتي وصلت لأبعاد غير مسبوقة. فقد ارتضى الحزب الديمقراطي ومن ورائه عدد كبير من الأمريكيين بمشروعات التصنت على كل “أعداء النظام”. كما وافقوا على الإستمرار في تجديد قوانين الوطنية الأول والثاني، القوانين الشبيهة إلى حد كبير بقانون الطوارىء في مصر.
وفى 17 أكتوبر الماضي تمت الموافقة على مشروع قانون يخول الرئيس إنشاء محاكم خاصة وتحديد طرق التحقيق العنيفة (اللفظ المهذب للتعذيب) مع كل من يوصف بأنه “عدو مقاتل”. ويقول المحللون إن القانون الأخير على وجه الخصوص يحمل دلالة خاصة، فالإادارة الأمريكية تنوى الاستمرار في هذه القوانين إلى أجل غير مسمى، وما زال فى جعبتها الكثير. على سبيل المثال، هناك اقتراح بمشروع قانون ينظم مراقبة الجامعات الأمريكية. والمبرر (المهذب) هو ضرورة التأكد من وجود تعددية في وجهات النظر وتحقيق التوازن بينها في عملية التدريس بالجامعات. أما الهدف الواضح للعيان فهو إخراس الأصوات المنتقدة للنظام والتأكد من هيمنة الأصوات المحافظة والمتشددة. في هذا الصدد، من المفترض أن يتم إنشاء مجالس إدارة استشارية للإشراف (اللفظ المهذب لمراقبة) على الجامعات.
كما جاءت التعيينات الأخيرة في المحكمة العليا كاشفة من حيث نوايا الحزب الجمهوري. يتميز القاضيان المعينان بمحافظتهما على الصعيد السياسي وموالاتهما للرئيس بوش وللجمهوريين. لكن العنصر الأكثر إثارة للجدل أو المفزع إذا جاز التعبير هو نوع المعارضة المتوافرة لهذه القوانين. فبرغم توافر الانتقاد المستمر بين صفوف المواطنين الأمريكيين والمثقفين اليبراليين لهذه الترسانة من القوانين، إلا أن حجم الفاعلية على المستوى العملي منعدم فضلا عن الرؤية غير المبدئية على الإطلاق لهذه القوانين. يقبل هؤلاء الاعتداء على حريات من يعتقدون أنهم “إرهابيون”، ومعارضتهم للقوانين تقتصر على مساسها بالأمريكيين.
تتعدد الأسباب والموت واحد
ومن الناحية الشكلية هناك ثلاثة أسباب على الأقل تجعلنا متأكدين أن وجود أغلبية ديمقراطية فى الكونجرس لن يغير من الأمر كثيراً فيما يتعلق بالعراق أو وضع حد للبوليسية التي أصبحت طابع الدولة الأمريكية فى الداخل.
أول هذه الأسباب هو المواقف التاريخية للحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالحرب على العراق وأدائه فيما يتعلق بالقوانين الاستثنائية والمعادية للحرية. دائما ما كانت معارضة الحزب الديمقراطي تتفق مع المبدأ ولكن تعترض على الشكل. فعلى سبيل المثال، كانت مشكلة الحزب مع انتشار التصنت غير القانوني هي حدوثه دون صدور حكم قضائى، وليس واقع تحول الولايات المتحدة إلى دولة بوليسية وفاشية.
السبب الثاني هو التغيير الهيكلى الذي يقوم به الحزب الديمقراطى لمنافسة نظيره الجمهوري. ففي إطار رغبته في الحصول على بعض المقاعد الجمهورية من الأماكن الجنوبية، اختار الحزب بعض الأصوات المحافظة والمتشددة، ومنهم بعض المسيحيين المتعصبين. الأمر الذي يعني أن الحزب الديمقراطي اختار أن يواجه نزوع اليمين الأمريكي لانتخاب الحزب الجمهوري بالنزوع هو الآخر لليمين بدلا من فضحه، إلى أن أصبحت هذه النزعة اليمينية جزء من تكوين الحزب ذاته. فهناك 33 مرشح ديمقراطي يتم دعمهم من قبل تحالف “الكلاب الزرقاء” وهو تحالف يمينى متشدد من الديمقراطيين في الولايات الجنوبية بأمريكا. هذا هو ذات التحالف الذي صوت للجمهوريين في السابق. كما يتلقون الدعم أيضاً من تحالف الديمقراطيون الجدد وهو عبارة عن تحالف بين الديمقراطيين الموجودين في الكونجرس من المؤيدين للحرب وللشركات الرأسمالية الكبري وبعضهم أعضاء سابقين بالحزب الجمهوري. وأغلبية هؤلاء ممثلون فى مجلس قيادة الحزب الديمقراطي نفسه.
أما السبب الثالث، فهو استسلام الديمقراطيين للابتزاز باستمرار. الجمهوريون يلعبون على نقطة الضعف هذه بالتركيز على أن الديمقراطيين أكثر جبناً و أقل حسماً وقدرة على إدارة قضية أمن الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” وشبكة “سي بي إس” التلفزيونية ما أكدته النتائج من أن العراق ستكون الهم الأساسي للناخبين حين يدلون بأصواتهم لاختيار كامل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء الكونغرس المائة. وجاء في الاستطلاع أن نسبة 29% فقط من الأميريكيين يوافقون على سياسة بوش في العراق. كما أظهرت استطلاعات الرأي أن الديمقراطيين قد يفوزون بالغالبية في مجلس النواب وربما أيضا في مجلس الشيوخ الأمر الذي يؤهلهم للسيطرة لأول مرة منذ عام 1994. فمن المعروف أن الحزب الجمهوري يسيطر على كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب بأغلية بسيطة. والانتخابات التي جرت مؤخرا كان التنافس فيها على 33 مقعد – 15 مقعد كانوا تحت سيطرة الجمهوريين و18 تحت سيطرة الديمقراطيين. المؤسف فى الأمر أن هذه الانتخابات أظهرت للمرة الألف غياب البديل لسيطرة نظام الحزبين.
وباختصار، بينما تمثل العراق سبباً أساسياً لضجر المواطن الأمريكي من كذب الإدارة، إلا أن المفارقة تظل أن الديمقراطيين أنفسهم ليس لديهم أية مواقف مبدأية ضد الحرب. هم باختصار الوجه المرواغ للإمبريالية. ونحن نعرف أن وجود صوت محافظ أو ليبرالي فى هذه المجالس لا يهم كثيراً: فلا فرق بين إمبريالية تتحدث بصوت ليبرالي أو بصوت محافظ، فجرائم الإمبريالية واحدة.