الفصائل الفلسطينية.. من المقاومة إلى المهادنة
تواجه المقاومة الفلسطينية تحديا استثنائياً يجعل الطريق إلى تحرير فلسطين لابد أن يمر عبر القاهرة ودمشق وعمان وبغداد. يحلل جمال جبر أزمة المقاومة الفلسطينية والعوامل التي وقفت وراء التحولات الأخيرة في توجهات فصائل المقاومة.
إن التحولات الكبرى التي طرأت على مسار الإنتفاضة الفلسطينية الثانية والتي كان آخرها وأهمها قبول الفصائل الفلسطينية للمهادنة التي فرضتها إسرائيل مع السلطة الفلسطينية، وأيضاً قبول هذه الفصائل إقتسام السلطة مع فتح بقبولها الإنضمام لمنظمة التحرير والإنخراط في العملية السياسية من خلال المشاركة فى الإنتخابات التشريعية ودخول البرلمان، في الوقت نفسه الذي تستمر فيه إسرائيل في بناء جدار الإبادة العنصرية والحديث عن بدأ تنفيذ خطة شارون للإنسحاب من قطاع غزة وتولى السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في القطاع وإلتزامها بتصفية الفصائل ونزع سلاحها بمعاونة مصرية، هذه التحولات الخطيرة تضع علامات استفهام كبيرة حول مصير الإنتفاضة الفلسطينية وربما القضية برمتها في المرحلة القادمة، وأفق المقاومة وفرصها.
الانتفاضة وتصحيح الأوضاع
اندلعت الإنتفاضة الثانية في سبتمبر 2000 كصرخة غضب عاصفة أطلقها الشعب الفلسطيني معلناً انتهاء مسرحية السلام الهزلية التي بدأت قبل ما يزيد عن عشر سنوات مع بداية مهزلة أسلو فى أعقاب الإنتفاضة الأولى فى أوخر الثمانينات وبداية حقبة التسعينات، وإبرام السلطة الفلسطينية لوثيقة الإستسلام المسماة إتفاق أسلو، وبدء دائرة مغلقة من المفاوضات العبثية والمناورات والمساومات والتسويف حول أمور هى من صميم حقوق الشعب الفلسطينى حتى إستقر الأمر على شكل الحكم الذاتى وتقسيم مناظق هذا الحكم إلى أ وب وج تحت السيطرة الإسرائيلية، ثم ظلت أكثر الأمور حيوية وهى ما تتعلق باللاجئين والقدس والدولة الفلسطينية قيد التسويف الإسرائيلى.
وكانت آخر فصول هذه المسرحية في سبتمبر 2000 مع جولة عرفات ـ باراك التفاوضية فى منتجع كامب ديفيد بالولايات المتحدة، حيث وصل الطرفان إلى نهاية المطاف، وأعلن فشل المفاوضات، ثم جاءت زيارة السفاح شارون للمسجد الأقصى حتى تكون الشرارة التى أشعلت الإنتفاضة التى أسدلت بمولدها الستار على حقبة أسلو وأوهامها.
هنا يمكن النظر إلى فعل الإنتفاضة باعتباره تدخل إرادى من الشعب الفلسطينيى لتصحيح مسار المعركة مع إسرائيل، بعد الخلل الكبير الذى سببه إنبطاح فتح وعرفات بإلقاء السلاح، وأيضاً محاولة لخلق حالة من التوازن فى القوى أمام الصلف الإسرائيلى المدعوم من الإمبريالية الأمريكية، لكن من قاد الإنتفاضة وإلى أين وصل بها ؟
رغم أن الإنتفاضة بدأت بشكل عفوى وغلب عليها الطابع الشعبى من تظاهرات ومواجهات مع القوات الإسرائيلية، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى نمط العمليات العسكرية الإستشهادية نتيجة قيادة فصائل المقاومة المسلحة الإسلامية ( حماس والجهاد ) للحركة.
هكذا بدأ يتضح للجميع نمو نجم حماس كقوة شعبية داخل الشارع الفلسطينى وباعتبارها الفصيل القائد لحركة المقاومة والذى يتقدم الصفوف بمقاتليه وأسلحته، فى الوقت نفسه الذى أخذت فيه شرعية فتح ـ العمود الفقرى للسلطة الفلسطينية ـ فى التراجع بشكل درامى، وربما لم ينقذ شعبيتها من الانهيار والتلاشي سوى بزوغ كتائب شهداء الأقصى التي انخرطت في عملية المقاومة المسلحة، بالإضافة إلى شخصية عرفات وثقلها التاريخي.
مأزق فصائل المقاومة
خاضت فصائل المقاومة ـ خاصة حماس ـ نضالاً باسلاً ومعارك شرسة ضد الإحتلال الإسرائيلى كبدت خلالها المجتمع الإسرائيلى خسائر فادحة على الصعيد الإقتصادى والأمنى والسياسى، واستطاعت أن تكسب تعاطف الملايين من الجماهير فى العالم وهو ما تشهد عليه المظاهرات التى اندلعت بالآلاف فى كل أنحاء العالم تأييداً للإنتفاضة. كما اتضح لإسرائيل أن مزاعم شارون الإنتخابية حول القضاء على الإنتفاضة فى مائة يوم ما هى إلا محض هراء، فقد انقضت مئات الأيام ولم تتوقف الإنتفاضة بل على العكس قويت شوكتها لتمتد إلى العمق الإسرائيلى، وهو ما دعى شارون إلى التفكير فى خطته للإنسحاب من غزة للهرب من جحيم المقاومة، الأمر الذى ألقى به فى أتون الصراع مع اليمين الدينى المتطرف داخل حزبه وحكومته مما عرض حياته السياسية للخطر مرات عديدة.
ولكن رغم بسالة المقاومة فهي لا يمكن أن تواجه وحدها التحديات التي يفرضها اختلال توازن القوى لصالح العدو الصهيوني.
ففي ظل مناخ عالمى شديد الإحتقان بهجوم الإمبريالية الأمريكية على العالم تحت مزاعم محاربة الإرهاب، والتدخل الأمريكى الصريح لإعادة تقسيم المنطقة وفقاً للرؤية الأمريكية الجديدة، الأمر الذى اتخذ ذروته فى إحتلال العراق ثم سيل التهديدات الموجه إلى إيران وسوريا ولبنان، وانبطاح الأنظمة العربية المخجل أمام هذه الهجمة، كل ذلك مثل بيئة مناسبة تماماً لمخطط شارون لتصفية المقاومة والقضاء عليها بمعاونة الإمبريالية والأنظمة العربية المذعورة على عروشها المهددة من الهجمة الأمريكية، وتجسد ذلك فى الحملة الوحشية التى استهدفت كوادر الفصائل وعقولها المدبرة من أمثال عبد العزيز الرنتيسى والشيخ أحمد يس وغيرهما، واستهداف البنية التحتية للمقاومة فى قطاع غزة الضفة الغربية، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، وجدت فصائل المقاومة نفسها محاصره من حلفاؤها من الأنظمة العربية تحت وطأة الضغوط الأمريكية، هذا ما ينضح به مساعى نظام مبارك منذ انلاع الإنتفاضة لإحتواء المقاومة ومحاولة إثناء الفصائل عن العمل المسلح، وهو ماشاهدناه جميعاً فى الزيارات المكوكية التى قام بها رئيس المخابرات المصرى عمر سليمان والتى أسفرت عن الهدنة الاولى ، ثم حوارات القاهرة المتتالية بين الفصائل والسلطة الفلسطينية، وتعهد نظام مبارك بالمشاركة فى تنفيذ خطة الإنسحاب من غزة بشروط إسرائيل التى فى مقدمتها تصفية قوة الفصائل فى القطاع ونزع سلاحها.
هكذا وجدت فصائل المقاومة نفسها محاصرة بعد تكثيف الهجمات الإسرائيلية الأمريكية عليها وموقف حلفاؤها من الأنظمة العربية المخجل، وتأكد هذا الوضع مع وفاة عرفات وصعود محمود عباس إلى سدة الحكم فى السلطة الفلسطينية.
أبو مازن واستكمال الحصار
لم تكن المشكلة فى العلاقة بين إسرائيل وعرفات فى أن الأخير لم يكن يؤمن بالسلام أو الحل التفاوضى كما يدعى شارون بل على العكس فهو الرجل الذى فتح الباب لهذا الطريق وصنع أكبر انتكاسة للقضية الفلسطينية بقبوله إلقاء سلاح المقاومة وإعتماد الحل السلمى كخيار استراتيجى!.
المشكلة الحقيقية كانت فى أن عرفات كان رجل مرحلة أسلو فهو الذى صنع هذا الطريق فى وقت لم يكن يستطيع أحد صنعه سواه بكل ما كانت تمثله فتح وشخصية عرفات ذاتها من ثقل بالنسبة للفلسطينيين، لكن عرفات لم يعد هو رجل المرحلة الحالية، بمعنى آخر لم يعد عرفات قادر على تقديم مزيد من التنازلات للمشروع الإمبريالى الصهيونى بالإنقضاض نهائياً على القضية الفلسطينية وتصفيتها.
فى هذا الإطار جاء محمود عباس فى أعقاب وفاة عرفات بمباركة أمريكية إسرائيلية، باعتباره رجل المرحلة الحالية والقادمة من الصراع على الهوى الإسرائيلى، وربما يفسر ذلك تاريخ الرجل المعادى للمقاومة المسلحة وآراءه حول أهمية الحل السلمى كخيار إستراتيجى، والأهم هو ما يبديه من استعداد للتعامل مع الفصائل الفلسطينية بالحسم الكافى لدرجة تصفيها جسدياً إذا أتاحت له إسرائيل الفرصة لذلك.
وبالفعل لم يضيع أبو مازن الوقت وبدأ صبيحة توليه السلطة فى الإتصال بأصدقائه الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين والعرب فى محاولة لإثبات حسن نوايه وعزمه المخلص على ضرب المقاومة وبدأ الهدنة تمهيداً للعودة لمسرحية المفاوضات والتذلل للأمريكان والإسرائيليين، فأخذنا نشاهد ونسمع عن إنتشار القوات الفلسطينية فى جميع أنحاء قطاع غزة إلى جوار القوات الإسرائيلية لمنع عمليات المقاومة، هذا إلى جانب عمليات الضغط المكثفة التى تمت خلال الحوارات مع السلطة وبمشاركة مصرية فى محاولة لإثناء الفصائل لوقف المقاومة وإقناعها بالجلوس على طاولة المفاوضات وبالتالى الإنخراط فى العملية السياسية السلمية.
أسفرت هذه العملية بالفعل عن تدجين فصائل المقاومة وخاصة حماس والجهاد الذين قبلا الهدنة ووقف إطلاق النار رغم استمرار الإحتلال والمذابح الإسرائيلية وبناء الجدار.. وغيرها، ولم يتوقف الأمر على قبول الهدنه، بل أعلنت حماس والجهاد فى أعقاب حوارات القاهرة الأخيرة قبولهما الإنضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتمثل المعارضة داخل المنظمة، وهذه الخطوة يمكن النظر إليها إلى جوار قرار حماس بخوض الإنتخابات التشريعية والإنخراط فى البرلمان، على أنها بمثابة إنتحار سياسى لهذه الفصائل، لأنها بذلك تكون قد اختارت نبذ المقاومة والسير على الطريق الفتحوى السياسى بكل فساده وانتهازيته الذى سلكته منذ حقبة من الزمان بانشاء السلطة والبرلمان الفلسطينى والإنخراط فى العملية السياسية والتسوية السلمية الدبلوماسية، هذا الطريق الذى أدى إلى تدنى شرعية فتح وتراجع شعبيتها داخل الشارع الفلسطينى ، وربما أكبر دليل على ذلك نتائج إنتخابات البلدية التى اكتسحت فيها حماس بحصولها على أغلبية المقاعد.
مصير المقاومة الفلسطينية
لماذا وقعت فصائل المقاومة الفلسطينية الإسلامية فى هذا الفخ وهذا الحصار الذى شل حركتها وانتهى بها الأمر إلى المهادنة ؟
المقاومة الفلسطينية كحركة تحرر وطني تواجه تحدياً استثنائيا. استعمار استيطاني مدعوم بشكل مطلق من قبل الإمبريالية الأمريكية، سلطة فلسطينية معادية للمقاومة ومستسلمة للعدو وحصار من قبل أنظمة عربية لا تخدم سوى مصالح واشنطن وتل أبيب. في وضع مثل هذا يمكننا فهم صعوبة تحقيق التقدم على طريق التحرير رغم بسالة المقاومة وتضحياتها ورغم الضربات الموجعة التي وجهتها لقلب العدو الصهيوني. ولكن الحل لا يكمن في اللجوء للأنظمة العربية والاندماج في عملية سياسية لا يمكن أن تؤدي إلا لمزيد من الهزائم والتنازلات.
في هذا الإطار يبدو أن الشعار الذى ارتفع بقوة فى مظاهرات التضامن مع الإنتفاضة “علشان نحرر القدس لازم نحرر مصر”، هذا الشعار يحوى الخروج من المأزق، فتحرير فلسطين يأتى فى إطار النظر إلى عملية التحرير الواسعة للمجتمعات العربية من أنظمتها الديكتاتورية والفساد والرأسمالية، هذا التحرير ليست هناك قوة قادرة عليه سوى جماهير الكادحين فى فلسطين والمنطقة العربية، فإذا إستطاعت الجماهير العربية إسقاط الديكتاتورية والإستغلال وإقامة نظمها الإشتراكية الحرة، حينذاك يمكن تحرير فلسطين.
إن الطريق لتحرير فلسطين إذاً يمر بالقاهرة والرياض ودمشق وبيرون وعمان وبغداد… إلخ، هذا الحلم أصبح أقرب إلينا من أى وقت مضى، بعد أن بدأت رياح التغيير تهب على كل مكان فى منطقتنا، وهو ما يضع مهمة ثقيلة على المقاومة سواء فى فلسطين أو العراق، بضرورة مد جسور مع الحركات الشعبية العربية والإنغماس فيها والعكس، أن تلتحم هذه الحركات بهموم وقضايا حركات التحرير فى العراق وفلسطين.