الهدف القادم: سوريا
جاءت النتائج الولية لتقرير ميليس، رئيس اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، لتشير بوضوح لتورط سوريا في عملية الاغتيال. وبالتأكيد ستكون تفاصيل هذا التقرير موضع جدل ونقاش وانتقاد بل ورفض في الأيام والأسابيع والشهور القادمة. بدايات رد الفعل شهدتها سوريا في مظاهرات حاشدة احتجاجًا على التقرير، كما احتجت حركة أمل وحزب الله عليه، بينما رحبت به بضعة مظاهرات للمعارضة اللبنانية.
ويمكن القول أن التقرير قد أنجز مهمته في وضع سيناريو الحلقة الأخيرة من مسلسل الضغط على سوريا ليفتح بذلك الباب أمام التصعيد والمواجهة بينها وبين واشنطن. وفور نشر التقرير طالبت وزيرة الخارجية الأمريكية كونجليزا رايس المجتمع الدولي إلى التحرك “لمحاسبة” سوريا، وقالت في حديثها إلى الصحفيين “أن المحاسبة ستكون مهمة بالنسبة للمجتمع الدولي ولن نقبل فكرة أن يكون جهاز من أجهزة دولة معينة متورط أو مشارك في اغتيال رئيس وزراء في دولة أخرى”. وقد تباينت مواقف المجتمع الدولي قبيل اجتماع مجلس الأمن لدراسة نتائج التقرير بين المطالبين بفرض عقوبات على سوريا ومحاسبتها مثل أمريكا وبريطانيا، وبين من يطالب بالتريث، مثل فرنسا، لحين انتهاء مهمة اللجنة وذلك في منتصف ديسمبر المقبل. ومع هذا التقرير أصبحت سوريا أكثر عرضة لفرض عقوبات إن عاجلاً أو آجلاً أو لتكرار ما حدث في العراق.
وقد بدأ استهداف سوريا مع قدوم إدارة بوش، عندما صنفتها كواحدة من الدول التي تدعم الإرهاب، وقد تصاعد الهجوم عليها أثناء غزو العراق، وتباينت الاتهامات بين إخفاء الأسلحة العراقية، وإيواء سوريا المجاهدين العراقيين، ودورها في “العمليات التخريبية” في العراق. ثم تصاعد الضغط على دمشق من قبل فرنسا وأمريكا لإخراج قواتها من لبنان وتنفيذ قرار مجلس الأمن 1559، وأخيرًا باتهامها بالتورط في حادثة اغتيال الحريري. حاولت سوريا في المقابل التعامل مع الضغط الأمريكي بالتشدد حينًا وبتقديم التنازلات أحيانًا أخرى، ولعلها قد تعلمت من الدرس العراقي. فسلسلة التنازلات التي قدمتها دمشق آملة بأن تحسن علاقاتها وتخفف الضغط الأمريكي عنها كانت كثيرة، وتعود لوقت حرب الكويت عام 1991 حين أرسلت قواتها للمشاركة في الحرب على العراق. ثم شاركت في مؤتمر مدريد وما تلى ذلك من مفاوضات مع إسرائيل. وأخيرًا قامت بتنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 وسحبت قواتها من لبنان في أعقاب اغتيال الحريري، وذلك في زمن قياسي بعد مماطلتها لشهور طويلة في تنفيذه على أمل تجنب الضغوط المتصاعدة. ولكن هيهات، فكل هذه التنازلات لم تنه الأزمة أو حتى تخفف الضغط الأمريكي، فالضغوط التي تمارس على سوريا سواء لإخراج قواتها من لبنان أو لتحميلها مسئولية عملية الاغتيال هي وسيلة لبلوغ هدف إدارة بوش التي تتحرك نحو “تغير النظام” في دمشق واستبداله بنظام موال وحليف لأمريكا. ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الضغط المتزايد على سوريا؟ الجواب هو رغبة الولايات المتحدة في جعل منطقة الشرق الأوسط أكثر ملائمة لمصالح واشنطن وتل أبيب، وهذا يعني بالضرورة تغيير الأنظمة في المنطقة وإزالة “الخطر” الذي يهدد مصالحها أو مصالح إسرائيل وهو “المقاومة” مثل حزب الله وحماس وغيرها. كما أصبح واضحًا بعد التجربة العراقية أن نموذج “الإصلاح” و”الديمقوقراطية” التي حاولت أمريكا تطبيقه في العراق قد فشل، وأصبح هناك اعتقاد في بعض الدوائر في واشنطن أنه لا يمكن تحقيق أي نصر في العراق بدون إخضاع سوريا، فهي تمثل في رأيهم الباب الخلفي للمقاومة في العراق.
أما المستفيد الأكبر من كل هذا التصعيد، ومن كل ما قامت به أمريكا في السنوات الماضية هي إسرائيل. فالحرب على العراق كانت تعني لها القضاء على جبهة كانت تمثل تهديدًا لها بشكل أو آخر، وانسحاب القوات السورية من لبنان كان خطوة هامة في هدفها الرئيسي وهو نزع سلاح حزب الله، وحلمها بالعودة إلى اللحظة التي تمكنها من توقيع معاهدة منفردة مع لبنان، التي ماتت مع التدخل السوري. ومن ثم فقد رحبت إسرائيل بتقرير ميليس، ورأت فيه فرصة لحصول تغيير للنظام في سوريا، والذي من شأنه أن يدمر التحالف الخطر بين سوريا وإيران، وينهي الدور الذي تلعبه سوريا في دعم المقاومة.
لعل الدرس المهم هنا هو أن التصدي للهيمنة الأمريكية ليس بيد الحكومات سواء بالتشدد أو بتقديم التنازلات.. فهذه الأنظمة المستبدة غير قادرة على تعبئة شعوبها ضد المشروع الأمريكي، وهي لا تقوم إلا بالدفاع عن وجودها ومصالحها أولاً وأخيرًا. الطريق الوحيد – الطويل والصعب – بيد الشعوب العربية، هو المقاومة. هذا ما تعلمناه من المقاومة اللبنانية ومن الانتفاضة وهذا ما نتعلمه كل يوم الآن من المقاومة العراقية.