بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الحركة الاجتماعية القاعدية في الأرجنتين

شهدت الأرجنتين في التسعينيات تراجعا من قبل الدولة عن أداء دورها الاجتماعي وتسليماً منها للقيادة إلى القطاع الخاص. يعرض هكتور بالومينو لتطور الحركات الاجتماعية التي استهدفت أن تقدم بديلاً لهذا الدور مركزاً على حركات العاطلين ومجالس الأحياء وحركة الاستيلاء على المصانع.

تعكس الحركات الاجتماعية الجديدة في الأرجنتين الجهود المبذولة لإعادة بناء الروابط الاجتماعية عن طريق أشكال تنظيمية جديدة. وتؤدي التغييرات في أشكال العمل، سواء في أبعادها التعاقدية أو التنظيمية، إلى دعم رؤية مهمومة بالبناء الاجتماعي للحركات، وليس فقط بالأشكال الاحتجاجية والتعبوية لتلك الحركات، التي أصبحت الجزء الظاهر من نشاط أوسع بكثير يتعلق بخلق الروابط والمنظمات الاجتماعية.

تتضمن المشروعات التي تبادر بإقامتها الحركات العمالية الاستيلاء على المصانع­ التي هجرها أصحابها ، وإنشاء منظمات العاطلين عن العمل، وتأسيس مجالس الأحياء، تحت لافتة ما يسمى حالياً “بالاقتصاد الاجتماعي”، وهو ما يمكن أن يوصف بأنه فضاء عام، لا يكون فيه الأجر النقدي هو الأجر الوحيد للعمل. وعلى خلاف الأشكال الاحتجاجية السائدة من قبل، تكتسب الحركات الحالية أبعاداً سياسية.

1- العمل هو السياسة
يشكل الفقر والبطالة اليوم النواة التي تقوض شرعية النظام الاقتصادي القائم، وهما اشكاليتان لا يمكن لاقتصاديات السوق أن تجد لهما حلولا من خلال طريقة عملها الطبيعية. من ناحية أخرى، تكتسب الحركات الاجتماعية جزءا كبيرا من شرعيتها من خلال طرحها على المجتمع حلولاً مبتكرة لمشكلات الفقر والبطالة، خارج نطاق الاقتصاد المؤسسي.

تقوم الحركات الاجتماعية الجديدة بتكوين شبكات من الاقتصاد البديل، تمكنها من تقوية تطورها إنطلاقاً من احتياجاتها، وتدفع إلى خلق نشاطات في إطار اقتصاد اجتماعي جديد. تعطي هذه الإستراتيجية حلولاً للمشكلة المركزية التي لن يستطيع الاقتصاد الرسمي، ولا مبادرات الدولة حلها على المدى القصير، ألا وهي خلق فرص عمل.

الحل الذي طرحته الدولة لهذه المشكلة كان نقل مشكلة البطالة إلى مجال السياسة الاجتماعية، عن طريق إعطاء إعانات لأرباب الأسر العاطلين عن العمل. وهذا يعكس الصعوبات التي يواجهها اقتصاد لا يستطيع خلق فرص عمل، إلا بشكل بطئ وتدريجي، مما يتناقض مع حجم البطالة التي يعاني منها في الأرجنتين 2 مليون شخص، يحصلون على إعانات بطالة، وحوالي 2.2 مليون آخرين لا يحصلون علي أي إعانات.

إن ظهور اقتصاد اجتماعي جديد، بدافع من الحركات، يشكل توجهاً سياسياً واضحا. وهذا الطرح الجديد شديد الاختلاف عن الأشكال الأخرى للاقتصاد الاجتماعي السائدة في التسعينيات، مثل التعاونيات التي ظهرت في هذا الوقت في الأرجنتين. فبينما كانت أشكال الاقتصاد الاجتماعي التي ظهرت في التسعينيات وسيلة لتعويض غياب تدخل الدولة، فان إستراتجية الحركات الاجتماعية الحالية تستهدف بشكل خاص الإحلال محل نظام السوق. وتتنوع أشكال ارتباط الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الجديدة بالتعاونيات، فهي عادة ما تربطها بها علاقات تستخدم فيها هذة التعاونيات، بينما تتكامل معها في بعض الأحيان. وتختلف الحركات الجديدة عن التعاونيات التقليدية في طريقة اتخاذ القرار، فبينما تشجع الحركات الجديدة مشاركة الأعضاء في اتخاذ القرارات، الأمر الذي يتم بشكل أفقي، فان الأشكال الانتدابية والهيراركية هي السائدة في التعاونيات.

2- بعض خصائص مشاريع الإدارة الذاتية الخاصة بالحركات الاجتماعية الجديدة
إن الأشكال التي اتخذها العمل في الاقتصاد الاجتماعي الجديد تضع العمل المأجور التقليدي محل تساؤل. ويتركز هذا التساؤل حول الاستغلال الذي يخضع له العمل من خلال علاقات العمل التقليدية التي تتسم بالخضوع للمؤسسات، والذي يقابله في إطار الاقتصاد الاجتماعي الجديد، آليات مختلفة تعتمد على الإدارة الذاتية والتعاون في العمل.

وتضم الشبكات البديلة الجديدة، المكونة من تشابك الحركات، أطرافاً متنوعة ذوي دوافع مختلفة. فالدافع لمنظمات العاطلين عن العمل، هو توفير الاحتياجات الأساسية لأعضائها، مما يفرض على هذه المنظمات مواجهة التناقض بين استجداء إعانات مالية بشكل منهجي، أو عدم الاعتماد على هذه الإعانات عن طريق المبادرة بخلق مشاريع قائمة بذاتها. وتؤدي الإستراتيجية الأولى، أي إستراتيجية التعبئة الاجتماعية من أجل المطالبة بإعانات، إلى الحفاظ على سياسة تعيد بشكل دائم خلق الشروط المسببة لها. أما الإستراتيجية الثانية فتؤدي إلى تخلي منظمات العاطلين عن المطالبة بإعانات، مما يجعلها توسع نظام الشبكات بهدف توسيع نطاق المبادرات لعمل مشاريع مختلفة تستهدف أيضاً المنافسة في السوق.

أما العاملون في الشركات التي استولى عليها العمال بعد إفلاسها، أو بعد أن هجرها أصحابها، فهم على العكس من منظمات العاطلين، يسعون إلى تقوية مجتمعات العمل الخاصة بهم. فهم يدخلون في شبكات مع أطراف أخرى بهدف توسيع نطاق نشاطهم وتقوية الروابط التضامنية والسياسية لتعويض ضعفهم القانوني والاقتصادي.

أما فيما يتعلق بمجالس الأحياء، فالدافع وراء تبنيها الاقتصاد الاجتماعي التضامني، لا يخلو من صبغة سياسية مقصودة، فهو طريقة للتشابك مع حركات أخرى، وشكل للتدخل في فضاء المدينة، وتطوير بديل للنظام الاقتصادي القائم.

أ. حركات العاطلين عن العمل Los piquetes
تتكون حركات العاطلين عن العمل من عشرات من المجموعات التي تستجيب لتوجهات سياسية مختلفة. فبعض هذه المجموعات متصل بأحزاب سياسية أو نقابات، بينما تفضل بعضها أن تكون مستقلة، في الوقت الذي تتبع فيه أخرى لبعض القادة الشعبويين، مما يجعل كلمة واحدة وهي كلمة بيكيتيروس، تغطي إتجاهات شديدة الاختلاف. ووفقاً لتقديرات مجموعات البيكيتيروس أنفسها، يصل مجموع المشاركين في منظمات العاطلين في الأرجنتين إلى أكثر من مائة ألف شخص. وقد يبدو هذا الرقم هزيلاً بالنظر إلى ملايين العاطلين، والذين يمارسون أعمالاً مؤقتة. لكن تأثير هذه المجموعات يأتي بالأساس من طبيعة حركتها في حد ذاتها، أكثر مما يأتي من حجمها. فعمليات إغلاق الطرق التي تقوم بها هذه المجموعات لها تأثير سياسي قوي، تضاعف منه وسائل الإعلام. فهم يقومون بعمليات واسعة التأثير تتباين مع الأهداف المحددة المحفزة للحركة مثل الحصول على إعانات بطالة نقدية أو عينية.

لكن على الرغم من أن نشاط بعض مجموعات البيكيتيروس ينحصر في محاولة تحقيق هذه المطالب، يوجه بعضها الآخر طاقته إلى نشاطات مختلفة، فيقومون بتطوير حركات ذات مدى أوسع في قلب المجتمعات الإقليمية المنغرسين فيها، مثل إنشاء مطاعم، ومراكز تعليمية، وبشكل خاص المبادرة بتأسيس مشروعات منتجة، يقومون خلالها باستخدام المعونات المالية والعينية التي يحصلون عليها نتيجة لحركتهم. ومن هذه المشروعات، إنشاء بساتين فاكهة وخضر جماعية، وبيع المنتجات من خلال شبكات التوزيع البديلة، وعمل وتصنيع منتجات نسيج يدوية وصناعية وغيرها. بهذا لا يمثل إغلاق الطرق الذي تقوم به هذه الحركات سوى قمة جبل الثلج الذي يتكون من بناء اجتماعي أكثر تعقيداً.

وعلى الرغم من عدم وجود معايير مشتركة في مختلف مجموعات البيكيتيروس حول طبيعة المشروعات التي يبادرون بتكوينها، ومدى قابليتها للتطبيق، وكيفية تطورها في المستقبل، إلا أن تنظيم هذه النشاطات الاقتصادية اكتسب أشكالاً تعاونية قائمة على الإدارة الذاتية. يطرح البعض نظريات جذرية حول طريقة توزيع ناتج هذه المشروعات المدارة ذاتياً، فيرفضون تماما توليد أي فائض، أو يقومون بتوزيع الفائض على المنتجين وأسرهم. وهذه النظرية تستند في الأصل على تصور أوسع يطابق بين مفهوم الفائض الاقتصادي، ومفهوم فائض القيمة والربح الخاص. ودمج المفاهيم هذا، هو ما يدفع إلى رفض توليد أي فائض حفاظاً على المبدأ الأخلاقي الرافض للرأسمالية. ومع أنه يمكن مناقشة هذه الفكرة، من الناحية الاقتصادية والفلسفية، إلا أن لها تأثيراً عملياً كبيراً على حركة البيكيتيروس. فعدم خلق شروط تساعد تلك المشروعات الإنتاجية المدارة ذاتياً على الاستمرار اقتصادياً على المدى المتوسط والبعيد، يجعلها تعيد توليد الظروف التي تضطرها للاستمرار في طلب إعانات من الدولة. لهذا السبب فإن لهذه النظرية تأثيراً كبيراً في الحفاظ على هوية المجموعة، وتحفيز نشاط البيكيتيروس، أهم من أثرها الاقتصادي.

على العكس من ذلك، تركز مجموعات أخرى من العاطلين على تطوير مشاريع مدارة ذاتياً قادرة على الاستمرار مع الوقت. مثال على ذلك مجموعة البيكيتيروس الموجودة في منطقة بوينوس آيرس الكبرى، وهي نواة شبكة واسعة من عائلات العاطلين، أغلبهم من السكان الأصليين القادمين من شمال مقاطعة سانتا في. وتركز هذه المجموعة نشاطها في إنتاج الخضر والفاكهة في المنطقة التي تنتج الجزء الأكبر من استهلاك بوينوس آيرس من المنتجات الزراعية. وتسعى هذه المجموعة إلى تطوير مشروعات مستديمة، عن طريق توليد فائض يؤمن لها التوسع الاقتصادي واستمرار الإنتاج، مما يحقق لها الاستقلال عن الإعانات الحكومية. يقوم توليد الفائض في هذه الحالة بتقوية العلاقات الاجتماعية والجماعية، ولا يتطابق مع الربح الرأسمالي.

وبهذا الشكل، تكون المشاركة في مجموعة بيكيتيس وسيلة للحصول علي موارد لإقامة المشاريع المدارة ذاتياً وليست هدفاً في حد ذاته، مما يجعل هوية هذه المجموعات كمجموعات عاطلين أهم من هويتها الناتجة عن نشاطها كأحدى مجموعات البكيتيروس. وقد لوحظ أن جميع مجموعات البيكيتروس، حتى تلك المرتبطة بأحزاب سياسية، تتحول تدريجياً إلى تطوير مشروعات إنتاجية وتستكشف إمكانيات تطوير اقتصاد جديد يتجاوز الاقتصاد الرأسمالي عن طريق الشبكات الاجتماعية.

ب. عمال الشركات التي تم الاستيلاء عليها
إن بروز حركة الاستيلاء على الشركات في المجتمع يعد أمراً حديثاً. منذ منتصف التسعينيات بدأت بالظهور حركات عمالية، حاولت إعادة تنشيط شركات متوقفة عن العمل. وهناك ملامح مشتركة تميز هذه الشركات، فهي قد تأثرت بالاستيراد، أو عانت من مشاكل في التصدير، ومعظمها في حالة إفلاس، مطاردة من الدائنين، أو هجرها أصحاب العمل. ويكون عمال هذه الشركات دائنين ومنكوبين، فعادة ما يسبق انهيار هذه الشركات إنهاء عقود العمل، فيتم تخفيض الأجور، ودفع المرتبات عن طريق كوبونات، وعدم وفاء المؤسسة بالالتزامات الإجبارية الخاصة بنظام الضمان الاجتماعي…الخ. يفترض استيلاء العمال على الشركات التحول إلى نظام قانوني جديد، يأخذ فيه العمال على عاتقهم عملية الإنتاج، ويقومون بعمل عقود مع الموردين والزبائن، حتى يستطيعوا تأمين رأس مال، كما يقومون بتحديد أجر أدني لعملهم، يتم أحيانا مزجه بمدفوعات عينية أو الحصول على سلع أو بضائع.

وقد سبق معظم حالات الاستيلاء على الشركات من قبل العمال، قيام أصحاب الأعمال بهجر هذه الشركات بشكل جزئي أوكلي. في حالات الهجر الجزئي، من الممكن أن يستمر الملاك السابقون كشركاء، وفقاً للشكل القانوني الجديد الذي تقوم على أساسه الشركة. وهناك أشكال قانونية متنوعة لهذه الشركات، وإن كان الشكل السائد هو التعاونيات. فقد ظهرت أشكال جديدة مثل “التأميم تحت سيطرة عمالية”، لكنه لم يتحقق تماماً. وقد ظهرت كذلك أشكال أكثر تقليدية، مثل تأسيس شركات مساهمة. يظل على العمال في أيٍ من هذه الأشكال، أخذ مسئولية الإدارة على عاتقهم، ولهذا فعليهم إعادة تعريف دورهم التابع والخاضع، سواء في العقد أو في تنظيم العمل. وبالإضافة لتحمل العمال مهام في مسئولية الإدارة، تتطلب هذه الأشكال الجديدة إعادة تعريف علاقة العمال بالنقابة.

وتشمل حركة الاستيلاء على الشركات تيارات، أطراف ومنظمات مختلفة، تتضامن وتتجدد منذ الانهيار المؤسسي الذي شهدته الأرجنتين في ديسمبر 2001 حيث كان الاستيلاء على الشركات يعتبر الحل المناسب لتدعيم جهود المجتمع الإنتاجية في قلب الأزمة الاقتصادية. وقد قامت المنظمات المختلفة المشاركة في الحركة بإمداد العمال بالمستشارين القانونيين، الفنيين والسياسيين.

وقد أعاد العمال الذين قاموا بالاستيلاء على الشركات، طرح مسألة الهيراركية الخاصة بحق العمل والملكية الخاصة. فجعلوا الحق في العمل أمراً مركزياً ووضعوا الوظيفة الاجتماعية للملكية محل نقاش، وذلك في مواجهة قيم المجتمع التجاري، التي تعطي الأولوية لحق الملكية. ولا يتعلق الأمر بمناقشة نظرية بحتة، لكنه تمت ترجمة هذه الأفكار إلى إجراءات قانونية غير مسبوقة، أعطت الأولوية للحفاظ على مصادر العمل في مواجهة إجراءات الإفلاس وتصفية وسائل الإنتاج التي لها الأولوية في القانون التجاري.

إن الاستيلاء على الشركات يعد مثالاً على النضال من أجل توسيع نطاق الحقوق الاجتماعية. وهو مثال يجبرنا على أن نتأمل في تأثيره على المجتمع بشكل أعمق من مجرد قياس حجم الحركة في حد ذاتها. في الواقع، إن الفجوة بين حجم الحركة وتأثيرها السياسي والاجتماعي ضخم، حيث يوجد عدد قليل من الشركات، حوالي 150 شركة، متفرقة في أنحاء البلاد، مختلفة من حيث نوع النشاط، ومن حيث الخلفية السياسية التي يأتي منها العشرة ألاف عامل العاملون بها، لكنها تضع نظام علاقات العمل في مجمله محل تساؤل. فقد استطاع العمال بإدارتهم حفنة من الوحدات الإنتاجية، كبح سلاح أصحاب الأعمال الأقوى الذي يلجئون إليه في المفاوضات الجماعية كملاذ أخير، ألا وهو إغلاق المؤسسة كوسيلة للضغط على العمال. وأصبح في استطاعة العمال مواجهة هذا التهديد بإمكانية احتلال وإدارة الشركات التي تعاني من صعوبات. من هنا، لا يجب قياس قوة حركة الاستيلاء على الشركات عن طريق حجمها المحدود فقط، إنما عن طريق تأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي الأوسع.

ج. مجالس الأحياء
لقد كانت مجالس الأحياء التي تم تنظيمها بشكل تلقائي في بوينوس آيرس وغيرها من مدن الأرجنتين الإجابة الأكثر إبداعاً وتجديداً على الانهيار المؤسسي في عام 2001. وتعبر مجالس الأحياء عن إمكانيات التنظيم الذاتي لدى المجتمع، وعن إمكانيات بناء روابط اجتماعية، غير معترف بها في قمة النظام السياسي، حيث تصور على أنها عوامل عدم استقرار، خاصة لصعوبة التحكم في هذه الحركات واحتوائها داخل الهيكل المؤسسي القائم. إن هذه الأشكال الجديدة التي يسيطر بها المواطن على الفضاء العام المحيط به، والتي تحركها يوتوبيا تحقيق الديموقراطية المباشرة، تضع أشكال التمثيل السائدة قي الديموقراطية التمثيلية محل تساؤل. وهي تتباين بشدة مع خصخصة الفضاء العام السائدة في التسعينيات. وتتشابك العمليات المباشرة التي تقوم بها مجالس الأحياء، والتي تكون مرتبطة بأمور سياسية عامة، وتحمل مطالب للسلطات، تتشابك مع احتياجات محلية مثل مسألة توفير مستلزمات للمستشفيات والمراكز الطبية، وتخصيص بساتين للزراعة العضوية، وتوفير إعانات للعاطلين. وتخلق مجالس الأحياء مشروعات إنتاجية مستقلة، تتبنى أهداف تتجاوز مستوى السياسة المؤسسية، وتسعى إلى التدخل في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، عن طريق تطوير تجارب اقتصادية جديدة، تبحث عن حلول لأزمات نظم التعليم والصحة….إلخ.

وتقوم مجالس الأحياء بإضافة عامل مهم لتطور الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ألا وهو فتح مناقشات سياسية حول أولويات الاستهلاك، وتوزيع الممتلكات والخدمات. وهذا العامل متوفر أيضاً في حركات الاستيلاء على الشركات ومجموعات البيكيتيروس. لكن بينما تحرك الاحتياجات هاتين المجموعتين، تكون المشروعات المدارة ذاتياً نتاج اختيار أيديولوجي في مجالس الأحياء. يتضح هذا التسييس في محاولة مجالس الأحياء، تعميق علاقات ملموسة مع الحركات الاجتماعية الأخرى، سواء من أجل الدفاع عن المكتسبات أو لتحديد نشاطات اقتصادية بديلة.

3. توترات في الاقتصاد الاجتماعي
يعد اندماج الحركات في الاقتصاد الاجتماعي أمراً غير معتاد في مجال كانت تسيطر عليه التعاونيات. وهذه الأخيرة تتمتع بشكل مؤسسي تشاركي، ويخضع تكوينها وأسلوب عملها لضوابط عامة، وتستمد شرعيتها من عملها في مجال الاستهلاك، والإنتاج، وتوفير خدمات عامة، وخدمات مالية للمناطق الحضرية والريفية. وقد تأثرت التعاونيات بشدة بالإصلاحات الليبرالية التي تمت في التسعينيات خاصة في القطاع المالي، إلا أنها استطاعت أن تنشأ في مجالات خضعت للخصخصة، مثل توزيع الكهرباء، وخدمات التليفونات التي تديرها تعاونيات المستهلكين، في مناطق عدة من الأرجنتين.

وكان تضاعف أعداد هذه التعاونيات في التسعينيات، من العوامل التي أعطت مرونة للشركات التي استغلتها لتتجنب التكاليف التي تفرضها عقود العمال. فبما أن الشركاء في تعاونية ليسوا أجراء، فبالتالي على كل منهم أن يتحمل تكاليف الرعاية الصحية الخاصة به. لهذا كثيراً ما ارتبطت التعاونيات بالاحتيال على العمال مما أثر في شرعيتها. وقد كان سلوك التعاونيات في التسعينيات دفاعياً، حيث سعت، في سياق كان يسود فيه خطاب إمبريالي مساند للإصلاحات الليبرالية، لأن تقدم نفسها كشركات خاصة، أكثر من كونها شكلاً تشاركياً تضامنياً يشمل منتجين مستقلين كما كانت في بدايتها.

هذا التوتر الداخلي الذي أصاب الحركة التعاونية، انتقل إلى علاقتها بالحركات الاجتماعية الجديدة. وتقترب الحركة التعاونية من الحركات الاجتماعية، عندما تعطي الأولوية لقيم التعاون التقليدية، وتبتعد عنها عندما تتبنى الخطاب الإمبريالي. ويتشابه التوجه الأول للحركة التعاونية مع ذلك الذي تدعمه الحركات، التي ترى في التعاونيات طريقة لتجاوز الاغتراب والاستغلال اللذين يتعرض لهما العمال. وتتطابق هذه الأهداف مع تلك التي حفزت الحركة التعاونية عند نشأتها. وتقوم الحركات بنبذ النشاط التعاوني كلما ارتبط بنشاط الشركات الخاصة، حيث تعتبر ذلك توجها مواليا للرأسمالية.

وبالنسبة للحركات، يحمل تكوين التعاونيات طابعاً استقلالياً بحتاً، حيث يسمح لها أن تعتمد ككيان قانوني، ويمكنها قانونياً من القيام بنشاطات اقتصادية. فقرار تكوين تعاونية، منظمة أهلية أو منظمة غير حكومية يتم على أساس تكلفة الفرصة. اقتصادياً، هذا يعني أن اختيار أي من هذه الأشكال يتطلب تكاليف مادية، من الصعب أن تتحملها مجموعات، تستطيع بالكاد توفير المتطلبات الأساسية لأعضائها. أما على الجانب المؤسسي، فتكوين كيان قانوني يفترض أن يتم خصم بعض المبالغ من أعضاء الحركة، كما يفترض أشكالاً تنظيمية ذات قواعد مختلفة عن تلك السائدة في الحركات الاجتماعية. فهذه الأشكال التنظيمية تفترض وجود نظام تمثيلي هيراركي يتعارض مع طبيعة الحركات. مما قد يزيد الخلاف السياسي داخل الحركة.

وتوجد في الحركات مواقف مختلفة من الأشكال التنظيمية للاقتصاد الاجتماعي. فيفضل عمال الشركات التي تم الاستيلاء عليها تبني الشكل التعاوني، الذي يسمح لهم بتقوية موقفهم القانوني. لذلك نجد أن الشكل التعاوني هو السائد بينهم، وإن لم يكن الوحيد. لكن التوتر بين قيم الحركة التعاونية كشكل تضامني يجمع منتجين مستقلين من ناحية، وبين القيم التي تقتضيها المنافسة في السوق كشركة من ناحية أخرى، يزداد عندما تعتمد هذه التعاونيات على أسواق موجودة بالفعل لبيع منتجاتهم وخدماتهم.

وقد شككت بعض أحزاب اليسار التي تؤيد “التأميم تحت سيطرة عمالية” في الشكل القانوني للتعاونيات. وكانت هذه الأحزاب تستهدف إعادة توجيه دور الدولة في الاقتصاد، وفك الارتباط ما بين دخل العمال والتأمين الصحي والمعاشات. وقد أدي هذا الموقف إلي تعقيد الحل القانوني لتملك العمال لأملاك الشركات.

أما بالنسبة لمنظمات العاطلين، تعد التكلفة المالية (تكلفة الفرصة الاقتصادية) التي يجب تحملها لإضفاء صبغة قانونية علي المشاريع التي أسسوها، أمراً حاسماً في اختيار التحول إلى مؤسسة من عدمه، خاصةً إذا كانت هذه المشروعات تقوم بالكاد بتوفير الاحتياجات الأساسية لأعضائها، مما يؤثر علي بقاء هذه المشاريع داخل أو خارج الاقتصاد الرسمي. وترتفع إمكانيات الاستمرار علي هامش الاقتصاد الرسمي بشكل كبير، عندما ترتفع تكلفة التحول إلى مؤسسة وعندما يتزايد النشاط الاقتصادي غير الرسمي كنتيجة للأزمة.

وبالنسبة للمشروعات التي تقوم بها مجالس الأحياء، فان تكوين التعاونيات يشكل جزءاً من حوار أوسع حول مدلول أشكال التنظيم الاجتماعي. فيلاحظ انه يتم استرجاع التقاليد الفوضوية التي تقوم بتكوين مجموعات ذات اهتمامات مشتركة وإدارة ذاتية قادرة علي تعزيز قيم المشاركة في اتخاذ القرار بشكل أفقي. وتقترب هذه المفاهيم من القيم الأصلية للحركة التعاونية، ومن إمكانيات وضع تصور في الحاضر للأشكال التي يمكن أن يكون عليها مجتمع يتمتع بدرجة أعلي من المساواة في المستقبل. بالإضافة إلي ذلك، في إطار الحوار حول الاقتصاد التضامني، تدور مناقشات حول أشكال بديلة للنشاط الاقتصادي مرتبطة بحماية البيئة، والتجديد المديني، وقيم التجارة العادلة وبناء الشبكات التضامنية.

4. اقتصاد جديد
ويشكل التسييس الحادث داخل الحركات الاجتماعية الجديدة، فارقاً محورياً بالنسبة لما كان عليه الاقتصاد الاجتماعي خلال التسعينيات. في هذا الوقت، ظهر الاقتصاد الاجتماعي كشكل تكاملي لانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، وكانت تحث عليه منظمات الإقراض الدولية، التي كانت تشجع تطوير هذا النوع من الاقتصاد في الوقت الذي كانت تشجع فيه اقتصاد السوق. فكان البنك الأمريكي للتنمية والبنك الدولي، يقدمان الدعم لمشروعات صغيرة مستقلة، لكي تقوم بامتصاص الصدمات الاجتماعية لما كان يصورانه كتكلفة التحول نحو اقتصاديات السوق الحديثة.

وجعل انهيار هذا الوهم الأطراف الذين عانوا من هذا النموذج يلجئون إلي آليات مشابهة، لكن تنفيذها يتم بطريقة معارضة لهذا النموذج. فأنشطة الاقتصاد الاجتماعي أصبحت تقدم كبديل في مواجهة فشل اقتصاد السوق. فإذا كانت في السابق تحل محل تدخل الدولة، فهي الآن تسد النواقص التي يعاني منها اقتصاد قائم علي الشركات الخاصة، وغير قادر علي الاستجابة لاحتياجات السكان. فأصبح الاقتصاد الاجتماعي نموذجاً بديلاً لاقتصاديات السوق بعد أن كان نموذجاً بديلاً لتدخل الدولة.

وفيما يتعلق بالحركات الاجتماعية الجديدة، تنبع مشروعات الاقتصاد الاجتماعي من عملية التعبئة والمشاركة نفسها، كما لا يمكن فصلها عن الحركات وعن المحتوي المتمرد على الثقافة السائدة الذي تتسم به تلك الحركات. فهي تعكس بزوغ قيم جديدة، هي المساواة والتضامن والتعاون، كقيم مضادة للفردية الأنانية، التي تميز الإمبريالية السائدة في العقد السابق. يتضح المحتوي المتمرد على الثقافة السائدة، في الطابع السياسي الذي تتخذه عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، في الاقتصاد الجديد، والتي تتخذ اتجاه مضاداً للتصور التقليدي للأنشطة، والذي تتم خلاله الاستجابة للاحتياجات في المجال الاقتصادي عن طريق المرتب.

في الاقتصاد الاجتماعي الجديد، يتصل العمل بفضاء عام، لا تكون فيه مكافأة الأفراد نقدية فقط. وتكون أنشطة الاقتصاد الاجتماعي، عامة، وتختلف عن نشاطات المجال الخاص، المميزة للسوق أو للاقتصاد العائلي. كما تختلف أيضاً عن النشاطات التي تقوم بها الدولة، التي علي الرغم من كونها عامة، إلا أن مكافأة العاملين بها تكون نقدية بالأساس.

في المشروعات التي تقيمها حركات البيكيتيروس، ومجالس الأحياء، وعمال الشركات التي تم الاستيلاء عليها، يظهر تطور الإمكانيات في النشاطات، نفسها أما التعاون فينبع من تشابه التجارب، كما ينبع من إقامة قنوات بين الحركات. وينبع الاحترام من قاعدة عدم وجود تراتبية بين أعضاء كل حركة, ويكون التضامن هدفاً وشرط وجود في نفس الوقت. أما الثقة فتنبع من الانتماء للحركة في حد ذاته.

إن السياق الحالي لتطور الرؤية الجديدة للاقتصاد الاجتماعي في الأرجنتين يتميز، كما سبقت الإشارة، بتزايد البطالة والفقر. والإجابات التي قدمها الاقتصاديون التقليديون لحل هاتين الإشكاليتين، عفا عليها الزمن. فهم يعتبرون أنه يمكن حل مشكلة البطالة فقط عن طريق النمو الاقتصادي, ولذلك حتى لو أمكن تخطي الأزمة، علي المدى القصير والمتوسط لا يمكن تخفيض نسبة البطالة بشكل مطلق إلا علي المدى الطويل. وهذه الحلول بعيدة كل البعد عن التوقعات الاجتماعية. فبالنسبة للحركات، فإن المشروعات المدارة ذاتياً تلبي الاحتياجات المباشرة، فهي إذن تعتبر وسيلة للإعاشة تستجيب لما تطرحه الأزمة من أمور ملحة.

لكن بالإضافة إلي الفقر والبطالة, هناك ملمح آخر معروف، يميز الوضع الاقتصادي والاجتماعي الراهن، ألا وهو انتشار الأشكال غير الرسمية، والذي يتكشف من البيانات التي يتم جمعها خلال استطلاعات الرأي في المنازل. ففي مايو 2002، وُجد أن 60% من العاملين يعانون من ظروف عمل سيئة وغير مستقرة. وتمتلئ الميادين والحدائق العامة والمراكز الكبرى بالمدن، يومياً، بأشخاص يأتون لبيع ناتج عملهم، أو حتى أمتعتهم في أكشاك غير ثابتة. وجود هذه الأسواق غير الرسمية، يجعل المنظر في الأرجنتين مشابها لدول أخري في أمريكا اللاتينية.

علي الرغم من ذلك، تتمتع الأرجنتين ببعض الخصوصيات. فإذا كان اتساع حجم القطاع غير الرسمي يجعلها تقف علي صف واحد مع باقي دول المنطقة من ناحية، فان نسبة البطالة المرتفعة تجعل السوق الأرجنتيني مشابهاً لسوق البلاد في دول المركز. فكأن الأرجنتين تجمع في وقت الأزمة ما بين آليتي ضبط سوق العمل؛ أي عن طريق البطالة، كما في أوروبا، والإصلاح عن طريق اللجوء إلي الأشكال غير الرسمية كما في أمريكا اللاتينية.

ورغم أن أشكال الاقتصاد الاجتماعي ليست جميعها ذات شرعية رسمية – فتطورها لا يختلف تماماً عن الأشكال غير الرسمية— فيجب مع ذلك تحديد الفوارق، خاصةً حيث وأن الأشكال غير الرسمية تعرف أحياناً كنوع من الانحراف عن الاقتصاد الرسمي، مما يجعل سياسات الدول تتذبذب ما بين تجريمها، أو إدخالها في إطار الاقتصاد الرسمي أو التسامح معها.

وحتى مع وجود بعض الخصائص المشتركة بين الاقتصاد غير الرسمي و”الاقتصاد الاجتماعي والتضامني”، فإن هذا الأخير يظهر كيوتوبيا جديدة للتنمية، قادرة علي حل المشكلات التي لم يستطع التخطيط التقليدي للاقتصاد حلها. وبعيداً عن إتسام الاقتصاد الاجتماعي بطابع يوتوبي من عدمه، فإن ما أثار إهتمام الأطراف المختلفة للمشاركة في هذه اليوتوبيا، هو بالأساس تلبيتها للاحتياجات العاجلة، وليس قدرتها علي تخيل “عالم جديد سعيد”. فبالنسبة لأولئك المنغمسين في الفقر والبطالة، يبدو أسلوب الإدارة الذاتية بالمشاركة آلية قادرة علي توفير الطعام، وتمكينهم من استخدام قوة عملهم. وتتحول هذه الاحتياجات العاجلة إلي المحرك الذي يحرك تجارب الإدارة الذاتية. فالعمال الذين يقومون بالاستيلاء علي شركات هجرها أصحابها، يقومون بذلك لأنهم لم يجدوا عمل في مكان آخر؛ والعاطلون الذين ينضمون إلي مشروعات مدارة ذاتياً، يدفعهم إلي ذلك ظروفهم نفسها وسعيهم لتوفير قوتهم.

5. إعادة توجيه المطالب المقدمة للدولة
باختصار، يختلف التنظيم المستقل للأطراف العاملين في الاقتصاد الاجتماعي الجديد، عن ذلك الذي ظهر في التسعينيات أمام انسحاب الدولة. ويمكن فهم الاقتصاد الاجتماعي الجديد فقط إذا انتبهنا بشكل خاص إلى الطابع السياسي الملاصق للنشاطات الاقتصادية، وهو طابع لا يجب أن يكون غريباً علي إعادة بناء الدولة. في التحليل الأخير، يستعين الاقتصاد الاجتماعي بالموظفين فيما يتعلق بمهام وأهداف الدولة، فهو يجبرهم علي عمل ما يجب عليهم عمله، فيما يتعلق بالمجتمع، ويحدد لهم كيف وأين يخصصون موارد الدولة من أجل تعزيز تطور الاقتصاد الجديد، عن طريق توجيه المصادر، وخلق أشكال قانونية واجتماعية تدعم الاقتصاد الجديد.

إن الأشكال القانونية لتنظيم الأشكال الاقتصادية –الشركات الخاصة والأشكال التعاونية والمجتمع المدني- تبدو اليوم محدودة لاحتواء قوى الاقتصاد الاجتماعي التضامنية المحررة، مما يتطلب إيجاد أشكال تنظيمية قانونية جديدة قادرة علي دفعها للتطور. كما أن إعادة تعريف علاقة الحركات بالدولة، تتضمن مراجعة مطالب الحركات، مما يجعل بناء الاقتصاد الاجتماعي يتم في إطار اختيارات مختلفة. فعلي الرغم من استمرار المطالبة بإعانات فردية، إلا أن حركات البيكيتيروس تتجه بشكل متزايد لتوجيه، علي الأقل، جزء من هذه الموارد، لدعم مشروعات جماعية. بل إن بعض الحركات تطالب بتوفير إعانات لمشروعاتها الجماعية مباشرة،ً بدلاً من الإعانات الفردية، في الوقت الذي تعتزم تجنب طلب الإعانات، إذا ما أصبحت مشروعاتها مستديمة. وأخيراً, هناك حركات ترفض أي نوع من الإعانات.

ويلاحظ هذا التنوع بوضوح بين عمال الشركات المستردة، فإذا كان بعضهم يؤيدون الاستمرار في المطالبة بإعانات، فهم يوجهونها إلي التنظيم الجماعي، من أجل ضمان المساواة في الدخل بين جميع الأعضاء. وعندما يتجاوز العمال مستوي توفير الحاجات الأساسية، فان مطالبهم تتخذ منحى مختلف, فيطالبون بموارد تجعل الشركة المدارة ذاتياً قائمة اقتصادياً. فتصبح لهم مطالب مالية، مثل الحصول علي قروض، أو مطالب فنية أو مؤسسية من أجل تخطي ضعفهم القانوني.

تتميز مطالب مجالس الأحياء المتعلقة بالرعاية الاجتماعية بأنها أوسع وأكثر تنوعاً. وحتى عندما تلجأ مجالس الأحياء إلى مطالبة الحكومة بإعانات، تتركز مطالبها علي إعطاء حقوق للمواطنين مرتبطة بالملكية الجماعية للفضاء العام-أماكن محتلة وميادين وحدائق عامة وأسواق بلدية- أو بالإدارة التضامنية – مطاعم جماعية وتعاونيات— أو بالتدخل الثقافي.

باختصار، توجه الحركات حالياً الإعانات لدعم مشروعاتها، التي تفترض بناء اجتماعياً وجماعياً واسع المدى. من ناحية أخري، يبدو أن الدولة، خاصة منذ تولي الحكومة الجديدة، توسع من طاقتها، لاتخاذ إجراءات قضائية ضد المطالب الاجتماعية. وحتى عندما تقوم الدول بتقديم إعانات كبيرة، فان هناك قطاعاً حكومياً، يقوم بتجربة طرق بديلة عن طريق تشجيع نشاطات تدخل في إطار الاقتصاد الاجتماعي والمبادرات المحلية للنمو. وعلى الرغم من كونه أمراً جديداً، فإن إعادة توجيه بعض الأطراف الحكومية، يمكن من خلق مجالات تلاقي بين المبادرات الاجتماعية والدولة.

ويواجه هذا التطور الذي تمر به الحركات، مشكلات داخل الحركات، التي كانت تسعي في الأصل إلي إعاشة أعضائها، والتي يجب أن تعيد تعريف نفسها للحفاظ علي استمرارها. وهذه المشكلات ليس اقتصادية فقط بل اجتماعية وسياسية أيضاُ. فهي تؤثر في علاقة المنظمات بأعضائها وبالمنظمات الأخرى، كما بالكيانات الجديدة، التي في طور البناء، خاصة وأن الحركات تتواصل في شبكات، لتقوم بتطوير الاقتصاد الجديد.

6. الحاجة لمراجعة نظرية
في النهاية، يمكن استخلاص بعض المسائل من هذا العرض الموجز. والتي يجب أن تتجاوز تلك الناتجة عن النظريات التقليدية, التي تعتبر التجديدات التي أتت بها الحركات الاجتماعية في الأرجنتين شذوذاً . فبالنسبة للاقتصاديين التقليديين، علي سبيل المثال، ستكون الإجابة بالسلب على سؤال استمرار هذا الاقتصاد الجديد. وليست هذه الإجابة نتيجة استكشافهم إمكانيات تطور الاقتصاد الجديد، وإنما لاختلافه عن نموذج الشركة الخاصة، المطروح كعامل اقتصادي أساسي وفقاً لطريقتهم في التفكير. لكن في الأوساط الماركسية أيضاً ، ستكون الإجابة عن قابلية الاقتصاد الجديد للاستمرار تقليدية. فبشكل عام، في الماركسية، يعتبر استكشاف طرق إنتاجية جديدة، أمراً من أمور المستقبل، قابل للتطبيق في مرحلة لاحقة للثورة الاجتماعية وليس في الحاضر ومن داخل المجتمع الرأسمالي وبالتالي تصادر على مغزاها وعلى أهميتها.

كما أن هذه الرؤى لا تساعد لفهم الأشكال الإنتاجية الجديدة التي طورتها الحركات الاجتماعية. وفي الحقيقة, فان الحركات لا تهتم كثيراُ بهذه الرؤى القديمة حيث إنها، في انشغالها بتوفير سبل إعاشتها اليومية وبتطبيق مبادئها، تبحث عن إيجاد حلول عملية لما تنكره النظريات التقليدية: أي إمكانيات وجودها.

ويمكن فقط تصفية هذا الانفصال بين النظرية والممارسة عن طريق البحث والتأمل في هذه الممارسات الجديدة. لهذا يجب أن نبدأ بتنحية الإجابات التقليدية جانباً، والالتفات إلى الحركة الحقيقية للأشياء.

ــــــــــ
* نشر هذا مقال في مجلة “هيرامينتا” الإلكترونية للحوار حول أفكار الماركسية.
**بيكيتيروس هو لفظ يطلق في الأصل على النشطاء في الحركات الذين يمنعون كاسري الاضرابات من العمل والذين قد يلجئون إلى العنف في بعض الأحيان وتشير هذه الكلمة في هذا النص إلى مجموعات العاطلين عن العمل.