بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الجبهة الشعبية والبديل اليساري المقاوم في فلسطين

يترافق صعود حماس الكاسح على جبهة المقاومة الفلسطينية مع تراجع لليسار وفي القلب منه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. دينا سمك تلقي نظرة على تاريخ الجبهة مدافعة عن ضرورة البديل اليساري المقاوم في فلسطين.

في الوقت الذي تتسلط فيه أنظار العالم صوب حركة حماس لتتابع ما سيثمر عنه وصولها إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، تبرز إلى المقدمة محدودية ما يمكن أن تحققه حماس. فهي في الحقيقة، لولا خطابها الراديكالي حول المقاومة وعدم الاعتراف بإسرائيل، ليست أكثر من قوة إصلاحية على أفضل تقدير. ومع متابعة الضغوط التي تتعرض لها حركة حماس والتنازلات المطلوبة منها، أو تلك التي قد تضطر إلى القيام بها، كَثر الحديث داخل الأراضي المحتلة وخارجها عما إذا كانت فتح هي البديل الوحيد المطروح على الساحة.

وفي الوقت نفسه، قامت القوات الإسرائيلية باقتحام سجن أريحا للقبض على أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي أصبح مصيره مجهولاً منذ ذلك الحين، لتُعيد الجبهة الشعبية إلى مقدمة الأخبار. لكن الجبهة الشعبية، أو البديل اليساري الذي استطاع أن يكون في مقدمة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كانتفاضة من أسفل نجحت مع الوقت في أن يكون لكل فلسطيني دور فيها، لم تعد هي نفسها تاركة فراغاً هائلاً على جبهة اليسار الفلسطيني المقاوم.

النشأة

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هى في الحقيقة نموذج لكل الحركات اليسارية التي ظهرت في نهاية الستينيات في المنطقة العربية: تعاني من نفس المشكلات والأمراض التي عانت منها الحركات اليسارية المشابهة على الرغم من رغبتها الحقيقية في النضال من أجل العدل والحرية. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي منظمة ماركسية سياسية عسكرية نشأت من رحم حركة القوميين العرب عام 1967. وحركة القوميين العرب هي حركة أنشأها جورج حبش عام 1953 على أساس قومي وكان لها عدة فروع في عدد من البلدان العربية.

وقد تبنت حركة القوميين العرب أفكار علمانية ذات طابع اشتراكي (كانت أكثر تأثراً بالجيفارية)، كما تبنت فكرة الكفاح المسلح. وفي عام 1966، قامت الحركة بتكوين كتيبة أبطال العودة مع جيش تحرير فلسطين كجناح عسكري لها. وبعد هزيمة عام 1967، توحدت هذه المجموعة مع مجموعة شباب من أجل الثأر وجبهة تحرير فلسطين بقيادة أحمد جبريل وهي مجموعة ذات طابع قومي هي الأخرى كانت مدعومة من سوريا في ذلك الوقت. وهكذا تم تكوين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عام 1968 تحت قيادة جورج حبش.

الجبهة والأنظمة العربية “القومية”

نشأت الجبهة الشعبية إذن على أساس قومي أولاً، وعلى فكرة الكفاح المسلح ثانياً. وهو ما وضعها رهينة الأنظمة العربية “القومية” التي تدعمها مادياً وبخاصة سوريا، وإن كانت قد تمردت على البعض منها. وعلى الرغم من أن الجبهة الشعبية أعلنت نفسها في عام 1969 منظمة ماركسية لينينية، وأكدت في مؤتمرها ذلك العام أنها لا تفصل بين نضالها من أجل تحرير فلسطين وبين الانتفاضة الأوسع التي تشهدها المنطقة ضد الإمبريالية، كما أن كلاهما غير ممكن دون التخلص من الأنظمة العربية الرجعية التي تحكم المنطقة، على الرغم من كل ذلك إلا أن الجبهة الشعبية لم تطرح نفسها كمنظمة شعبية تثويرية في البلدان التي كانت تنشط داخلها، بل عزلت نفسها إلى حد كبير عن الجماهير العربية في تلك البلدان، ولم تنخرط في سياساتها الداخلية.

لكن لن يكون من العدل أن نبخس الجبهة الشعبية قدرها، فرغم انعزالها عن الجماهير العربية إلا أنها لم تتواطئ مع الأنظمة الحاكمة. يشهد على ذلك أمثلة عديدة منها اتهام الجبهة من قبل سوريا بأنها شاركت في محاولة للانقلاب على النظام، مما أدى إلى القبض على جورج حبش ووضعه داخل السجن حتى تسنى له الهرب بعد ذلك بسنوات. ورغم أن البعض يُرجع ذلك إلى تصفية الحسابات ما بين النظام البعثي في سوريا وبين جورج حبش وحركة القوميين العرب، إلا أن حقيقة أن حبش والجبهة كانوا على استعداد لدفع ثمن ما مقابل عدم الاستسلام الكامل للنظام السوري تبقى موجودة لا مجال للشك فيها.

نفس الشيء حدث عام 1968، أي بعد القبض على جورج حبش بشهور، عندما انتقدت الجبهة في بيانها السياسي نظام جمال عبد الناصر في مصر وطريقة تعامله مع القضية الفلسطينية. وهو ما كان بمثابة إعلان عن كفر الجبهة بناصر وما يمثله بعد هزيمة يوليو. وكان رد فعل النظام الناصري السريع على ذلك هو قطع المساعدات المالية عن الجبهة الشعبية. إلا أن الجبهة بعد أن أعلنت تمردها على النظام الناصري في مصر، صارت تحصل على تمويلها من النظام البعثي في العراق.

ومع كل ذلك بقيت الجبهة الشعبية واحدة من أكثر المنظمات الفلسطينية راديكالية وشعبية بين العرب وبين الفلسطينيين اللاجئين في الأردن ولبنان وسوريا وباقي البلدان العربية. وعندما انضمت الجبهة إلى منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1968، أصبحت ثاني أكبر فصيل داخلها بعد حركة فتح. وعلى الرغم من إعلان الجبهة الشعبية لنبذ العنف في بداية السبعينيات بسبب ما حدث من مذابح في أيلول الأسود، وبسبب الضغط السوفييتي عليها في ذلك الوقت، إلا أنها سرعان ما عادت إلى المقاومة المسلحة بعد حرب أكتوبر. وإن كان ذلك قد حدث بمعدل أقل بكثير بسبب الخلاف ما بين الجبهة والنظام السوري وهو الأمر الذي قيدها مادياً.

وقد كانت الجبهة الشعبية أساسية في تكوين ما عرف بجبهة الرفض التي اتخذت موقفاً حاسماً عام 1975 من حل الدولتين الذي تبنته حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن مرة أخرى، عانت الجبهة من تراجع كبير بسبب الحرب اللبنانية الأهلية. وعلى كل حال، تخلت الجبهة في نهاية السبعينيات عن العمليات المسلحة في الخارج وعادت إلى منظمة التحرير مرة أخرى، بعد أن اجتمعت فصائلها على رفض مبادرة السادات واتفاقية كامب ديفيد.

وهنا علينا أن نقف عند سياسة العمليات المسلحة في الخارج واختطاف الطائرات التي اشتهرت بها الجبهة في فترة السبعينيات. ففي الوقت الذي كانت المنطقة من حول الحدود الفلسطينية تهدر بحركات شعبية ضد الأنظمة الحاكمة (وهو ما شاهدناه في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي تصاعد النضالات الطلابية والعمالية في مصر، وفي الانتفاضات المختلفة في العراق ..إلخ)، اتجهت الجبهة إلى عمليات اختطاف الطائرات والعمليات المسلحة في الخارج بهدف لفت انتباه العالم إلى القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن مثل هذه السياسات استقطبت إلى الجبهة الشعبية عدداً كبيراً من الشباب الثائر الغاضب في المخيمات وفي الداخل، إلا أنها لم تخلق لها الروابط التي تسمح لها بالحفاظ على معدلات نموها، أو أن تتحول إلى قوة تثوير اجتماعية. وما حدث بعد ذلك في الانتفاضة الفلسطينية الأولى ثم بعد أوسلو دليل على ذلك.

الجبهة والانتفاضة الأولى

لعبت الجبهة دوراً ميدانياً بارزاً على صعيد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بما شملته من فعاليات وأنشطة نضالية مختلفة عبر قيادتها الوطنية الموحدة في الداخل. وقد اتسمت الانتفاضة الشعبية العارمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ اندلاعها في الثامن ديسمبر 1987، بالشمولية والاستمرارية، وبترسيخ حقيقة بارزة مفادها أن جماهير الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والجليل والمثلث والنقب بدت أكثر من أي وقت مضى موحدة في مواجهة الاحتلال. وعلى الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت هي القيادة الواضحة للانتفاضة، إلا أن الدور والخطاب الذي تبنته الجبهة الشعبية وكوادرها في الداخل ساعد على لعب دور هام في إدارة الانتفاضة والاستفادة منها في تحقيق نمو كبير بين صفوفها.

وقد كان ذلك أمراً طبيعياً في وقت كانت فيه الجبهة القوة اليسارية الأقوى المطروحة على الساحة في لحظة يتجه فيها الشارع الفلسطيني يساراً، ويلعب فيه العمال دوراً رئيسياً في النضال. فقد امتنع آلاف العمال الفلسطينيين في المصانع الإسرائيلية عن الذهاب إلى أعمالهم. كما أن الدعوة إلى العصيان المدني والإضراب الشامل ومقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية، والتي كانت جميعها أفكار دعت إليها الجبهة بقوة، عبرت جميعها عن أساليب فلسطينية جديدة في مسار النضال الوطني. وبهذا لم تكن المشاركة مفتوحة أمام المسلحين أو القادرين على حمل السلاح فقط بل أمام الجميع. فالكل مناضل والكل قادر على إضافة جديد.

مسيرة التراجع

بعد الانتفاضة الأولى وجدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين صعوبة في أن تبني لها جذوراً في الضفة الغربية وقطاع غزة. وذلك بسبب وجود الجزء الأكبر من كوادرها خارج البلاد، بالإضافة إلى الحصار المستمر من قبل السلطة الفلسطينية الجديدة من جانب ومن جانب الاحتلال الإسرائيلي من جانب آخر. ومع الوقت ـ وبسبب ضيق الموارد المتاحة بعد أن قلصت معظم الدول العربية إن لم تكن كلها الدعم المادي الممنوح للجبهة ـ اتجه عدد كبير من القيادات الوسيطة إلى العمل في مجال حقوق الإنسان والتنمية وغيرها من المجالات المدعومة مادياً من قبل الإتحاد الأوروبي أو المعونة الكندية أو المعونة الأمريكية، وهو ما أدى إلى انعزال كوادر الجبهة عن العمل الجماهيري القاعدي، وتحولت العلاقة الرفاقية التي نشأت بينهم وبين المواطنين العاديين في الانتفاضة الأولى إلى علاقة بين بائع ومستهلك، أو باحث وحالة للدراسة.

في نفس الوقت كانت الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حماس، تنمو بقوة داخل الأراضي المحتلة لعدة أسباب. ربما أهمها سياسة العمليات الاستشهادية التي تبنتها ومارستها بقوة طوال سنوات الانتفاضة الثانية، والتي حقت لها شعبية كبيرة داخل الشارع الفلسطيني. بالإضافة إلى الأنشطة الخدمية القاعدية التي قدمتها حماس على وجه الخصوص، في وقت يعاني فيه الفلسطينيون، خاصة في غزة والقطاع، من حالة فقر وعوز مستمرة. لاسيما وأنه بعد الانتفاضة الأولى حرصت إسرائيل على أن تملك هي القدرة على شل الاقتصاد الفلسطيني وليس العكس. أضف إلى ذلك طبعاً انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من حالة عدم اتزان مر بها اليسار التقليدي في كل المنطقة العربية بل وفي العالم كله.

وبسبب هذا الضعف كان على الجبهة الشعبية أن تتحالف مع المجموعات اليسارية بمعناها الواسع في قطاع غزة والضفة الغربية في محاولة لتعويض النقص في الكوادر الشابة والغياب شبه الكامل في بعض المواقع. ومن بين هذه المجموعات حزب الشعب الفلسطيني ولجان المقاومة الشعبية في غزة.

الجبهة والمستقبل

بالطبع لا يمكن أن نتجاهل مواقف الجبهة الشعبية الرافضة للمفاوضات مع إسرائيل، وفساد السلطة الفلسطينية السابقة، وسياسات عرفات الدولية والمحلية، لأنها جميعاً حافظت على استمرار مصداقية الجبهة في الشارع الفلسطيني حتى مع تراجع نفوذها السياسي وأعداد المنتمين إليها. ونستطيع أن نلقي الضوء هنا على مثال واحد، عندما رفضت الجبهة الشعبية دعم محمود عباس في انتخابات عام 2004 وحرصت على مساندة مصطفى البرغوثي المرشح المعارض للرئاسة على الرغم من تلقيها عرضاً بالافراج عن أحمد سعدات ومن معه إذا ما فقط قامت بإعلان دعمها لمحمود عباس.

إلا أن السؤال الرئيسي الآن هو: هل تستطيع الجبهة الشعبية أن تقدم بديلاً يسارياً يطرح نفسه مجدداً في النضال الفلسطيني؟ عندما تم تكوين الجبهة الشعبية في الستينيات كانت قائمة على أساس رفض فكرة الدولتين والدفاع عن فكرة دولة واحدة لكل مواطنيها. كما كانت تتخذ موقفاً حاسماً من مسألة إسقاط الأنظمة الرجعية في العالم العربي كطريق لتحرير الأراضي الفلسطينية. ورغم أن الجبهة بدت أقل تمسكاً بهذه المبادئ إلا أن تمسكها مثلاً بحق العودة لكل اللاجئين وغيرها من الثوابت الفلسطينية يسمح لها أن تقدم بديلاً أهلاً للثقة في حالة عودتها لثوابتها الأولى مع التعلم من دروس تجربة ما يقرب من نصف قرن من النضال المسلح والشعبي.

إن عضوية الجبهة الشعبية تعتمد في المقام الأول على النخب والمثقفين وطلاب الجامعات في القدس ورام الله ونابلس وشباب المدن. في حين تحظى حماس بتأييد الغالبية العظمى من الفقراء في غزة وقلقلية والخليل. إلا أن ما تشهده الضفة وقطاع غزة من أزمة اقتصادية طاحنة، وحركات مطلبية شبه يومية، قد تجعل من الأراضي الفلسطينية أرضاً خصبة ليسار حقيقي، يربط بين النضال ضد الإمبريالية الأمريكية والاحتلال الصهيوني والنضال ضد الفساد والأنظمة الدكتاتورية في المنطقة العربية، وبين كل ذلك وبين نضالات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ضد الاستغلال والظلم والقهر. ولكي تصبح الجبهة الشعبية هي هذا البديل، عليها أن تعود للنضال وسط الجماهير الفلسطينية معتمدة على الأسس الأولية التي نشأت عليها، كما أن عليها أن تصير قاطرة رئيسية في مقاومة الصهيونية والاحتلال. ولا يمكن هنا الجَذم باحتمالات المستقبل، فقط يمكن التأكيد على أن هناك ضرورة وفرصة حقيقية اليوم في بناء بديل يساري مقاوم داخل فلسطين.