بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الإعلانات السياسية وصراع الاستراتيجيات في سوريا

أصبحت سوريا الآن على قمة الأولويات الأمريكية للتغيير في المنطقة. يعرض المناضل والكاتب اليساري السوري غياث نعيسة لأزمة النظام السوري والاستراتيجية الأمريكية تجاه دمشق مشيراً إلى أن اتساع نطاق الفعل العام ليشمل الجماهير الفقيرة والمهمشة هو الطريق الوحيد للتغيير الحقيقي.

القوة المهيمنة والايديولوجية السائدة

ترافقت الحرب الأنجلو/أمريكية على العراق ومن ثم احتلاله وسقوط بغداد في 9 أبريل 2003 مع حملة تهديدات شديدة من كبار المسؤولين الأمريكيين ضد النظام السوري. واليوم، يمكن القول أن احتلالاً أمريكياً “مريحاً” للعراق، كان سيدفع الولايات المتحدة إلى إطاحة سريعة بالنظام السوري. ولكن الصعوبات الجمة التي يواجهها هذا الاحتلال ولا سيما المقاومة الشرسة التي يتعرض لها، ما تزال تجعل الوضع في العراق قلقاً ومنهكاً لها. وربما يكون هذا هو أحد الأسباب في عدم انتقالها إلى الخيار العسكري تجاه النظام السوري.

في الوقت نفسه، تتعرض بلدان المنطقة إلى ضخ إعلامي وأيديولوجي من الدول الكبرى وبالأخص أمريكا، لتسويق “مشروع الشرق الاوسط الكبير” ونموذج الديمقراطية التي تعدنا به. فـ “الثورة الديمقراطية” العتيدة التي يدعو لها الرئيس الأمريكي بوش في المنطقة تستند على “نموذجين”: الأول هو أفغانستان، وهو نموذج مايزال عقيماً وسخيفاً “لديمقراطية أمراء الحروب والعشائر”. والثاني هو العراق، الذي لا يمكن أن يكون، بأي حال، نموذجاً جذاباً للديمقراطية في منطقتنا. لسبب بسيط هو أنه بلد تم تفكيك وتحطيم القوات الأمريكية لدولته، وبالتالي فإن “الديمقراطية” التي تبنيها قوات الاحتلال الأمريكية في العراق هي “ديمقراطية طائفية” تحمل في طياتها عوامل أزمة دائمة.

بالرغم من ذلك، لا بد من القول بأن مجمل هذه العوامل من الوجود الأمريكي العسكري المباشر في المنطقة إضافة إلى المشروع الأيديولوجي والجيوسياسي لإدارة بوش ـ الذي يجد جذوره لدى المحافظين الجدد ـ لإعادة صياغة منطقتنا، ورفض الأنظمة العربية لأي إصلاح سياسي ذو قيمة، أدت إلى تبني النخب العربية بشكل صريح أو ضمني لهذه المواقف الإيديولوجية. فأصبحت الليبرالية هي الإيديولوجية السائدة لديها، و”التغيير من الخارج” هو الإمكانية الوحيدة المتاحة.

أزمة النظام السوري

استطاع النظام السوري خلال أربعين عاماً إرساء أسس سلطة استبدادية ونظام شمولي، وسحق كل القوى السياسية والاجتماعية والنقابية المناهضة له، وكان الطرف المنتصر في “حرب أهلية” شنها ضد المجتمع السوري. لم تصادر السلطة السورية الحقل السياسي فحسب بل وضعت يدها على الثروات، وخلقت حولها ومعها شرائح اجتماعية واسعة اغتنت من نظام مرعب للفساد. كما أنها صادرت الحقلين الاجتماعي وإلى حد ما الثقافي، وفرضت هيمنة الحزب الواحد، وفرغت المجتمع، من خلال حرب استنزاف متواصلة، من أفضل ممثلي نخبته السياسية والفكرية من خلال اعتقالها وزجها بهم في السجون لسنوات طوال، أو دفعها إلى المنافي.

ومع الانتقال الوراثي لسدة الرئاسة عام 2000، أعلن الرئيس الجديد بشار الأسد في خطاب القسم في 17 يوليو عن وعود إصلاحية عديدة، وساهم هذا في ارتخاء العنف الأمني وشجع عدداً من شرائح النخبة على استعادة نشاطها واهتمامها بالشأن العام، بعد مرحلة طويلة اقتصر فيه النضال المعارض والسري على عدد قليل من المجموعات المعارضة ومنظمة حقوق إنسان وحيدة (لجان الدفاع)، وانتشرت الهيئات والمنتديات في أرجاء سوريا. لكن سياسة المنع والقمع للسلطة السورية عادت سريعاً إلى عادتها القديمة. وتم القيام بحملة اعتقالات طالت من عرفوا بنشطاء “ربيع دمشق” ولايزال أغلبهم قيد الاعتقال. كما مُنعت المنتديات والاجتماعات العامة. زاد تعزيز السلطات من سياساتها القمعية، منذ ما سمي بأحداث القامشلي (شمال سوريا) في مارس من عام 2004، مع مظاهرات الأكراد. وجاءت نتائج مؤتمر حزب البعث الحاكم في شهر يونيو من العام الماضي لتحبط أي رهان على قدرة ـ أو رغبة ـ النظام السوري في إصلاح نفسه ولو جزئياً.

الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا

تبدو الاستراتيجية الأمريكية، تجاه النظام السوري وكأنها تقوم على مبدأ “الضغوط السياسية/ الدبلوماسية المتصاعدة في شدتها مع التلويح الدائم بالخيار العسكري. وقد بدأ الضغط الأمريكي على النظام السوري بإقرار الكونغرس الأمريكي في 11 نوفمبر 2003 “قانون محاسبة سوريا واستقلال لبنان”، وصدق بوش على العقوبات في 11 مايو 2004. واتفقت دول الاتحاد الأوروبي على “تأجيل” اتفاق الشراكة مع سوريا. وصدر قرار مجلس الأمن رقم 1559 في سبتمبر 2004. لكن ما فاقم من أزمة النظام السوري هو اغتيال رئيس الوزاء اللبناني السابق رفيق الحريري في 12 فبراير 2005، الذي اتهم به فوراً النظام السوري، وأدى إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية برئاسة القاضي الالماني ميليس على أساس قرار مجلس الامن رقم 1595. لقد فجر عمل هذه اللجنة تماسك النظام السوري وأفقده توازنه، ليأتي انتحار ـ أو نحر ـ وزير الداخلية السوري غازي كنعان قبل أيام من إعلان ميليس لتقريره في 21 أكتوبر 2005 الذي يتهم فيه الحكومة السورية بعدم التعاون معه ويعلن عن دلائل تشير على تورط مسؤولين سوريين كبار في عملية اغتيال الحريري. فأتى قرار مجلس الأمن رقم 1636 بعد تقرير ميليس باسبوع ليزيد من ورطة النظام السوري وخنقه. لأن جوهر هذا القرار يعطي للجنة التحقيق الدولية صلاحيات تمس “السيادة الوطنية”، كما أعطاها صلاحيات مطلقة للتحقيق وإصدار مذكرات اعتقال بحق أي فرد كان، مهما كان موقعه. والمسئولون الذين ذكرهم ميليس في تقريره يشكلون “مركز” وقلب السلطة السورية.

محاولات الاصطفافات

على خلفية ما ذكر أعلاه، وفي الأيام التي سبقت إعلان تقرير ميليس، صدر في دمشق في 16 أكتوبر بياناً باسم “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” بتوقيع التجمع الوطني الديمقراطي (يضم خمسة أحزاب هي الاتحاد الاشتراكي وحزب الشعب الديمقراطي وحزب العمال العربي وحركة الاشتراكيين العرب وحزب البعث الديمقراطي) وتحالفين للأحزاب الكردية ولجان إحياء المجتمع المدني وعددا قليلا من الشخصيات. وفور صدوره بسويعات أعلنت جماعة الإخوان المسلمين انضمامها وكذلك فعل فريد الغادري، المقيم في الولايات المتحدة، وحزبه (حزب الإصلاح السوري) وتحالفه، وتلاهم آخرون.

أثار صدور الإعلان ضجيجاً إعلامياً. وكيف لا؟ وسوريا اليوم في قلب العاصفة، لكن هذا الإعلان لم يخلق التفافاً حقيقياً حوله حتى الآن. ولكنه سارع، بسبب السجال حوله، إلى الدفع السريع للواجهة لقضية “البديل”، كما دفع إلى عودة لاصطفافات سياسية جديدة. على سبيل المثال صدر في 15 نوفمبر الماضي “إعلان حمص” ويتضمن أفق سياق ديمقراطي مختلف عن إعلان دمشق وأكثر تماسكاً منه. وهذا لم يمنع حوارات أخرى تدور بين عدد آخر من القوى السياسية والشخصيات لإصدار إعلان ثالث يقال أنه سيكون أكثر وضوحاً وتوافقية، وربما إعلان رابع أو خامس.

ومن الواضح لكل مطلع على الوضع السوري، بأن جماعة الإخوان المسلمين قامت خلال السنوات الخمس الماضية بمراجعة مهمة لخطابها، الذي تحول إلى خطاب “ديمقراطي” وشبه ليبرالي، يقول أنه يعترف بالآخر ويدعو إلى تداول السلطة. كما لا يخفى على أحد إن جماعة الإخوان هي أكثر أطراف المعارضة تنظيماً وكفاءة ودينامية في نشاطها، حتى لو لم يكن نشاطها الخاص بارزاً حالياً داخل سوريا. كما أنها استطاعت، وخاصة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، نسج شبكة علاقات مع معظم أطراف المعارضة السورية ودخلت إلى المعادلة السياسية كطرف رئيسي فيها، بالطبع هذا لا يعني أنها ـ أو أي حزب آخر غيرها ـ ذات نفوذ جماهيري، كما فتحت قنوات حوار مع عدد من حكومات الدول الكبرى. لذلك يمكن القول بأن دور إعلان دمشق ليس بعيداً عن هذه المعطيات، وتجب قراءته وفقها.

لكن “إعلان دمشق” يعاني كنص من إشكالية أساسية، قد تكون مقصودة أو فرضها الاتفاق بين أطرافه، هي أنه نص ملتبس في كثير من فقراته ومتناقض. وسنعطي مثالين على ذلك: الأول، تقول إحدى الفقرات في الإعلان “بناء دولة حديثة، يقوم نظامها السياسي على عقد جديد، ينتج عنه دستور ديمقراطي عصري.. المواطنة معياراً للانتماء” وفقرات أخرى عن الحريات الديمقراطية وتداول للسلطة وانتخابات حرة ودورية.

في الوقت نفسه نجد فقرة أخرى كانت وما تزال أساس سجال ونقد شديدين للإعلان. فيقول الإعلان “الإسلام دين الأكثرية وعقيدتها.. مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين..”، أن يكون الإسلام بمذاهبه المتعددة هو دين الأغلبية وأنه مكون أساسي لثقافتنا فهذا أمر متفق عليه. ولكن أن يضع سلفاً أفقاً “عقائدياً” لأكثرية على أساس مذهبي في مشروعه “للتغيير الديمقراطي” يعيد إلى الذاكرة التجربة العراقية الجارية. وهذا بخلاف مع ما جاء في فقرة سابقة من الإعلان تنص على “دولة حديثة.. والمواطنة معياراً”. وما يعزز من هذا الميل هو استناد النص على كلمتي “نحن” و”الآخرين” المكررة في العديد من فقراته، والتي تعكس وعياً لا يرى من امكانية، سوى إعادة بناء سوريا الديمقراطية من خلال تفاهم وديمقراطية “الطوائف”، وهذا ما لا نأمله لبلادنا. ولو حصل ذلك لسبب أو آخر، مثل انهيار الدولة والمجتمع بعد غزو خارجي مثلاً، فأغلب الظن إن ما سيحصل سيكون أقرب لتجربة أفغانستان أو العراق التي ستسود في “ديمقراطيتها” جيل جديد من أمراء الحروب والطوائف.

المثال الثاني أو”الالتباس” الآخر في إعلان دمشق يتعلق بمدى وضوح مواقفه من النظام القائم؟. فمن جهة نجد الإعلان يقول بـ “ضرورة التغيير الجذري في البلاد، ورفض كل أشكال الاصلاحات الترقيعية أو الجزئية أو الالتفافية” وتأكيد الاعلان على “أننا نتعاهد على العمل من أجل انهاء مرحلة الاستبداد” الخ. في الوقت نفسه فإن الإعلان يقول في فقرة أخرى “إن عملية التغيير قد بدأت.. وهي ليست موجهة ضد أحد” ودعوته للمشاركة فيها لمن أراد من “أهل النظام”.

يمكن أن نجد نفس الالتباسات تجاه قضية “الخارج”. فمن جهة يقول إعلان دمشق “رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج”. بينما تعلن التوضيحات التي صدرت معه بأن الإعلان يتوجه إلى الرأي العام الخارجي “للقول بأن سوريا ليست قوقعة فارغة سياسياً.. وهي تتمتع اليوم بوجود قوى شعبية لها تاريخ طويل في النضال الديمقراطي، جديرة بالثقة ويمكن الحوار معها”. كما تجاهل إعلان دمشق الطابع القومي للقضية الكردية. مثلما تجاهل تماماً قضية العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة الاجتماعية في بلاد أكثر من نصف سكانها (ومن مختلف الأديان والمذاهب والطوائف والقوميات) يعيشون في فقر مدقع أو تحت حافة الفقر.

بالنسبة لنا لا يشكل إعلان دمشق سوى “لحظة” هامة من لحظات دينامية الحراك والصراع السياسي والاصطفافات الجارية في سوريا اليوم. ومن الضروري التعامل معه ومع الإعلانات الاخرى بروح التعاون والحوار والسجال، من أجل التوصل إلى أفضل توافق للقوى السياسية (اليسارية والقومية والليبرالية) والاجتماعية في سوريا لبناء أوسع تحالف ممكن للانتقال الديمقراطي على أساس برنامج واضح ومكثف ضد العدوان والتبعية وضد الدكتاتورية ومن أجل الديمقراطية والحرية والعدالة.

مما لا شك فيه أن الحراك العام في سوريا ما يزال محصوراً على النخب، ولم تنزل الشرائح الاجتماعية الواسعة بعد إلى ساحة الفعل. وما تزال النخب المعارضة أسيرة صراع الإرادات والاستراتيجيات بين الدول الكبرى، وعلى رأسها زعيمة الامبراطورية الولايات المتحدة، من جهة، وبين سلطة استبداية في سوريا، من جهة اخرى. ورهانات أغلب هذه النخب تتوه بين الاثنين. ما ندعو إليه هو التوجه إلى غالبية الشعب السوري من المنتجين والفقراء والمهمشين وصانعي الثروة والحياة والثقافة (النقابات والمنظمات المهنية والمعلمين والطلبة..)، إنها المعنية الأولى بمصيرها ومصير بلادها وهي الضحية الأولى لآليات القهر والاستغلال للنظام الدكتاتوري، وهي التي ستكون الضحية الأولى في أي عدوان عسكري أمريكي أو دولي على سوريا. قد يكون هذا هو المدخل الحقيقي لما يسمى الخيار الثالث، أما في حال غيابه فلا شئ يبشر الآن بمستقبل قريب مزهر لسوريا. والسير على الطريق ما يزال شاقاً وصعباً.