المقاومة في الميزان
بحلول مؤتمر القاهرة السادس يكون قد مر خمسة أعوام على غزو قوات التحالف بقيادة أمريكية للعراق عشية 20 مارس 2003، ويكون قد مر أربعة أعوام على استشهاد الشيخ القعيد أحمد ياسين، أبرز مؤسسي حركة حماس، في يوم 22 مارس 2004، ويكون أيضا قد مر بضع أيام على “ذكرى الأربعين” القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية، الذي تم اغتياله مؤخرا في دمشق. ولا يزال مسلسل التصعيد من جانب الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني مستمر ضد كل من يرفع شعار المقاومة في المنطقة، في العراق وفي فلسطين وفي لبنان. كل هذا يدعونا إلى إجراء تقييم منصف لحركات المقاومة الأبرز في المنطقة، منصف بمعنى من وجهة نظر من يرى في تقدم المقاومة انتصار وفي تراجعها هزيمة.
“المستنقع العراقي” نجاح للمقاومة
يكفي لتقييم مدى صمود المقاومة العراقية النظر إلى الأرقام الصادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية والتي تفيد بأن عدد العمليات العسكرية التي يواجهونها يوميا ارتفع من ثمانية عمليات مقاومة في يونيو 2003 إلى 170 عملية في أغسطس 2007. حتى بالنظر إلى تقييم الإدارة الأمريكية ذاتها لحجم المقاومة الموجودة على الأرض في العراق نجد أنه تضاعف ليصل إلى 20 ألف مقاوم في عام 2005.
اليوم يعترف الساسة في الإدارة الأمريكية، على اختلاف مشاربهم وحتى المنتمين لأقصى اليمين بينهم، بحجم الورطة الهائل التي تواجهها أمريكا في العراق. صحيح، أن الانسحاب من أرض ما بين النهرين ليس مطروح فيما بين المرشحين لمنصب الرئاسة في انتخابات نوفمبر المقبل، ففي نهاية المطاف يتلقى كلا من باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجون ماكين الدعم من شركات كبرى لها مصالحها ويتلقون منهم التبرعات التي تمكنهم من تمويل حملاتهم الانتخابية، إلا أن الخطاب المؤيد لاستمرار الاحتلال، أو كما يطلق عليه “التواجد الأمريكي في العراق” تغير بشكل جذري.
لم يعد من الممكن الحديث عن جلب الديمقراطية للشعب العراقي والتنمية الاقتصادية لأرض ما بين الرافدين كدوافع معقولة ومبررات مرضية لاستمرار الاحتلال. فمن جانب، لا تزال صور وتسجيلات التعذيب في سجن أبو غريب محفورة في الأذهان، فضلا عن المعلومات الأخرى التي تفيد بالانتهاكات الشديدة التي تقترفها قوات التحالف في حق المعارضين لاحتلالها. فبحسب جريدة حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا(تاريخ 11 مارس الماضي) “في إبريل 2007 تم اكتشاف 827 سجين مودعين في زنزانة مبنية بحيث تضم بين جدرانها 300 سجين فقط، وفي قاعدة جوية تم الوصول إلى 272 سجين مودعين في زنزانة بالكاد تتسع ل 75 فرد”.
وعلى الجانب الآخر، وبرغم كل الرطان الخاص بمخططات الحكومة العراقية برئاسة نور المالكي، إلا أن معدل البطالة يتجاوز 40% بينما يتجاوز معدل التضخم 50 % سنويا، مؤشرات وأوضاع ذات دلالة فيما يخص تغذية المشاعر الطائفية. هذا بالإضافة إلى الإحصائيات التي تشير إلى إصابة أكثر من 30 ألف عراقي بوباء الكوليرا! مما لا شك فيه أن الوعود بالتنمية الاجتماعية والانتعاش الاقتصادي، ما بعد فترة حصار اقتصادي دام ثلاثة عشرة عاما، التي صاحبت غزو العراق ذهبت أدراج الرياح، ومعها الادعاء القائل بأن الاحتلال هو الحل.
اليوم يركز البيت الأبيض، وحاله في ذلك كحال المرشحين للانتخابات الأمريكية المقبلة، على أن الهدف من استمرار تواجد قوات الاحتلال في العراق هو حماية العراق من نفسه، والمقصود هنا، الاقتتال الطائفي الذي بدأ ما بين السنة والشيعة عقب الهجوم على ضريح شيعي في عام 2006 بمدينة سمراء. إلا أن كلا من المنطق والتاريخ الأسود للاحتلال عموما يؤكدان على أن المستفيد الأول والأخير من احتدام النزاعات الطائفية هو المحتل، الذي يسعى إلى تفتيت المقاومة وكسر شوكتها. فلولا واقع حدوث اقتتال شيعي ـ سني ومعه مخاوف من اندلاع حرب أهلية لما وجدت الإدارة الأمريكية الذريعة التي تمكنها من انتزاع 17 مليار دولار من البنتاجون لتمويل وتعزيز قواتها في هذا العام ـ أموال مقتطعة من ضرائب وتأمينات الشعب الأمريكي ـ تحت دعوى حماية المصالح الأمريكية من خطر حرب أهلية وشيكة في العراق تؤثر بدورها على مصالح الأمريكيين في نفط المنطقة. تجدر هنا الإشارة إلى قيام الإدارة الأمريكية بإرسال قوات إضافية قوامها 30 ألف جندي بمطلع عام 2007، أي بعد قيام أحداث الاقتتال الشيعي ـ السني بشهور، بعد أن كان فحوى الخطاب الأمريكي الرسمي هو الانسحاب التدريجي.
فبعد مضي سبع سنوات على أحداث 11 سبتمبر، لم يعد من الممكن أن ينطلي على أحد شعار “الحرب على الإرهاب”. فمن الواضح للعيان أن احتلال العراق منذ خمس سنوات وتنصيب قرضاي في أفغانستان قبلها لم يؤدي إلى انحسار، ولندع جانبا فكرة تصفية، ما جرت العادة على تسميته ب”الإرهاب”. فبحسب وكالة الاستخبارات المركزية أدى احتلال العراق وأفغانستان إلى تعقيد مهمة مكافحة الإرهاب لأنه أصبح أكثر انتشارا مما كان عليه في السابق.
كل ما سبق ذكره دفع الرئيس الأمريكي بوش إلى التأكيد، في خطابه بمناسبة مرور خمس سنوات على احتلال العراق، على أن وجود القوات الأمريكية في العراق حال دون قيام حرب أهلية هناك، كما لو كانت قوات الاحتلال تتمتع بغطاء الشرعية الذي تتمتع به أجهزة الشرطة، وكأن حركات المقاومة للاحتلال لم تعد طرفا في المعادلة الأمريكية. تجيء تصريحات بوش في تناقض كبير مع ما يحدث في الواقع. فكيف لنا أن نفسر الشرط الذي وضعته الحكومة البريطانية للانسحاب من البصرة في ديسمبر 2007، وهو حق العودة إلى المدن التي يتم الانسحاب منها لدواعي أمنية، بمعزل عن التخوف من عودة الحياة للمقاومة في المدن التي تم الانسحاب منها وهدأت وتيرة عمليات المقاومة المسلحة فيها.
أيضا، كيف نفسر استقدام قوات إضافية مع مطلع العام الماضي، وزيادة تكاليف الاحتلال الأمريكي في مطلع هذا العام، برغم ما يعانيه الاقتصاد الأمريكي من أزمات؟ كل المؤشرات تصب في استهداف الإدارة الأمريكية تكثيف وجودها في العراق، فمن غير الممكن أن تتراجع الإدارة الأمريكية التي قدمت إلى العراق محملة بمشروع القرن الأمريكي الجديد أن تتراجع بسهولة عن مشروع هيمنتها على النفط العراقي، الأمر الذي يترتب عليه إضعاف قدرتها التدخلية بشكل عام. فلا يمكن الفصل ما بين غرق الإدارة الأمريكية في المستنقع العراقي عن امتناعها عن التصعيد في مواجهة إيران وزيادة نفوذه في لبنان، ويجعلها لا تحرك ساكنا فيما يخص المد اليساري في أمريكا اللاتينية، الفناء الخلفي لأمريكا، وبالأخص في فنزويلا.
حماس وحزب الله والشعوب
أما بالنسبة لكلب حراسة مصالح الإدارة الأمريكية التاريخي في المنطقة، الكيان الصهيوني، فهو مستمر في محاولاته الوحشية وجرائمه السافرة التي تستهدف اقتلاع جذور المقاومة في كل من فلسطين ولبنان. جاءت آخر كبرى محاولات هذا الكيان للإجهاز على المقاومة وكسر شوكتها في الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي، ذلك المسلسل الكريه من العمليات، الذي تضمن ضربات جوية على قطاع غزة. أدت تلك العمليات العسكرية، التي استمرت لمدة خمس أيام على التوالي، إلى سقوط أكثر من 100 شهيد وإصابة 350 فلسطيني وفلسطينية. بالرغم من أن ما فعله هذا الكيان العنصري والاستيطاني يندرج تحت بند المذابح، يصر رئيس وزرائه على أن هذه العمليات تستهدف منع كتائب شهداء القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، من الاستمرار في إطلاق الصواريخ على “المدنين في إسرائيل” ـ حصاد العملية التي قامت بها حماس لم يتجاوز الثلاث قتلى من بينهم اثنين مجندين.
مرة أخرى، يستخدم الكيان الصهيوني مبررات واهية، تماما كما فعل في يوليو 2006، عندما استخدم حزب الله حقه الشرعي، بحسب اتفاقية الطائف، في عمل عمليات تستهدف استعادة الأسرى اللبنانيين، فإذا به يشن حرب تكسير عظام ضد الجنوب اللبناني بأسره ويحفر “مذبحة قانا” جديدة في الأذهان تشهد على مدى وحشيته.
في الحقيقة، دورة جديدة من التصعيد الصهيوني بدأت بصعود حماس إلى سدة الحكم في يناير 2006، بدء بالحصار الاقتصادي والسياسي، وصولا إلى اقتتال فتحاوي ـ حمساوي ـ بدعم أمريكي وصهيوني وعربي واضح للعيان لحركة فتح وتأييد جارف لمحمود عباس باعتباره الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني ـ انتهاء بإغلاق المعابر وإحكام الحصار. في البداية جاء قرار الحصار بمثابة العقاب الجماعي للفلسطينيين لانتخابهم لحكومة تتبنى شعار المقاومة. أما فيما يعد، بعد فشل المحاولة الانقلابية لفتح واستعادة حماس لسلطتها في القطاع بالكامل في يونيو 2007 شدد الكيان الصهيوني من حصاره على القطاع بغلق كافة المعابر.
طوال العامين الماضيين لم تتوقف العمليات العسكرية التي تستهدف تصفية قيادات المقاومة في الداخل من جانب، وتغذية روح اليأس والإحباط بين جموع الشعب الفلسطيني، ومؤخرا القيام بعمليات تستهدف إرهاب شعب غزة الباسل، حتى ينقلبوا ضد سلطة حركة حماس. في هذا السياق، لا يمكن إغفال هزيمة الكيان الصهيوني في حرب يوليو 2006، وخروج تقرير فينوجراد إلى النور ليشهد على الفشل الذريع لحكومة أولمرت في مواجهته لحزب الله، تلك المواجهة التي بدت سهلة بالنظر إلى ترسانة الكيان الصهيوني العسكرية، خامس أكبر قوة نووية في العالم. تلعب هذه الهزيمة، جزئيا، دور المحفز بالنسبة لحكومة أولمرت اليوم.
بالطبع، الوضع في قطاع غزة أكثر تعقيدا منه في لبنان، فيما يخص قدرة المقاومة على مواجهة الكيان الصهيوني والتصدي له. فبالرغم من انسحاب القوات الصهيونية وإجلاء المستوطنات من القطاع في عام 2004، إلا أن الكيان الصهيوني لا يزال يتحكم، عمليا، وبقوة في كافة منافذ الحياة ومجريات الأمور فيه، وبالتالي يشكل قيدا ملموسا على قدرات المقاومة. قام شعب غزة الباسل بتحطيم هذا القيد بعبور الحدود الفاصلة ما بين القطاع ومصر، مئات الآلاف من الفلسطينيين دخلوا إلى مصر كاسرين العزلة المفروضة عليهم وفارضين واقعا جديدا
لكن اشتركت حكومة حماس مع مصر في عملية إعادة بناء السور وإحكام السيطرة على الحدود، مهدرة فرصة حقيقية، لتعبئة المصريين ضد نظام سارع بنقل سفارته من غزة إلى رام الله بمجرد إعلان محمود عباس لحكومة طوارئ يرأسها سلام فياض، ولم يحرك ساكنا ليدافع عن حق الشعب الفلسطيني في فتح المعابر.
أخيرا، لا مفر هنا من الاستشهاد بجزء من خطاب السيد حسن نصر الله في “ذكرى أربعين” الشهيد عماد مغنية، فقد أكد على أن الشعوب العربية هي القادرة على الضغط على حكوماتها من أجل التصدي للمخططات الصهيونية والأمريكية. أيضا، رد السيد حسن على مزاعم التيار الحكومي بأن حزب الله حزب طائفي بقراءة نتائج استطلاع للرأي يعبر فيه 60% من المسيحيين عن دعمهم للمقاومة و90 % من مسلمي السنة.