بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المقاومة أمام الرصاص المصبوب

في السابع والعشرين من ديسمبر من العام المنصرم، 2008، شرعت إسرائيل في قصف غزة في حرب حملت اسم “الرصاص المصبوب”* . واستمرت عمليات القصف العنيف لتحصد العشرات، وأحيانا المئات، يوميا. ثم تبع ذلك عملية برية حذرة لم تستطع الدولة الصهيونية تحمل نتائجها، ولم تستطع أن تتحمل أمد الحرب التي شنتها، ولا السقوط في مستنقع غزة، حسب التحذير الذي شاع بين المحللين ورجل الشارع على حد سواء.

هل كان درس حزب الله هو السبب في عدم إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي عن أهداف لا يثق في تحقيقها من وراء تلك الحرب؟ ربما! ففي الخامس من يناير، وبعد أكثر من أسبوع على بدء العملية، تحدث باراك أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست، مصرحا بأن الهدف من عملية الرصاص المصبوب هو وقف إطلاق الصواريخ على مستوطنات الجنوب والقضاء على ظاهرة تهريب الأسلحة، وعن النتائج العسكرية ذكر باراك أن العملية تسير وفق ما كان مخططا لها، وأن غزة أصبحت محاصرة حصارا شبه كامل، وأن القوات وصلت إلى أهدافها، وهي المعلومات التي تناقلتها أجهزة الإعلام، بينما ذكرت مصادر أخرى أن ما يذاع مبالغ فيه، وأن الجيش لم يستطع الدخول أبعد من النقاط التي كان قد وصل إليها في الاجتياح السابق، وهو ما اتضح فعليا بعد أيام، عندما فشلت العملية البرية، وفشلت الحرب ككل، في تحقيق أهدافها.

وقد أعلن المجلس الحكومي الأمني، الذي يضم كل من رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت ووزير الدفاع إيهود باراك ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني، أن إسرائيل ترمي إلى فرض المزيد من العزلة على حماس والضغط من أجل فرض واقع سياسي جديد، وأنها لن تسمح بأن تقوم لحماس قائمة أو أن يكون لها دور في المرحلة القادمة. قال هؤلاء إن “الواقع السياسي الجديد” لن تكون حماس طرفا فيه، ولكنه سيتشكل بناء على التوصل إلى اتفاقات مع دول عربية وصفتها إسرائيل بالـ”معتدلة”(ليس من الصعب التخمين أن المقصود هنا مصر) إلى جانب أطراف دولية (ليس من الصعب أيضا التخمين أن المقصود هو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأطراف دولية أخرى) وتتضمن هذه الاتفاقات ما يلي:

· اتفاق إسرائيلي مصري برعاية أمريكية لوقف تهريب الأسلحة عبر الأنفاق. وهو الاتفاق الذي تم توقيعه بين ليفني ورايس فقط، وكان آخر عمل رسمي تقوم به الأخيرة.

· إعادة تفعيل اتفاق معبر رفح 2005 الذي وقعته إسرائيل بالشراكة مع مصر والسلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، لكن بشرط أن تخضع إدارته إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي انتهت رئاسته رسميا في التاسع من يناير 2009.

· وقف إطلاق النار باتفاق ترعاه دول عربية معتدلة – مصر حسب صحيفة معاريف – والولايات المتحدة وفرنسا، بما يراعي المصالح الإسرائيلية ويعطيها الحق بالرد الفوري في حالة إخلال حماس بالاتفاق.

وبعد أن تلكأ مجلس الأمن في إدانة إسرائيل، بضغط الولايات المتحدة التي عارضت قرار الإدانة، وعندما أصبح واضحا أن إسرائيل لم ولن تحقق الأهداف المزعومة، كان من الضروروي السعي من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار. وقد امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت عليه، معلنة أن سبب ذلك هو الأمل في نجاح مبادرة مبارك-ساركوزي، وبمعنى أصح، الورقة التي ترتضيها الولايات المتحدة وإسرائيل، وترسلها مع سعاتها إلى المنطقة. لذا اتضح سبب إفشال قمة قطر، ورفض ليفني القاطع للوساطة الروسية، التي كانت تقترح عقد مؤتمر في موسكو والدخول مباشرة في مفاوضات حول وضع دائم، تشارك فيه سوريا ولبنان.

وفي داخل إسرائيل، كان موقف اليمين القومي والديني هو التأييد الكامل للعملية، بل والمطالبة بتصعيد العمليات “برا وبحرا وجوا، وذلك وفق تعبير “إيلي يشاي”، رئيس حزب شاس وعضو المجلس السياسي الأمني، الذي نجا بأعجوبة من قذيفة فلسطينية خلال تجوله بإحدى المستوطنات، وذلك للقضاء نهائيا على ما أسماه بـ”الإرهاب”. أما أفيجدور ليبرمان، رئيس حزب يسرائيل بيتينو، وعضو الكنيست جلعاد أردن (كتلت موليدت-هائيحود هالئومي)، فقد دعيا إلى اتخاذ قرارات “رادعة” ضد العرب في الداخل، ووقف أنشطتهم الإعلامية، بل وإسقاط الجنسية عنهم وطردهم باعتبارهم طابور خامس، وحرمان نوابهم من الترشح في انتخابات الكنيست الوشيكة! كما دعت منظمات يمينية إسرائيلية ومجموعة من الطلاب اليمينيين إلى للتجمع والتظاهر من أجل الإعراب عن تأييد الحرب وحمل الرايات والشعارات القومية الصهيونية.

أما عضو الكنيست حاييم أورون، رئيس حزب ميرتس المصنف ضمن يسار الوسط، فهو لم يرفض الحرب من حيث المبدأ، ولكنه دعا إلى عدم قتل الأبرياء أو التوغل والانغماس في مستنقع غزة. لكن موقفه تحول يمينا بعدما أعلن أن “عملية الرصاص المصبوب” تعد دفاعا عن النفس، كما رفض المشاركة في المظاهرة المناهضة للحرب.

أصوات المعارضة الخافتة أتت من ائتلاف يساري يضم الأحزاب العربية في إسرائيل وعدد من المنظمات اليهودية-العربية ومنظمات حقوق الإنسان التي خرجت في مظاهرات للتنديد بالعملية العسكرية على غزة والمطالبة بإنهاء احتلال ما يسمونه بـ”المناطق الفلسطينية”. لم يضم هذا الائتلاف حركة شالوم عخشاف (السلام الآن) التي أيدت العملية من حيث المبدأ وطالبت الحكومة بالشروع في التسوية السياسية بعد أن لقنت حماس درسا.

وكانت الانتخابات الإسرائيلية، التي أُجريت بالفعل في فبراير 2009، عاملا أساسيا في اتخاذ قرار الحرب. فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة معاريف أن العملية العسكرية أحدثت تبدلا في عدد المقاعد المتوقع الحصول عليها. فقد انخفضت مقاعد كل من كاديما، ومرشحته تسيبي ليفني، والليكود، ومرشحه بنيامين نتانياهو، مقابل ارتفاع مقاعد العمل، ومرشحه إيهود باراك، خمسة مقاعد مرة واحدة. ومع استمرار الحرب، كشفت الاستطلاعات أن حزبي العمل والليكود احتفظا بالنسب السابقة، بينما انخفضت نسبة كاديما أكثر، في مقابل ارتفاع الحزب اليميني يسرائيل بيتينو. نفس الاستطلاع، الذي نشرته معاريف في السادس عشر من يناير، كشف أن أكثر من 53% مؤيدين للاستمرار في الحرب وتصعيدها، بينما 36% مؤيدين للاستمرار بنفس الوتيرة، و8% مؤيدين للتوقف واتخاذ طرق سياسية.

وعلى الصعيد الدولي أعلنت إدارة بوش على طول الخط إدانة حماس وتأييد إسرائيل، التي اعتبرتها في حالة “دفاع عن النفس”. ولم تكتف إدارة بوش بالتصريحات، ولا بالمساندة السياسية على الصعيد الدولي، بل أرسلت علنا سفينة سلاح لدعم إسرائيل. أما أوباما، فقد ألقى عن كاهله أثناء الحرب، كما نعلم جميعا، حتى مجرد التعليق، قائلا أن بوش لا يزال رسميا هو الرئيس، ولا مجال لأن يكون للولايات المتحدة رئيسين في ذات الوقت. ولكن بمراجعة خطب أوباما وتصريحاته ولقاءاته خلال الحملات الانتخابية، نجد رجلا يعلن تمسكه بالعلاقة الأبدية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، صديقة أمريكا وحليفها الوحيد في الشرق الأوسط، بل أنه يتطوع ليذكر أن هيلاري كلينتون وجون ماكين هما أيضا يحبان إسرائيل، لأن حب إسرائيل، في رأيه، أقوى من أي اختلاف حزبي في الولايات المتحدة. ويعلن أوباما أنه سيستمر في دعمه لإسرائيل. وعن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، فإن أوباما يرفضه تماما، كما يعلن أنه يرى أن عودة القدس إلى حدود 1967 حل منطقي، لكنه يستدرك في خطاب لاحق ليؤكد أنها العاصمة الأبدية للدولة العبرية.

أما النغمة الشائعة على ألسنة القادة الأوروبيين، فكانت هي مخاطبة “الطرفين” من أجل وقف إطلاق النار، وكأن أحدا لا يميز من المعتدي ومن المعتدى عليه، بل وكأن أحدا لا يميز الفرق في ميزان القوى. في مقابل ذلك، كان رد فعل الشارع مختلفا تماما عن موقف الأنظمة، فقد خرجت مظاهرات بعشرات الآلاف، حتى في الدول الأوروبية التي اتخذت الموقف سالف الذكر. فقد بلغت المظاهرات في لندن ما يقرب من مائتين وخمسين ألف متظاهر، وحاول المتظاهرون في لندن وباريس وعواصم أخرى مهاجمة السفارات الإسرائيلية.

أما أكثر المواقف قوة واحتراما، فقد جاءت من أمريكا اللاتينية. حيث أعلنت فنزويلا، ومن بعدها بوليفيا، طرد سفير إسرائيل وقطع العلاقات معها.

عود على بدء

كل ما سبق كان استعراضا، أرجو ألا يكون مخلا، وتوطئة، لعرض قضية أعمق من تفاصيل الأحداث والتواريخ والأرقام والأسماء.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورت الرأسمالية الأوروبية ووصلت إلى وضعية الرأسمالية الاحتكارية، وأصبحت في حاجة ملحة لأن تخلق مستعمرات من أجل الحصول على المواد الخام واليد العاملة الرخيصة، من جهة، ولإيجاد أسواق بكر من جهة أخرى.. من هنا وصلت الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية.

زحفت القوى الإمبريالية في محاولة لوراثة تركة الرجل المريض، الدولة العثمانية، راسمة سيناريوهات مختلفة، ومتأرجحة بين التعاون أو التناحر بين بعضها البعض، كل ذلك حسب الظروف الخاصة بكل قطر، وحسب ظروف الساعة. وقد اتبع الاستعمار عدة طرق، منها الاحتلال العسكري والسيطرة السياسية، مثل مصر ومعظم الدول العربية، الاحتلال الاستيطاني، مثل الجزائر، وزرع جسم غريب، ينوب عن الاستعمار، في وسط المنطقة، وهنا البداية الحقيقية للصهيونية، ذلك الكيان الذي نشأ وتقوى كذراع للإمبريالية.

ونحن وإن كنا بالبديهة، نستبعد ما يُروّج، وللأسف يجد آذانا مصغية وعقولا متكاسلة، عن مخطط يهودي يمتد بطول تاريخ الجماعات اليهودية وبعرض الكرة الأرضية، بقدر تشتت الجماعات اليهودية فيها، لينشط، فجأة في لحظة معينة، من أجل تنفيذ مؤامرة مخططة ضد الإسلام، وربما ضد المسيحية أيضا، وربما بمساعدتها، ولعله يخطط للسيطرة على الأرض بأكملها، استنادا في ذلك إلى أساطير تلمودية لا ترقى إلى أي نقد عقلاني، ولا يقتنع بها معظم اليهود أنفسهم.

نحن إن كنا نرفض هذه القراءات والتفسيرات، إلا أننا يجب أن نفهم أن الصهيونية ليست هي الطرف الأذكى أو الأقوى، بل لا يمكن أن نعتبرها القاطرة المحركة للمشروع الصهيوني ذاته. بمعنى آخر، لا يجب أن نستهل الحديث عن المشروع الصهيوني، باسم تيودور هرتزل، الملقب بنبي الصهيونية، ولا بكلمة اليهود أصلا.

يمكننا القول بثقة، ولسنا مبتدعين، أنه لو لم توجد الصهيونية لأوجدها الاستعمار، ولو لم يوجد هرتزل لأوجده الاستعمار. فتلك الحفنة المتطرفة، التي لم تجد من يصغي لها، حتى بين اليهود، وكانت على استعداد في أحيان كثيرة للتنازل عن فكرة المشروع الصهوني في فلسطين، وجدت فرصتها التاريخية مع ما تعرض له اليهود من اضطهاد في شرق أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر. إذ لعب هذا الاضطهاد دور الحافز للفكرة الصهيونية. كما أن جرائم النازية حفزت هي الأخرى قيام دولة إسرائيل. إلا أن المحرك الحقيقي للأحداث كان هو المصالح الاستعمارية.

لو أن هدف الصهيونية كان حل مشكلة اليهود بإنشاء وطن قومي لهم، على أساسا الادعاء القائل إن إندماج اليهود في مجتمعاتهم ليس له جدوى، بدليل المذابح التي تعرض لها اليهود في روسيا القيصرية، فلماذا لم تظهر وتنجح مشاريع استيطانية على طول تاريخ اليهود إلا في هذه المرحلة التاريخية؟

ولو كان الحنين إلى صهيون هو الدافع، مع العلم بأن النواة المسيطرة بين الصهيونية من العلمانيين ومن المندمجين في مجتمعات غرب أوروبا.. نقول لو أن الهدف ديني، لكان قد تم الاكتفاء بالهجرة. فقد كانت الهجرة الدينية لفلسطين مفتوحة، حتى لو لم تكن مجرد حج، وتبعها استقرار، وهو نهج اتبعه عدد كبير من اليهود المسنين على مدى قرون ليختموا حياتهم هناك، كما أنه حدث بشكل جماعي في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، عندما قامت جماعات دينية بالهجرة والاستقرار. أيضا لو أن الهدف ديني، فلماذا لم تركز الصهيونية على المناطق المقدسة – أربعت عاري هاقودش – أي المدن المقدسة الأربعة، وهي القدس والخليل وصفد وطبرية، مع الأخذ في الاعتبار أن الدولة العثمانية كانت قائمة على الطائفية الدينية والعرقية، ولم يكن لدى المواطنين الخاضعين للدولة العثمانية أية غضاضة في ذلك، حتى مع تمييز بعض الطوائف والأعراق.

إن القدس، أو أورشليم، بل وفلسطين بوجه عام، لم تكن من المسلمات أو المقدسات بالنسبة للصهاينة أنفسهم، وهو ما يتجلى بوضوح في طرح مشروعات استيطان مثل مشروع الأرجنتين، الذي بدأ بفكرة مشروع نفذه الثري اليهودي الفرنسي “موريس دي هيرش”، وحاول “هرتزل” أن يقنعه بالتوسع في المشروع، ليصبح إنشاء دولة لليهود، وبالفعل أشار هرتزل إلى الأرجنتين في كتابه دولة اليهود. وفي المؤتمر الصهيوني الثالث، الذي انعقد في بازل 1899، نادى المندوب الصهيوني تريتش بفكرة استعمار قبرص، وقام هرتزل بالفعل بمفاوضات بشأنها. وكان من أهم مؤيدي هذا الاتجاه، إسرائيل زنجويل، مستشار هرتزل، الذي قاد الأقلية التي تدعو إلى الوطن البديل في المؤتمر التالي. وقد تكرر الأمر في المؤتمر الصهيوني في 1903، عندما دعا هرتزل إلى قبول العرض البريطاني بالاستيطان في أوغندا، رغم ما لاقاه ذلك من معارضة شديدة من جانب حاييم وايزمان ويهود شرق أوروبا، المتشبعين بالأفكار التقليدية عن صهيون، حيث أخذوا ينشدون:”إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي! لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!”(مزامير137: 5، 6). لكن مشروع أوغندا فشل أساسا بعد أن سحبت بريطانيا عرضها. حيث تعاظمت الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة العربية، مما دفعها لترجيح فكرة إقامة المشروع الاستيطاني في فلسطين.

كان هرتزل إذاً يرى أن إنشاء وطن قومي لليهود لا يجب أن يكون بالضرورة في فلسطين. يمكننا إذا القول أن الصهيونية مشروع استعماري ليس لأنه يستخدم أدوات ويحقق أهداف استعمارية، بل لأنه مشروع وليد الاستعمار وربيبه وذراعه القوية.. إنه مشروع استعماري عنصري ليس فقط لاستيطان فلسطين وترحيل أهلها قسرا أو إبادتهم وإحلال المستوطنين اليهود محلهم، بل لإنه يعد مرتكزا إمبرياليا موضوعا في هذه النقطة الجغرافية بعناية ليكون أداة للقضاء على أية مشروعات تحررية ضد الإمبريالية.

جاء اتفاق سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا ليستهل مرحلة جديدة في تاريخ الوطن العربي، حيث تم تقسيمه بين القوتين الاستعماريتين. وبعد أعوام قليلة صدر وعد بالفور المشئوم. لم يكن الاستعمار ألعوبة إذا في يد الصهاينة، كما لم يكن حليفا على قدم المساواة، ولكن كانت علاقته بالصهيونية علاقة برجماتية، تتحكم فيها الظروف والتوازنات. ففي أحيان كثيرة كان الاستعمار يستجيب للضغوط العربية، ولكنه لم يكن ليساند العرب وإنما يخفف من دعمه السافر للصهيونية. وفي أحيان أخرى كان يواجه المنظمات المسلحة الصهيونية التي صنعها بنفسه وسلحها ودربها عمليا خلال الحرب العالمية الأولى على أحدث وسائل وتقنيات القتال. كان يتصادم معها خشية أن تخرج عن طورها. ولكن من العبث أن نفكر أنه كان يميل، ولو بقدر، نحو العرب. فما كان للاستعمار أن يسمح للكيان الضخم أن يستفيق. ولكن من المنطقي أن يتعامل بحذر مع السرطان الذي زرعه في ذلك الجسد، ليظل مريضا، خاضعا.

كانت ثورة 1936 الوطنية الفلسطينية ذروة حركة المقاومة الفلسطينية التي تبلورت ووصلت إلى درجة من النضوج والوعي المبدئي والتكتيكي، وربما لوكتب لها النجاح لتغير مسار القضية الفلسطينية. وليس من المبالغة القول أن خارطة المنطقة كانت ستتغير كليةً. وكان الصهاينة، مسلحين وعمال، خدما أمناء للاستعمار ضد العرب، سواء بالقمع المسلح، أو بالحلول محل العمال العرب المضربين.

ثم بدأت رحا الحرب العالمية الثانية تدور، وما إن وضعت أوزارها، حتى طُرح مشروع التقسيم معبرا عن الخارطة الاستعمارية الجديدة. حيث كان يهدف إلى إنشاء دولة عربية موالية لبريطانيا، ودولة صهيونية موالية للولايات المتحدة.

أبدت الأنظمة الرجعية العربية موقفا متذيلا، بتفاني وخنوع لا مثيل له، للاستعمار، سواء إزاء قرار التقسيم، أو خلال مسرحية الحرب المبتذلة. وفي الواقع فإن الأنظمة العربية إن لم تكن قد وقفت ضد، فهي لم تسع إلى، تحقيق مصلحة القضية الفلسطينية، بداية من منع تعبئة المتطوعين في الأقطار العربية، في ظل مشاركة هزيلة متشرذمة في الحرب، بعدد يساوي ثلث القوات الصهيونية المحاربة، خلاف الاحتياطي الصهيوني، وانتهاءً، بسحب سلاح المقاومة الفلسطينية الباسلة واعتقال أفرادها، ثم معارضة إعلان دولة فلسطينية، وترك اللاجئين لمصائرهم.

في مرحلة لاحقة علت في الوطن العربي أصواتا جديدة لحركات تحرر وطني قوامها الطبقة المتوسطة من صغار ضباط الجيش، حركات ترفع راية الاستقلال الوطني ضد الاستعمار وأعوانه ويحمل بعضها، آجلا أو عاجلا، برنامج إصلاح اقتصادي اجتماعي. وفي مصر بالذات، تنبه جمال عبدالناصر إلى محورية القضية الفلسطينية. ففي 1955، تعرض الفلسطينيون في قطاع غزة الذي كان يقع تحت الإدارة المصرية، ومعهم أفراد الجيش المصري، لاعتداء إسرائيلي، فانتفض أهل القطاع ضد الإدارة التي تكبلهم ولا تحميهم، فاتخذ عبد الناصر موقفا من الانتفاضة وقرر تكوين الفرقة 141 فدائيين من المتطوعين الفلسطينيين، بقيادة مصطفى حافظ، وهي الفرقة التي كبدت العدو خسائر فادحة. جاء ذلك بعد جلاء القوات البريطانية، الذي لحقه قرار تأميم قناة السويس الذي استخدمه الاستعمار كذريعة للعدوان على مصر في العدوان الثلاثي 1956، ليسقط قطاع غزة، الذي كان تحت إدارة مصرية، تحت الحكم العسكري الإسرائيلي.

وعندما تبلورت صورة كُلّيَّة لقضية الوطن العربي لدى عبدالناصر، أصبحت الوحدة العربية بالنسبة له خطوة حتمية وليس مجرد شعارات عاطفية. كانت الوحدة تمثل رعبا بالنسبة للمشروع الصهيوني. فقد أوقفت إسرائيل، تقريبا، اعتداءاتها على حدود الجمهورية العربية المتحدة، وحتى مع افتراض أن القوات الدولية على الحدود المصرية حالت دون وقوع اعتداءات، فإن العدوانين الإسرائيليين على الحدود السورية في فبراير/ شباط، ومارس/ آذار 1960، قد قوبلا بردٍ، كان لأول مرة، ذا مغزى، كما قام الجيش الأول (السوري) بعمليات مضادة، كانت أشد من العدوانين الإسرائيليين.

لعبت المخابرات الأمريكية دورا هاما في فصم عرى الوحدة السورية-المصرية عام 1961، وعمل الأمريكيون كذلك على زيادة تورط مصر في اليمن. وفي عام 1965 اكتُشفت خطط الطواريء السرية بين بريطانيا والولايات المتحدة للتدخل في الشرق الأوسط. وفي العام نفسه أعلن رئيس وزراء إسرائيل ليفي إشكول صراحة أن الأسطول السادس الأمريكي في الشرق الأوسط يشكل احتياطيا استراتيجيا لإسرائيل. الولايات المتحدة، التي وإن لم تكن قد قررت وقتها إسقاط عبد الناصر، واصلت عملية صده وحصره داخل مصر، وهو ما تجلي في عمل أمريكا من أجل إطالة أمد حرب اليمن لاستنزاف الجيش والاقتصاد المصري.

لقد كان رد عبد الناصر على دعوة كنيدي لإيجاد حل للصراع العربي-الإسرائيلي، هو طرح المشكلة من أساسها من جديد، بينما ردت إسرائيل على كينيدي بأن الوقت غير مناسب. ثم ما لبث كينيدي أن استأنف تزويد إسرائيل بالسلاح، الأمر الذي أصبح في 1962 علنيا بعد أن كان يتم عن طريق ألمانيا الغربية، وذلك بعد أن مال الرئيس الفرنسي شارل ديجول للتقارب مع العرب، وإن لم يكن على حساب إسرائيل، كما أوقفت

ألمانيا الغربية الدفعات الكثيفة من السلاح التي توجهها إلى إسرائيل بضغط من العرب.

شهد عام 1966 تصعيدا للسياسة الأمريكية للضغط على عبد الناصر تمهيدا للقضاء عليه. فحسب جريدة لوموند الفرنسية، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل كميات كبيرة من الأسلحة الهجومية في ربيع 1966، بينما كانت قد أوقفت شحنات القمح إلى مصر في مطلع العام نفسه. ويحدد أحد أهم مندوبي المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط بنود الإنذار الأمريكي لعبد الناصر:

  • خروج مصر من المعركة العربية.
  • تصفية الاتحاد الاشتراكي.
  • إدخال نوع من التنظيم على الإدارة، وتحديد عدد الموظفين بـ180ألف.
  • تحديد عدد الجيش بـخمسين ألف عسكري.
  • إلغاء التأميم وتصفية القطاع العام.

لقد اقتضى الإنذار تصفية كل ما حققه عبد الناصر، فكان من البديهي، بل من الحتمي، أن يرفضه. ويؤكد دافيد نيس، الباحث في جامعة كلورادو، أن سياسة أمريكا منذ مطلع 1967 كانت “إسقاط عبد الناصر وعزل مصر عن بقية العالم العربي”. ومنذ بيان جونسون، الذي أكد فيه التزام الولايات المتحدة بحرية الملاحة في المضايق، وحتى العدوان الإسرائيلي، تداخلت أساليب التهديد والترغيب من قِبل الولايات المتحدة، حيث قامت الولايات المتحدة بتحركات عسكرية وأنشطة استخباراتية ضد الجيش المصري.

هكذا، فإن عبد الناصر بالرغم من أنه لم يتبن مشروعا ثوريا جذريا في الداخل والخارج، إلا أنه لم يبخل بالمساعدة لكل الحركات المضادة للرجعية والاستعمار في المنطقة: في اليمن وفي الجزائر، علاوة على تبنيه لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا ازدادت شعبيته وأضحى المد القومي المتنامي خطرا على الاستعمار أفضي في النهاية إلى حرب يونيو 1967. ولعل الملابسات التي شرحناها حول العداء المباشر بين الإمبريالية والمشروع القومي، هي التي أدت إلى الحرب التي كانت فيها إسرائيل، بحق، ذراع لأمريكا.

تفرغت إسرائيل للمقاومة الفلسطينية التي صعدت بقوة منذ منتصف الستينيات مع إعلان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية. وقام النظام الأردني، نيابة عن الصهاينة، بمذبحة للمقاومة فيما عُرف بأيلول الأسود.

ومع فرط الاحترام لشهداءنا في حرب 1973، إلا أن النظام السياسي المصري الذي جاء بعد عبد الناصر، خلع بمنتهى البساطة رداء المرحلة القديمة وارتدى ثياب العمالة الفاقعة، فعمل على القضاء على كل الإنجازات “الجزئية” للحقبة السابقة. وكان أول ما خلعه وألقاه على طول ذراعه هو القومية العربية، وبالتالي القضية الفلسطينية، فكسبت إسرائيل عمليا أكثر مما كسبته خلال حرب يونيو 1967، حيث حقق السادات كل الشروط التي سبق أن أملتها الولايات المتحدة على عبدالناصر قبيل حرب 1967، كما ذكرنا سلفا.

لقد أصبحت أقوى دول الطوق، نعني مصر، في وضع محايد ظاهريا ورسميا. فأصبحت هناك فرصة للمشروع الصهيوني ليتفرغ إلى اتجاهات أخرى، فيضرب المفاعل العراقي مجهضا مشروعه النووي، فيظل العراق محجما عسكريا، ليتكفل النظام العراقي نفسه باستنزاف طاقته في حرب مع إيران، ثم السقوط في الفخ الأمريكي واحتلال الكويت، ثم عاصفة الصحراء والحصار، وأخيرا الاجتياح الأمريكي وإسقاط النظام وإحلال نظام عميل، ونشر الفوضى والطائفية.

من ناحية أخرى، اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان بهدف القضاء على المقاومة، ونجحت في طردها بمساعدة الأيادي البيضاء لعملائها، سعد حداد والكتائب المسيحية، التي قامت عناصرها بدخول مخيمات صابرا وشاتيلا التي حاصرتها القوات الإسرائيلية في السادس عشر من سبتمبر 1982، وقاموا بذبح أكثر من ثلاثة آلاف مدني أعزل بالرصاص والسيوف والبلطات.

وقد أدت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الضفة والقطاع، وصلف قوات الاحتلال في ظل عدم التواصل بين القيادة الفلسطينية في المهجر والشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، إلى اندلاع الانتفاضة الأولى في 1987. هذه المرة أتت الانتفاضة من فلسطينيي الداخل، وبزغت فيها حركة المقاومة الإسلامية حماس. والأكثر من ذلك ، أثبتت للعالم أن القضية الفلسطينية لم تمت، وأن هذا الشعب برغم ما مر به مازال قادرا ومصرا على المقاومة.

وبغض النظر عما ألحقته أوسلو بالقضية الفلسطينية، إلا أنه لولا الانتفاضة ما كانت إسرائيل لتنسحب من أي شبر احتلته. ولكن أوسلو وضعت المقاومة الفلسطينية، سابقا، والسلطة الفلسطينية، حاليا، في موقف صعب. حيث أصبحت ملتزمة بلعب دور الحارس الذليل للمصالح الإسرائيلية في مواقف كثيرة في حياة عرفات، وفي كل المواقف بعد وفاته. وقد مات عرفات في خضم الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في عام 2000، وهي الانتفاضة التي رفعت نجم حماس وكل القوى المقاومة، حتى من بين صفوف فتح.

وما إن تجمد الوضع على فصل غزة عن القطاع، الذي وقع في يد أبو مازن ودحلان، الذين لم يتركا بندقية مقاومة واحدة إلا وصادراها وقمعا أصحابها. هذا في حين أصبحت غزة تحت حكومة حماس، التي انتخبت رغم أنف أمريكا وإسرائيل وأذنابهم في السلطة الفلسطينية، لتلقى جزاء اختيارها المقاومة، الجوع والعطش والحبس والعرضة في أي وقت للاعتداءات الإسرائيلية.

في غضون ذلك انفتحت جبهة الشمال بظهور مقاومة إضافية، ألا وهي حزب الله. أسفرت المواجهات التي تمت بين إسرائيل وبين حزب الله، عن انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، الذي ربضت فيه منذ اجتياحها له عام 1982، فخرجت في أبريل 2000 تجر أذيال الخيبة، بينما ارتفعت أسهم حزب الله وأسهم المقاومة ككل، وتركت أثرا لدى الشارع العربي. كما اتضح أثناء الحربين مدى تواطؤ وعمالة الأنظمة العربية بما لا يقبل الشك. حيث حّملت حزب الله تبعات الاعتداءات الإسرائيلية، كما اتهمته بالتبعية لإيران، مركزة في خطابها على كون عناصر حزب الله تنتمي إلى المذهب الشيعي.

تدور بنا الدورة مجددا لنصل إلى الحلقة الأخيرة في سلسلة المواجهات. في حرب”الرصاص المصبوب”، كان موقف إسرائيل واضحا. فالحرب صبت في خدمة أهداف داخلية هي الانتخابات، وأهداف خارجية هي كسر شوكة المقاومة ورد الاعتبار للجيش الإسرائيلي بعد فشله في مواجهة حزب الله، وإرساء وضع جديد، بالطبع لن يكون نهائيا لأن أطماع الاستعمار الصهوني لن تتوقف وسوف يتفرغ إلى خطط الترانسفير للشعب الفلسطيني حتى من يحملون جوازات سفر إسرائيلية، فيصبح الفلسطينيون إما تحت إدارة عربية عميلة أو في كانتونات، وهذا المشروع لم يعرقله، أو يبطيء من سرعته، سوى المقاومة.

ــــــــــ

· الرصاص المصبوب (عوفيرت يتسوقا)، ليس المقصود بالرصاص (الطلقات) وإنما معدن الرصاص، والتعبير لم يرد في العهد القديم، وإنما مأخوذ من أغنية، تتردد في عيد الحنوكاه، الذي حل في 22 ديسمبر، والذي يخلّد، حسب الرواية اليهودية، ذكرى صمود ثورة المكابيين أمام الرومان، فالتعبير “الرصاص المصبوب” كناية عن الصلابة والصمود.

المصادر:

• موقع صحيفة معاريف الإسرائيلية: www.nrg.co.il

• موقع صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية: www.ynet.co.il

• موقع صحيفة هآرتس الإسرائيلية: www.haaretz.co.il

• موقع السي إن إن بالعربية: http://arabic.cnn.com/2009/gaza.escalation

• موقع هيئة الإذاعة البريطانية بالعربية.

• أنيس صايغ (محررا)، عبد الناصر وما بعد، كتاب قضايا عربية، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980. (انظر: يوسف حسن شوقي، تصور القيادة الناصرية لأسلوب تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، ص65).

• سمير جريس، القدس، المخططات الصهيونية، الاحتلال، التهويد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، بيروت، 1981.

• عبد القادر ياسين، شبهات حول الثورة الفلسطينية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1977.

• عبد القادر ياسين، الحركة الوطنية الفلسطينية: المحطات الرئيسية والدروس المستفادة، دار الكلمة، القاهرة، 2000.

• محمد ربيع، أزمة الفكر الصهيوني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 2، بيروت، 1979.

• محمد عبد الرؤف، موقع القدس في الفكر الصهيوني، التأصيل النظري للتخطيط، وديناميكية التنفيذ، الندوة العالمية حول القدس، الاتحاد البرلماني العربي، الرباط، 26-28 نوفمبر 1998.

• ياسين الحافظ، الهزيمة والإيديولوجية المهزومة، ط2، دمشق، دار الحصاد ، 1997.

• حرب لبنان 1982، الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، مقالات مختارة.

• الانتفاضة الفلسطينية الأولى، الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، مقالات مختارة.