بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

المقاومة والطائفية في الشرق الأوسط

تحاول هذه الدراسة القصيرة الإجابة على عدد من الأسئلة المتعلقة بحاضر ومستقبل حركات مقاومة الإمبريالية المعاصرة. ففي الذكرى الرابعة لاحتلال العراق، وفي ضوء مركزية “النضال ضد الإمبريالية” في الإطار الأوسع لمعركة مناهضة العولمة الرأسمالية بشقيها الاقتصادي والعسكري، تبدو هناك حاجة ملحة لفهم وتحليل حركات المقاومة المنطلقة من بلداننا.

ستهتم السطور التالية بالإجابة على أربعة أسئلة رئيسية: أولا أسباب تحول الشرق الأوسط إلى مركز للمقاومة، ثانيا السمات التي تميز المقاومة في الوقت الحالي عن التجارب السابقة، ثالثا الأزمات التي تتهدد تطور المقاومة، ورابعا وأخيرا موقف اليسار في المنطقة العربية من هذه الظاهرة.

تبدو هذه الأسئلة ملحة لسبب، ربما يتفق عليه كثيرون، يرتبط بالوضع المتناقض لحركات المقاومة في بلدانها الرئيسية – العراق، فلسطين، لبنان، وأفغانستان. فمن ناحية أولى تلعب تلك الحركات، على اختلاف انتماءاتها، دورا بطوليا على صعيد مواجهة النفوذ الإمبريالي في منطقة الشرق الأوسط، والحيلولة دون توسع وامتداد هذا النفوذ، إلى حد أنها مسئولة بدرجة كبيرة عن خلق ظهير مناسب لصعود قوى وحركات مناوئة للإمبريالية الأمريكية ولليبرالية الجديدة في مختلف أركان العالم. لكن تلك الحركات من ناحية ثانية، وهذا هو وجه التناقض، تعاني من مشكلات مصيرية دفعتها في بعض الأحيان مؤخرا إلى حافة الانزلاق إلى هاوية الحروب الأهلية. فكأن الحركات التي فتحت لنا، من ضمن عوامل أخرى، أبواب مرحلة جديدة من الاستقطاب العالمي والنضال الجماهيري، تعاني اليوم من خطر التفكك والانحراف إلى صراعات مذهبية وعرقية قاصمة.

من هنا فإن فهم طبيعة المقاومة الجارية وتحليل سياقاتها ومصائرها يعد عملا على أعلى درجة من الإلحاح بالنسبة للاشتراكيين المدافعين عن مشروع المقاومة وعن تعميقه طبقيا.

لماذا الشرق الأوسط؟
ليس من قبيل المصادفة أن منطقة الشرق الأوسط هي مركز مقاومة الإمبريالية. فالمنطقة تعاني أكثر من غيرها من الهيمنة الإمبريالية. ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون هي رأس الحربة في المقاومة. فمنذ عقود طويلة والمنطقة بمفهومها التقليدي، أو بمفهومها “الكبير” الذي يمتد ليشمل إيران وما حولها من الدول الإسلامية المنفصلة عن الإتحاد السوفيتي، إلى جانب باكستان وأفغانستان وتركيا، هي بؤرة الصراع في العالم. فعلى أرض تلك المنطقة تم خوض معظم الحروب الكبرى خلال أكثر من نصف قرن، بداية من حرب فلسطين 1948، ثم العدوان الثلاثي 1956، والحرب العربية الإسرائيلية 1967، وحرب أكتوبر 1973، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، والعدوان الإسرائيلي على لبنان 1982، وحرب الخليج الثانية 1991، وحرب أفغانستان 2001، والحرب على العراق 2003، وأخيرا الحرب الإسرائيلية اللبنانية 2006. كما أن هذه المنطقة هي عامل أساسي في استراتيجيات الدول الإمبريالية وفي الصراع بينها. كذلك يظل الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة التي لازال بها النموذج الفريد للاستعمار الاستيطاني، متمثلا في الدولة الصهيونية التي زرعها الاستعمار للعب دور الحارس في مواجهة أي توجه معاد له.

وفي الوقت الراهن تكمن أهمية المنطقة في عامل أساسي هو النفط. والنفط ليس مثل أية سلعة أخرى. فهو مصدر الطاقة الرئيسي في العالم، وهو يختلف عن الثروات الأخرى التي زخرت بها المستعمرات. فقد استطاعت الدول الاستعمارية تطوير بدائل لهذه الثروات مما كان أحد الأسباب وراء قبولها التخلي عن المستعمرات مع تصاعد حركات التحرر الوطني. لكن هذا لم يكن ممكنا بالنسبة للنفط آنذاك. كما إنه ليس ممكنا اليوم، بل وليس من المتصور أن يتم في المدى المنظور إنتاج بديل له بنفس التكلفة.

وتحوي منطقة الشرق الأوسط ثلثي احتياطي النفط العالمي. والدول الخمس التي تتمتع بأكبر احتياطي هي دول شرق أوسطية، تتمثل على الترتيب في السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران. ولذلك ارتبط مصير المنطقة بصناعة النفط منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. حيث أعطى انهيار الإمبراطورية العثمانية فرصة للدول الكبرى وشركات النفط لتوزيع الثروة النفطية فيما بينها.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فهي تستهلك حاليا 25% من النفط العالمي، ويسهم النفط في تشغيل 97% من وسائل النقل بها. لكن المسألة النفطية ظلت بالنسبة لهذا البلد شأنا داخليا حتى منتصف الأربعينات. حيث كان الإنتاج المحلي يغطي الاحتياجات. غير أن الوضع تغير جوهريا عقب الحرب العالمية الثانية، حينما بدأت الولايات المتحدة في استيراد النفط بعد أن تآكلت احتياطاته نتيجة لضخامة الاستهلاك. ومن ثم كان حرص الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية على التأكيد لملك السعودية آنذاك، عبد العزيز آل سعود، على أهمية أمن المملكة بالنسبة للسياسة الأمريكية.

وفي أعقاب الأزمات التي واجهت الإمبريالية منذ الخمسينات فصاعدا ـ تأميم مصدق للنفط في 51 وفشل العدوان الثلاثي 1956 وحظر الدول العربية تصدير النفط في أكتوبر 1973 ثم الثورة الإسلامية في إيران 1979ـ أصبحت مسألة تأمين مصادر النفط مسألة أمن قومي أمريكي، وهو ما برز في التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل، وتوطد العلاقات الأمريكية السعودية، ودعم صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية.

وفي العقود الأخيرة، اكتسب النفط أهمية إضافية في ظل أزمة الرأسمالية العالمية. فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية عدة أزمات كساد كبرى، وهو الوضع الذي عزز من أهمية دور الدولة في إنقاذ حياة كثير من الشركات وضمان استمرار تدفق الأرباح بالنسبة لها. في ظل هذا الوضع، أصبحت السيطرة على النفط عنصرا أساسيا بالنسبة للولايات المتحدة في تعزيز هيمنتها في مواجهة الدول الإمبريالية الأخرى.

وفي حقيقة الأمر، فإن الولايات المتحدة لا تعتمد على نفط الشرق الأوسط مثل أوروبا التي تستورد 70% أو اليابان التي تستورد 80% من احتياجاتها النفطية من المنطقة. الولايات المتحدة على العكس تعتمد على النفط المحلي بنسبة حوالي 50%، وتعتمد في استيراد النفط المتبقي على كندا والمكسيك وفنزويلا. فوفقا لبيانات عام 2002، استوردت الولايات المتحدة ما نسبته 17% و13.7% و13.5% من الدول الثلاث على التوالي، إضافة إلى 13.7% من السعودية.

وبالرغم من ذلك، فإن السيطرة على النفط تعد مسألة حيوية بالنسبة للإمبريالية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. ولا يعني ذلك ببساطة مجرد السيطرة على أسعار النفط في حدود منخفضة لا تشكل عبئا ـ لأنه أحيانا يصبح من مصلحة الولايات المتحدة رفع أسعار النفط إذا كان ذلك سوف يضر المنافسين ـ أو تحقيق أرباح لشركات النفط الأمريكية عن طريق السيطرة على مصادره، ولكن وراء السيطرة على الأسعار والمصادر تأتي مسألة خلق مناخ مستقر في داخل الولايات المتحدة وخارجها يسمح للرأسمالية الأمريكية ككل بالتراكم والتوسع والحفاظ على الأرباح.

وفي نفس السياق تأتي أهمية السيطرة على النفط المتاح بالنسبة للدول المنافسة، وإجبار تلك القوى على قبول السياسات الأمريكية في المجالات الأخرى، وتقديم التنازلات للشركات الأمريكية، ودعم الاقتصاد الأمريكي لإخراجه من عثرته. وتصبح المسألة مصيرية بدرجة أكبر في ظل الهوة المتزايدة بين قوة الولايات المتحدة من الناحية العسكرية وقوتها من الناحية الاقتصادية. فعلى الصعيد العسكري، تملك هذه الدولة ترسانة من الأسلحة التقليدية والنووية تتفوق على كافة المنافسين. لكنها من الناحية الاقتصادية تواجه منافسة متزايدة من أوروبا ـ ألمانيا تحديدا ـ والصين واليابان. وقد خلق هذا الوضع اختلالات مهمة في الاقتصاد الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بعجز ميزان المدفوعات.

وكان طبيعيا في ظل هذا الوضع، وفي ظل الضغوط التي تفرضها الأزمة، أن تسعى الإمبريالية الأمريكية إلى الاعتماد على مجال التفوق الأساسي لديها، وهو القدرة العسكرية، لتعويض ضعفها الاقتصادي في مواجهة المنافسين ـ وهو ما حدث في العراق بشكل واضح، وفي أفغانستان بطريقة أقل وضوحا، حيث طغت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على الأهداف الحقيقية للحرب. ومع زيادة حدة المنافسة نصبح بصدد سيناريو حرب لا نهاية لها، تسعى بموجبه الولايات المتحدة إلى زيادة إنفاقها العسكري حتى تتمكن من الهيمنة في المجال الاقتصادي. لذلك يرى البعض أن حرب العراق لن تكون الأخيرة، أو على الأقل لم يكن مخططا لها أن تكون الأخيرة. فاليوم العراق، وغدا إيران ثم سوريا. ويجري تبرير هذا السيناريو بما يسمى الحرب على الإرهاب، والتصدي للدول المارقة.

من هنا يمكن فهم لماذا تدفع منطقتنا الثمن الأفدح لمظالم الإمبريالية. فالمسألة ليست مؤامرة على العرب والإسلام كما ترى بعض التيارات القومية والإسلامية، وإنما تصادف أن هذه المنطقة تتركز بها الثروة الطبيعية الأهم بالنسبة لنمو الرأسمالية، لذلك كان يجب أن تظل خاضعة. وفي هذا السياق يأتي الدعم المطلق لإسرائيل ورفض تقديم أية تنازلات على صعيد الحقوق الفلسطينية، ومساندة النظم الاستبدادية الفاسدة في مواجهة شعوبها، والمسارعة لاحتواء أي خطر يبدو في الأفق، مثلما حدث مع إيران مؤخرا حين سُمح لإسرائيل بالعدوان على لبنان بهدف القضاء على حزب الله، وعندما فشل العدوان، أصبح هناك تفكير جدي في توجيه ضربة عسكرية مباشرة للمنشآت النووية الإيرانية.

ومن هنا أيضا يمكن أن نفهم لماذا تمثل المنطقة رأس الحربة في مواجهة الإمبريالية. وهذا ليس جديدا. لكن الذي تغير اليوم عن الأمس هو سمات المقاومة وتوجهاتها.

بين العلمانية والإسلامية
حركات المقاومة، كما نراها اليوم ممثلة في حزب الله وحماس والمقاومة العراقية وحركة طالبان الأفغانية، تختلف في كثير من جوانبها مثلا عن الحركات العربية المعادية للاستعمار التي برزت في النصف الثاني من القرن العشرين، وأهمها جبهة التحرير الوطني الجزائرية وحركة فتح والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل التي اتخذت من عدن قاعدة لعملياتها ضد الاحتلال البريطاني.

وفي الحقيقة، فإن هناك تشابها أساسيا يتمثل في الدور المحوري الذي لعبته الطبقة الوسطى في قيادة حركات المقاومة الحالية والسابقة، وهو ما سيأتي ذكره لاحقا. لكن اختلافا مهما في التوجهات قد طرأ على طبيعة المقاومة. فقد اتخذت حركات المقاومة في حقبة الخمسينات والستينات طابعا قوميا علمانيا، وأحيانا يساريا، بفعل عديد من العوامل. فمن جهة كان هناك مشروع تحرري وليد يقوم على التخلص من السيطرة الاستعمارية وتحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة عن طريق سياسة إحلال الواردات وتبني سياسات اجتماعية تحقق قدرا من العدالة عبر تطبيق إصلاح زراعي وإعادة توزيع الثروة عن طريق التأميمات وتعزيز دور الدولة في تقديم الخدمات مثل الصحة والتعليم والوظائف. وقد استطاع هذا المشروع، العلماني في طابعه، أن يجذب قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي وجدت في السيطرة الاستعمارية عائقا أمام اضطلاعها بالدور الذي تطمح من خلاله في قيادة بلادها. لذلك نجد أن القادة السياسيين والعسكريين لحركة فتح كانوا من المهنيين ـ ياسر عرفات كان مهندسا عمل فترة في الخليج ـ كما أن كثير من قادة الجبهة الوطنية الجزائرية مثل أحمد بن بله وهواري بومدين والعربي بن مهيدي كانوا من الطلاب. وقد استطاع المشروع القومي التحرري أن يكون في قلب توجهات هذه الحركات.

ومن جهة أخرى، ارتبطت علمانية المقاومة بالدعم الذي أعطته الدولة الستالينية وحلفاؤها للبرجوازية الصغيرة والطبقات الوسطى الراغبة في التحرر من الإمبريالية. ومن ثم فقد كان المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق مصدر دعم بالتسليح والتدريب للكثير من حركات التحرر. فالثورة الجزائرية تلقت المساعدات من هذه الدول عن طريق مصر، كما أن حركة فتح تلقت الأسلحة والتدريب من الاتحاد السوفيتي، وأحيانا الصين، وكذلك الثورة اليمنية.

من ناحية ثالثة، كان للشيوعيين تأثير مهم في الكثير من حركات المقاومة. ففي ثورات العراق ضد الاحتلال وملاك الأراضي وكبار التجار، والتي امتدت من عام 1945 وحتى 1958، تطلع الآلاف صوب الحزب الشيوعي. وكان للشيوعيين نفوذا في حرب التحرير اليمنية، بينما ضمت منظمة التحرير الفلسطينية فصائل ماركسية على رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

غير أنه مع نهاية حقبة السبعينات تخلت حركات المقاومة عن طابعها القومي العلماني واتخذ كثير منها طابعا إسلاميا. وكان ذلك مرتبطا بفشل المشروع الوطني التحرري في دول العالم الثالث بشكل عام وفي المنطقة بشكل خاص. فقد تبنت كثير من الدول، منها مصر والهند والأرجنتين، نموذج إحلال الواردات باعتباره طريقا للتنمية يقوم على نوع من الانفصال عن المراكز الكبرى في النظام العالمي. غير أنه سرعان ما وجدت هذه الدول نفسها عاجزة عن توفير الموارد اللازمة لتمويل عملية التنمية تلك. كما ثبت لمعظم هذه القوى الناشئة أنها غير قادرة على المنافسة وأن هناك حدودا لما يمكن أن تقوم به في عملية التصنيع. من ناحية أخرى، كان لمنطقة الشرق الأوسط وضعا خاصا في هذه العملية. حيث أدت هزيمة يونيو 1967 المدوية وضياع فلسطين بالكامل إلى إظهار إفلاس هذا النموذج الوطني الاستقلالي بشكل لا يقبل المناقشة. ثم جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 لتمثل نموذجا ملهما للقوى المناهضة للإمبريالية.

وفي هذا السياق نشأ حزب الله في لبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام 1982 من رحم حركة تهدف إلى تحسين وضع الشيعة الذي كانوا وما زالوا في قاع الهرم الطبقي في لبنان. واستلهم الحزب النموذج الإيراني منذ نشأته، واضعا هدف إقامة الدولة الإسلامية على نمط ولاية الفقيه على رأس أهدافه، قبل أن تجبره الأوضاع الداخلية والإقليمية على التخلي عن هذا الهدف والانغماس في الواقع السياسي اللبناني. وخلال سنوات قليلة برز الحزب على رأس حركات المقاومة اللبنانية، وكان له الدور الأساسي في خروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000.

وفي فلسطين أُعلن عن تشكيل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) رسميا في ديسمبر 1987 في إطار الضعف الذي شاب منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها المختلفة عقب الصلح بين مصر وإسرائيل وحصار المقاومة الفلسطينية في بيروت وخروجها من لبنان. فقد اعتبرت الحركة، كما ورد في بيانها التأسيسي، أن منظمة التحرير أصبحت تبدي استعدادا لقبول حلول وسط والتخلي عن حق إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. ويشير البيان التأسيسي إلى أن الحركة هي “جزء من حركة النهضة الإسلامية، تؤمن أن هذه النهضة هي المدخل الأساسي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهي.. تعبير عملي عن تيار شعبي واسع ومتجذر في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية يرى في العقيدة والمنطلقات الإسلامية أساسا ثابتا للعمل ضد عدو يحمل منطلقات عقائدية ومشروعا مضادا لكل مشاريع النهوض في الأمة”. أما حركة الجهاد الإسلامي، التي يقتصر دورها على العمل المسلح، فقد تألفت من طلبة سابقين درسوا في مصر في نهاية السبعينات استلهموا نموذج الجماعة الإسلامية والجهاد في مواجهة نظام السادات.

وفي أفغانستان، انبثقت الحركة الإسلامية لطلبة المدارس الدينية (طالبان) في أتون الحرب الأهلية التي اندلعت بين الفصائل الأفغانية عقب زوال الاحتلال السوفيتي (1979-1989). فقد نشأت الحركة في منتصف عام 1994 بولاية قندهار جنوبي أفغانستان بقيادة طلبة المدارس الدينية الذين كانوا يدرسون في باكستان، واستطاعت السيطرة على 90 % من الأراضي الأفغانية بحلول نهاية التسعينات، وذلك بدعم قوي من باكستان التي كانت ترغب في إيجاد بديل أقوى من حكمتيار الزعيم الأفغاني المعارض لحكومة الرئيس برهان الدين رباني وأحمد شاه مسعود، وبغض الطرف من جانب الولايات المتحدة التي كانت ترغب في مواجهة النفوذ الإيراني.

وأخيرا فرغم أن حركة المقاومة العراقية لا تحمل طابعا إسلاميا صرفا، إلا أن المكون الإسلامي فيها يعد رئيسيا. فالمقاومة العراقية التي تتألف من نحو 50 خلية وفقا لبعض التقديرات، تضم في صفوفها البعثيين والسلفيين الإسلاميين ورجال العشائر إضافة إلى دور محدود لفصائل يسارية وعلمانية أخرى.

فلقد كان من مآسي المرحلة البعثية انهيار كافة الآمال المتعلقة بالتحرر والتنمية. فرغم أن نظام البعث حدّ من سلطة كبار الملاك عن طريق إجراء إصلاح زراعي في نهاية الستينات، وساعد على خلق طبقة متوسطة جديدة، وسمح بإعادة توزيع بعض الثروات على الطبقة العاملة عقب تأميم النفط عام 1972، إلا أن المغامرات التي قام بها صدام حسين في إيران ثم الكويت، والهجوم الإمبريالي الوحشي على الشعب العراقي، قضيا على كافة إمكانيات النهضة ووضعا الشعب العراقي تحت نير عقوبات أودت بحياة نحو مليون شخص. وقد كان لانهيار مؤسسات الدولة في العراق في عقد التسعينات أثرا على تنامي دور المؤسسات السنية والشيعية الخيري، ومن ثم ساعد على الصعود السريع لرجال الدين السنة والشيعة وبروزهم السياسي في أعقاب سقوط صدام حسين.

وإذا كانت مظهر الاختلاف الأساسي بين حركات المقاومة الحالية وتلك التي انبثقت من نصف قرن هي غلبة النفوذ الإسلامي على الأولى والميل القومي العلماني للثانية، فإن السمة المهمة الأخرى هي افتقاد المقاومة في وقتنا الحالي إلى مشروع اجتماعي بديل عن المجتمع الراهن.

تستمد حركات المقاومة دعمها الجماهيري الواسع في أحيان كثيرة من القدرة على لعب دور مساعد للدولة، أو بمعنى أصح دور يقوم بملء الفراغ بالنسبة للدور المفترض للدولة والمتعلق بتقديم الخدمات للجماهير الفقيرة. ولعل النموذج الأكثر دلالة على هذا التوجه هو حزب الله الذي يسيطر على شبكة واسعة للرفاهة تضم عيادات ومستشفيات ومدارس وتعطي منحا دراسية ومساعدات للفقراء. وأصبحت كثير من التقديرات تشير إلى أن تلك الشبكة، التي يستفيد منها بشكل أساسي الشيعة في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع الشرقي، تلعب دورا يفوق ذلك الذي تلعبه مؤسسات الدولة في هذه المناطق. ويعتمد الحزب في تمويل هذه الشبكة على الدعم الإيراني والإعانات من أفراد وجماعات وشركات وبنوك في لبنان والخارج، وكذلك المشروعات الاستثمارية الواسعة التي يديرها.

كذلك اضطلعت حركة حماس بنشاط خيري واسع في قطاع غزة الذي يعد من أكثر المناطق فقرا في العالم. فبينما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تطارد فصائل المقاومة العلمانية واليسارية التي كانت تقوم بهجمات مسلحة ضد قوات الاحتلال في الثمانينيات، سمحت هذه القوات للنشطاء الإسلاميين بالعمل في المجال الخيري. كذلك فقد برز الدور الاجتماعي لحماس بوضوح عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، مع التدهور الكبير في حياة سكان القطاع بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل وانهيار مؤسسات السلطة الوطنية.

وهكذا فإن المقاومة اليوم تميل، على الصعيد الاجتماعي والطبقي الداخلي، إلى لعب دور الدولة داخل الدولة أو المؤسسة الخدمية العملاقة، وهو ما يحتاج إلى ارتباطات قوية بأجهزة دول قائمة وبرجال أعمال، أي يحتاج إلى خلق روابط مع المجتمع الرأسمالي القائم ومؤسساته، بدلا من طرح إستراتيجية تغيير اجتماعي جذري تربط بين مقاومة الإمبريالية والنضال ضد الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة.

أزمة المقاومة اليوم
يصعب إنكار أن المقاومة في منطقتنا تلعب الدور الأساسي في مواجهة خطط الإمبريالية. كما يصعب إنكار أنها هي التي تمنع الإمبريالية من المزيد من التوسع. فعلى صعيد الوضع في العراق لا يختلف الكثيرون، حتى المؤيدين للاحتلال، أن العراق قد أصبح مستنقعا لأمريكا التي أصبحت غير قادرة على اتخاذ قرار التراجع رغم صعوبة الاستمرار في ظل الخسائر المادية والبشرية المرتفعة. وفي لبنان حقق حزب الله ما لم تحققه أية دولة عربية في صراعها مع إسرائيل، عبر الصمود وإجبار الجيش الإسرائيلي على التراجع دون تحقيق أهدافه. وفي أفغانستان تصاعدت في الأشهر الأخيرة عمليات المقاومة ضد قوات حلف الناتو وحكومة الدمى برئاسة حميد كرزاي، التي لا تسيطر الآن عمليا إلا على العاصمة كابول وبعض المناطق المحيطة بها. وفي فلسطين، فرغم صعوبة الظرف الذي تواجهه المقاومة بسبب الخلل الهائل في ميزان القوى والحصار الذي تواجهه من جانب إسرائيل والنظم العربية المتحالفة مع أمريكا وإسرائيل، إلا أنها نجحت في إجبار شارون على الانسحاب من غزة في عام 2005.

لكن هذه النجاحات أصبحت في المرحلة الحالية، وتحديدا العام الأخير، تواجه تحديات مصيرية تهدد بحدوث نتائج كارثية أبرزها خطر الحرب الأهلية.

ففي العراق اندلعت شرارة المقاومة في أبريل 2003 حينما أطلقت القوات الأمريكية النار على متظاهرين في الفلوجة مما أودى بحياة 13 شخصا. ويشير أحد التقارير إلى أنه حتى نهاية 2004 استهدفت 75% من العمليات المسلحة قوات الاحتلال، فيما استهدف جانبا مهما من العمليات الباقية المتعاونين والشرطة العراقية. وفي أبريل من نفس العام، حينما شن الجيش الأمريكي هجومه الأول على الفلوجة، انهالت المساعدات على المدينة من المناطق الشيعية، وأقيمت الصلوات المشتركة بين السنة والشيعة، ورفضت أحدى كتائب الجيش الشيعية التوجه إلى الفلوجة لقمع المقاومة. وتحدث كثيرون آنذاك عن وجود تعاون بين قوات جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، التي كانت تقاوم الاحتلال في النجف، وبين الجماعات المسلحة السنية.

غير أن الصورة تغيرت كثيرا في عام 2006، وخاصة عقب الهجوم على ضريح الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في مدينة سامراء السُنية في فبراير. فقد تلا هذا الهجوم على الضريحين الشيعيين تنفيذ هجمات على نحو 170 مسجدا سُنيا، وتم نسف بعض هذه المساجد واستولى الشيعة على البعض الآخر. ومنذ ذلك الحين بدأت الأحياء المشتركة تختفي من بغداد، حيث تعرضت أحياء العاصمة وضواحيها لعمليات تطهير طائفي اضطرت السكان السُنة في الأحياء ذات الأغلبية الشيعية والعكس إلى هجر مناطق إقامتهم وسط تهديدات بالقتل، وتواترت الأنباء عن مشاركة جيش المهدي – الذي يضم عشرات الآلاف من المقاتلين – في عمليات التطهير تلك بغرض إخلاء العاصمة من السُنة، وبرزت عصابات الموت التي تقتل السنة، واتسعت الهجمات على المساجد الشيعية والسنية.

وفي فلسطين، شهدت الأشهر القليلة الماضية صراعا داميا بين نشطاء حركتي فتح وحماس راح ضحيته العشرات بين قتلى وجرحى، وسط خلافات حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وفي ظل حصار إسرائيلي وأمريكي على الأراضي الفلسطينية منذ مارس الماضي حينما شكلت حماس الحكومة الفلسطينية بعد نجاحها الانتخابي.

وفي لبنان، ورغم الطبيعية السياسية للصراع بين الحكومة والمعارضة، إلا أن التركز الطائفي النسبي للفريقين جعل الحديث عن الحرب الأهلية أحدى السيناريوهات المطروحة لتطور النزاع.

وفي أفغانستان، رغم عدم توفر معلومات دقيقة، فإن حركة طالبان السنية المنتمية إلى قومية البشتون، قد اتخذت منذ نشأتها طابعا قبليا وطائفيا، وقامت بشن الهجمات ضد الشيعة والقوميات الأخرى، وهو الأمر الذي تستخدمه قوات الاحتلال لإضعاف المقاومة وكسب أنصار محليين لها من معارضي طالبان.

بالقطع لا يمكن تجاهل الدور الذي تقوم به الإمبريالية وحلفائها في تعزيز النزعات الطائفية داخل حركات المقاومة لتحويل الصراع السياسي والاجتماعي إلى صراع طائفي. وهذه العملية ليست جديدة. حيث تم في لبنان بناء النظام السياسي على أساس طائفي على يد الاستعمار الفرنسي. والآن، لا شك أن عملاء أمريكا وإسرائيل يسعون إلى جرف النزاع السياسي إلى نزاع طائفي عن طريق الاغتيالات المتكررة. وفي العراق، منذ أن بدأت أمريكا في تجميع الفصائل العراقية في الخارج، اتخذت العملية أساسا طائفيا وعرقيا. وعقب الغزو، تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية. ولاشك في أنه عندما تتم إقامة النظام السياسي على أساس طائفي، يصبح من الصعب للغاية التخلي عن ذلك، خاصة وأن الزعامات السياسية والدينية التي عادت إلى العراق مع الاحتلال، قد بنت نفوذها الجماهيري على أسس طائفية، ومن ثم فمن مصلحتها استمرار هذا الوضع. والآن، فإنه من الغني عن القول أن الاحتلال مخترق لجماعات المقاومة العراقية ويلعب دورا تخريبيا في تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية. كما أن قوات الاحتلال وحكومة نوري المالكي تتبعهما عصابات الموت الخاصة بهما، والتي تمارس عمليات قتل طائفي. وفي فلسطين، لا يمكن أيضا إغفال الدور الذي تقوم به أمريكا والدول المجاورة لفلسطين في دعم السلطة الفلسطينية الممثلة في فتح ومدها بالسلاح كي تواجه حماس.

لكن مع ذلك، لا يمكن إنكار أن حركات المقاومة يعتريها خللا رئيسيا يتعلق بافتقارها القدرة على تطوير مشروع اجتماعي قادر على تجاوز الوضع الراهن ودفع المجتمع بأكمله إلى الأمام. وبالطبع لا يمكن المساواة هنا بين كافة حركات المقاومة. حيث أن حزب الله على سبيل المثال يختلف كثيرا عن حركة طالبان من حيث وجود رؤية سياسية واجتماعية، وهو ما عبرت عنه مواقف الحزب الرافضة لخطط التقشف المدعومة من البنك الدولي التي طرحتها حكومات رفيق الحريري. في حين أنه لم ترد أيه إشارات حول وجود رؤى أو أهداف اجتماعية لحركة طالبان وغالبية جماعات المقاومة العراقية.

لكن مع ذلك يبقى حزب الله، الذي قد لا يختلف الكثيرون على أنه أرقى نماذج المقاومة من حيث التماسك ووضوح الرؤية، غير قادر حتى هذه اللحظة على الأقل، على تبنى رؤية اجتماعية تدفع اللبنانيين إلى تجاوز الانتماءات الطائفية لصالح مشروع طبقي واضح ضد الاستغلال. وقد برز ذلك بوضوح خلال الصراع الأخير بين الحكومة والمعارضة في لبنان. فبالرغم من أن الجانب الاجتماعي لم يكن غائبا عن النزاع، بدليل مشاركة الحزب الشيوعي واتحاد العمال في اعتصامات المعارضة، إلا أن حزب الله حرص من خلال الدعاية وخطب السيد حسن نصر الله على إبراز الخلاف السياسي وحده، دون أية محاولة لتبني موقف طبقي يمكن أن يساهم في قسم المجتمع عرضيا بين من يملكون ومن لا يملكون، وهو ما كان يمكن أن يسهم في تعبئة فقراء لبنان وراء الحزب. والأكثر من ذلك أن الحزب تحالف بشكل أساسي في الأزمة الأخيرة، كما في الانتخابات اللبنانية التي جرت قبل نحو عامين، مع التيار الوطني الحر بقيادة ميشيل عون، الزعيم المحافظ المتحالف مع الإمبريالية.

كل ذلك لا يمكن فصله عن الأساس الطبقي للحزب، الذي تقوده شريحة من مهنيي الطبقة الوسطى ـ مهندسون وأطباء ومحامون وغيرهم ـ التي خبرت حراكا اجتماعيا لأعلى عبر قيامها بدور أساسي في تقوية الشبكات الاجتماعية التي يبنيها الحزب. من ناحية أخرى، فإن ارتباط الحزب الوثيق بالنظام الرأسمالي القائم، سواء عبر الاعتماد على الصفقات الداخلية والخارجية في الحصول على الدعم السياسي والمعنوي، أو عبر الاعتماد على شبكة المشروعات التي يديرها ـ كما سبقت الإشارة أعلاه ـ يدفعه حتما إلى اتخاذ موقف اجتماعي محافظ. وفي هذا السياق، نرى أن البرنامج الانتخابي للحزب لم يتجاوز الدعوة إلى توسيع خدمات الصحة والتعليم والمطالبة بإشراك أناس أكفاء في مشروعات التنمية ومواجهة الفساد وتطوير المحليات وغيرها من المطالب التي تعبر عن التوجه الاجتماعي المحافظ للحزب.

ولا تختلف المسألة بالنسبة لحركة حماس التي تضمن الجانب الاجتماعي من برنامجها الانتخابي تشجيع الاستثمارات ومحاربة البطالة والفقر وتحسين الخدمات…إلخ، وهي أهداف يمكن أن ترد في برنامج أي حزب ليبرالي. ولا يبدو ذلك مستغربا أيضا لاعتماد حماس على الطبقة الوسطى من مهنيين ومثقفين ورجال دين، إضافة إلى رجال الإعمال.

وكما سبق القول، فإن الرؤية الاجتماعية لهذه الحركات تقوم على لعب دور بديل للنظام القائم عن طريق تقديم الخدمات والمساعدات التي لا ترغب الدولة في تقديمها، وذلك عن طريق تلقي التبرعات والإعانات من جهات داخلية وخارجية هي بالضرورة محافظة. ويبدو الأمر أكثر وضوحا إذا قارنا رؤى حركات المقاومة الآن بالبرنامج الاجتماعي للجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل التي خاضت مقاومة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن انطلاقا من عدن في الفترة 1963-1967. فقد تضمن برنامج الجبهة إجراء إصلاح زراعي يحرر غالبية الفلاحين من استغلال ملاك الأرض، وتأميم المشروعات الأجنبية، وتغيير النظام الاقتصادي في جنوب اليمن عن طريق إنهاء الاعتماد على الميناء الحر في عدن. وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه رغم أن قادة الجبهة كانوا ينتمون إلى الطبقة الوسطى، فإن وجود مشروع تحرري اجتماعي وتأثير العناصر الشيوعية وما كان يعرف بالدول الاشتراكية لعب دورا أساسيا في إضفاء نوع من الراديكالية الاجتماعية على الحركة وحركات المقاومة عامة في ذلك الحين كما سبقت الإشارة.

لكن تبني المقاومة لمشروع اجتماعي تحرري ليس مسألة ترفية، بل هو ضرورة. حيث أن غياب هذا المشروع يحد من تأثيرها الجماهيري ويجعلها عرضة للانزلاق إلى هاوية الصراع على أساس المذهب أو الانتماء العشائري أو حتى بسبب اختلاف الرؤى السياسية. وتتمثل خطورة اللحظة الراهنة في صعود المذهبية في المنطقة بشكل خطير وربما غير مسبوق منذ زمن طويل. ويرجع ذلك من جهة إلى دور الإمبريالية في تأجيج حدة الانقسام الطائفي، والصراع بين القوى الإقليمية، الذي يتخذ بعدا مذهبيا واضحا كما في حالة إيران، ودور الحكام العرب في الترويج لهذا المناخ الانقسامي الطائفي، عن طريق الحديث عما يسمى بالهلال الشيعي والخطر الإيراني، بهدف توجيه اهتمام الجماهير إلى مخاطر وهمية بدلا من الانتباه إلى المأساة الحقيقة التي تواجهها هذه الشعوب في ظل أنظمة الحكم الفاسدة والمستبدة، وغياب البديل اليساري بتنويعاته المختلفة التي عملت في حقب سابقة على مساعدة الجماهير على تجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية. ولعله ليس من المبالغة القول أن مستقبل المقاومة، وقدرتها على الصمود في مواجهة الإمبريالية والنظم المتحالفة معها في المنطقة، يتوقف إلى حد كبير على قدرتها على التعبير عن آمال الغالبية الساحقة من الجماهير الفقيرة في التحرر من الاستغلال والقهر.

دور اليسار
ارتكب اليسار في منطقتنا أخطاء كارثية خلال ما يزيد عن نصف قرن، لم تؤد إلى اهتزاز صورته ومصداقيته في عيون الجماهير فحسب، ولكن أيضا إلى زوال تأثيره بينهم.

أول هذه الأخطاء كان الخضوع للنظم القومية العلمانية دون قيد أو شرط، وذلك بناء على الرؤية التي فرضها الاتحاد السوفيتي السابق حول “الطريق اللارأسمالي للتحول الاشتراكي”، و”الجبهة الشعبية” و”التحالف مع البرجوازية الوطنية”. ففي مصر حل الشيوعيون حزبهم في 1965 بزعم أن نظام عبد الناصر يسير في طريق الاشتراكية. وفي العراق تحالف الحزب الشيوعي ـ أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم العربي والذي كان مؤيدوه يقدرون بمئات الآلاف ـ مع عبد الكريم قاسم وتعامل مع عبد الكريم قاسم معاملة الأبطال في بدايات الثورة. كما تلقى الحزب توجيهات من موسكو بعدم إرباك موازين القوى الهشة مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عن طريق إثارة صراع على السلطة في العراق. وقد اتضح آخر الأمر أن انتصار عبد الكريم قاسم كان وبالا على الحزب الشيوعي. حيث قام بتنحية مؤيدي الحزب من الحكومة وطهر الجيش من نشطائه. وأدى ذلك إلى إضعاف الحزب إلى أن انتهى به الأمر بلا وسيلة لتعبئة الجماهير في مواجهة الانقلاب الذي قام به حزب البعث عام 1963. وتكرر الخطأ عندما تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث. حيث قبل أن يكون شريكا أصغر في الحكومة عام 1972. لكن ذلك لم يمنع البعث من الانقلاب على الشيوعيين عام 1978 وإعدام الآلاف منهم وإلقاء ألاف آخرين في السجون.

وفي سوريا تحالف الحزب الشيوعي مع حزب البعث فيما سُمى الجبهة الوطنية التي جعلت من القوى السياسية المشاركة بمثابة ملحقات بالبعث إلى يومنا هذا.

الخلاصة أن اليسار في تلك الدول فشل في إدراك الطبيعة المتناقضة للنظم القومية العلمانية. فصحيح أن تلك النظم كانت معادية للإمبريالية. لكنها أيضا كانت صاحبة مشروع طبقي خاص، هو مشروع رأسمالية الدولة الذي لا يختلف جذريا مع التصور الاشتراكي لتغيير المجتمع فحسب، ولكنه أيضا قد ينزع إلى إيجاد قنوات للاتصال مع الإمبريالية حينما يكون ذلك مفيدا. وكانت نتيجة هذا التحالف غير المشروط اهتزاز صورة اليسار في أعين الجماهير.

أما الخطأ الثاني الرئيسي فهو يتعلق بالموقف من الحركات الإسلامية. فقد ترتب على التحليل الذي يعتبر أن الحركات الإسلامية هي حركات فاشية أن أصبحت مواجهة الإسلاميين على رأس الأولويات وتهون في سبيلها كل الصعاب، حتى لو كان ثمن ذلك الوقوف في معسكر الدولة الاستبدادية المتحالفة مع الإمبريالية!

اعتمدت رؤية “فاشية الحركة الإسلامية” على أنها حركة تتبنى شعارات دينية متطرفة تعبر بشكل رجعي فاشي عن معاناة الطبقة الوسطى الجديدة، المتمثلة في المهنيين والمتعلمين، والقديمة المتمثلة في البرجوازية الصغيرة من أصحاب المحلات والمشروعات الصغيرة، وقت الأزمة الرأسمالية. الجانب الصحيح في هذا التحليل هو أن الحركة الإسلامية هي تعبير عن معاناة الطبقة الوسطى من تناقضات المجتمعات الرأسمالية في منطقتنا. فعلى المستوى الخارجي، ورغم حصول دول المنطقة على الاستقلال، إلا أن الإمبريالية لازالت تسيطر على ثرواتها وأهمها النفط. وعلى المستوى الداخلي، فرغم التوسع في الدور الاقتصادي للدولة عبر إنشاء الصناعات العملاقة، إلا أن الإنتاج الحرفي الصغير والعائلي لازال يلعب دورا مهما في المجتمع. ورغم أن التوسع في التعليم أدى إلى تخرج مئات الآلاف وربما الملايين من الجامعات، فقد أدى فشل الدولة في خلق الوظائف الملائمة إلى توجه الكثير منهم للعمل في مهن تقل كثيرا عما كانوا يطمحون إليه. وفي الريف، رغم أن الإصلاح الزراعي أفاد قطاعات من الفلاحين، فقد وجدت قطاعات أخرى نفسها بلا أرض أو تحوز قطع أرض لا تكفي للإعالة مما ترتب عليه هجرة الكثير منهم إلى أطراف المدن للبحث عن عمل. الحركة الإسلامية هي استجابة لهذا الواقع الذي زاد صعوبة وتوحشا مع الأزمة الاقتصادية في الثمانينات ثم مع تبني الليبرالية الجديدة في التسعينات وما بعدها.

لكن هذا التحليل يتجاهل مسألة أساسية، هي أن الفاشية ليست مجرد حركة طبقة وسطى تعبر عن أزمة النظام الرأسمالي وترفع شعارات ضد الأقليات أو النساء. الحركات لا تصبح فاشية إلا عندما تلعب دورا لصالح رأس المال، أي عندما تسعى إلى مساعدة الطبقة الرأسمالية على الخروج من أزمتها على حساب الطبقة العاملة. لذلك وجهت المنظمات الفاشية في ألمانيا وإيطاليا سهامها إلى اتحادات العمال والشيوعيين. لكن الوضع يختلف بالنسبة للحركات الإسلامية التي وقفت في كثير من الأحيان ضد الدولة وهاجمت مصالح الإمبريالية، وهو ما لم يكن مطروحا في حالة المنظمات الفاشية. وعلى أية حال، فقد نتج عن هذا التحليل أن تحالف اليسار مع الدولة في مواجهة الإسلاميين، كما حدث في مصر بشكل واضح، مما وجه ضربة قاتلة إلى تأثير اليسار.

وعودة إلى الموقف من المقاومة. فقد انسحب الموقف من الحركة الإسلامية على الموقف من المقاومة الإسلامية التي أصبحت في أعين كثير من قوى اليسار رجعية وغير جديرة بالدعم لأن قواها الأساسية ذات مرجعية إسلامية. لذلك نجد أن كثير من اليساريين في مصر والعالم العربي قد اتخذوا موقفا مناوئا لحزب الله في الحرب الأخيرة في لبنان. وكذلك بالنسبة للمقاومة في فلسطين والعراق.

لكن المقاومة، شئنا أم أبينا، هي العائق الأول الذي يحول في الوقت الراهن دون نجاح الخطط الإمبريالية. فما حدث في لبنان وما يحدث في العراق وأفغانستان، هو الذي يمنع أمريكا من تصعيد عدوانها ضد إيران وسوريا وفنزويلا وحتى كوريا. وكون المقاومة اليوم ذات توجه إسلامي لا يغير من هذه الحقيقة. بالتأكيد نحن كاشتراكيين كنا نود أن نرى مقاومة ذات طبيعة يسارية، لكن هناك أمر واقع لا بد من التعامل معه كما هو. ومن ثم فإن تأييد المقاومة تأييدا غير مشروط، دون أن يعني ذلك اعتبار أن المقاومة فوق النقد، هو ضرورة حتمية إذا كان اليسار يسعى جديا للتأثير بين الجماهير في المنطقة. وإلا فسوف يضيف اليسار إلى أخطائه التاريخية خطأ جديدا يمكن أن يساهم في إصابته بالشلل لأجيال قادمة، خاصة أن تكتيك التأييد النقدي غير المشروط للمقاومة، هذا التكتيك الذي طوره الشيوعيون الثوريون في مطلع القرن العشرين، هو الوحيد القادر على إعطاء اليسار فرصة _ يحتاجها هو وتحتاجها الحركة الجماهيرية _ للتأثير على المقاومة لتجاوز أخطاءها ولتبني مشروع اجتماعي يجمع حولها الجماهير ويقضي على احتمالات الانقسام العرقي والديني والمذهبي.

مصادر رئيسية
1. آن الكسندر وسيمون عساف، الانتخابات والطائفية في العراق، مجلة انترناشيونال سوشياليزم، العدد 106.

2. آن الكسندر وسيمون عساف، صعود المقاومة العراقية، مجلة انترناشيونال سوشياليزم، العدد 105.

3. جون ريس، الإمبريالية والمقاومة، روتلدج، لندن ونيويورك، 2006.

4. حوار مع أليكس كالينيكوس، الإمبريالية والمقاومة في الشرق الأوسط، موقع حزب العمال الاشتراكي البريطاني على الإنترنت

http://www.swp.org.uk/swp_archive.php?article_id=10032

5. كريس هارمان، النبي والبروليتاريا، مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، 1996.

6. كريس هارمان، تحليل الإمبريالية، مجلة انترناشيونال سوشياليزم، العدد 99.

7. كريس هارمان، المقاومة اللبنانية وتحديات المستقبل، مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، 2007.