بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

«عنب بلدي» من كروم الثورة:

الصحافة والسلطة البديلة في سوريا

منذ أن انفجرت الثورة السورية وانطلقت معها إبداعات شعب ثائر مازالت تصدح حناجره ضد قمع النظام. فمن لافتات كفرنبل التي عكست وعي الثوار بقضيتهم إلى التنسيقيات والمجالس المحلية، أثبتت الإرادة الشعبية التي صنعت الثورات بأنها قادرة أيضاً على صنع البديل.

جريدة “عنب بلدي” هي واحدة من الجرائد الشعبية السورية التي انطلقت تزامناً مع اقتحام القوات النظامية حي بابا عمرو العام الماضي. انطلقت الجريدة من قلب مدينة داريا الصامدة بريف دمشق ومعها ما لا يقل عن 30 مجلة وصحيفة من نشطاء ثوريين داخل الأراضي السورية ليس فقط لتناول الشأن الداخلي السوري، لكن لتعميم تجارب ثورية بين المناطق المختلفة وقبل ذلك تحدي السيطرة النظامية على أدوات السلطة.

جريدة “الاشتراكي” أجرت حواراً مع رئيس التحرير لمعرفة المزيد حول تجربة الإعلام البديل والصحافة الثورية.

في ظل الحصار المتزايد للأداة الإعلامية بدءاً باستهداف الصحفيين وقتلهم إلى قطع كافة وسائل الاتصال، كيف بدأت تجربتكم؟ وما هي رؤيتكم حول الصحافة الثورية والإعلام البديل؟

تجربتنا في جريدة عنب بلدي جاءت كتطور طبيعي لمجموعة من النشاطات ذات الطابع السلمي والمدني في مدينة داريا، والتي قمنا بها كنشطاء منذ بداية الثورة وتمثلت في المناشير السياسية والبوسترات والقصاصات التوعوية، التي كنا ننفذها كرد على إعلام النظام ومحاولاته المستمرة لتشويه الواقع وقلب الحقائق والتأثير سلباً على وعي الناس، ولم تكن فكرة إطلاق الجريدة فريدة حينها؛ إذ كانت هناك أكثر من صحيفة قد صدرت قبل أن نفكر نحن بإصدار صحيفتنا، وقد وجدنا في أنفسنا القدرة المبدئية على إنتاج صحيفة تكون ساحة حرة لأقلامنا وأفكارنا، ونقدم من خلالها تجربتنا الخاصة في عالم الصحافة رغم عدم أهليتنا المهنية الكافية في ذلك الوقت، وافتقارنا لمتخصصين في الإعلام والصحافة. وقد أخذت فترة التأسيس منا حوالي الشهرين، نظمنا خلالها الفريق ووزعنا المهام وقمنا باختيار الاسم وتصميم القالب وتبويب الصفحات وبدأنا العمل حثيثاً على إصدار العدد “صفر” الذي تم إطلاقه بتاريخ 29/1/2012 والذي نعتبره يوم ميلاد عنب بلدي.

منذ تأسيسنا لمشروع الجريدة دارت حوارات كثيرة بيننا في مجموعة العمل عن جدوى إصدارها الأهداف المرجوة منها والوظيفة التي من الممكن أن تلعبها الجريدة وسط زحمة الوسائل الإعلامية المتنوعة. لكننا قررنا العمل على إصدارها بدون أن يكون لدينا أفق واضح في حينها. ومع الوقت اكتشفنا أهمية دورنا كصحافة بديلة قادرة – إلى حد ما – على إظهار الوجه الحقيقي للثورة وعلى تغطية الأحداث من أرض الثورة، وتوثيق الانتهاكات والجرائم والتجاوزات.

يعد ريف دمشق من أوائل المحافظات، كسائر مناطق الأرياف، التي احتضنت العمل الشعبي والعمل المسلح على حد سواء. كيف لعبت الجريدة دوراً ناظماً للتحركات؟

جريدة عنب بلدي وكغيرها من صحف الثورة لا تملك القدرة عملياً على نظم التحركات الشعبية أو قيادتها بقدر ما تعني بالدرجة الأولى بتغطية تلك التحركات صحفياً، إذ أن الشارع في غالبه يتلقى ثقافته من ميادين الثورة أولاً، وينظم صفوفه وينسق تحركاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي ذات التأثير الأكبر في الشارع الثائر. وهذا لا يعني أن المطبوعات (الصحف والمجلات) ليس لها تأثير في جوانب أخرى، إذ أنها في الحقيقة تمارس دورها كسلطة رقابية في ضبط بعض أخطاء الثورة ومحاولة تقويمها من خلال تسليط الضوء عليها والإشارة إليها، وقد حدث أكثر من مرة أن قامت عنب بلدي بمحاولة إثارة رأي عام تجاه تجاوزات معينة كان يقوم بها عناصر من الجيش الحر مثلاً في فترة من الفترات، وقد لوحظ أثر بعض التحقيقات التي أجرتها الجريدة في شريحة معينة من الجمهور، وذلك من خلال ردود أفعال مختلفة تمثلت أحياناً بتداول المادة المنشورة وتعميم فكرة النقد الذاتي للثورة، وأحياناً أخرى بالتهجم على الجريدة واتهام صحفييها بمحاولة وهن نفسية الثوار!

أظهرت صفحات الجريدة دوراً واضحاً في تتبع الأحداث السياسية المتلاحقة، كذلك حصر نقاط التظاهر وتتبعها. في ضوء سياستكم التحريرية كيف ترون الدور الذي تتطلعون إليه؟ وماذا عن مصادر مراسلات الجريدة؟

نحن نعتبر أن صحف الثورة لها عدة وظائف في هذه المرحلة من تاريخ سوريا، أهمهما من وجهة نظرنا التوثيق والتأريخ لمرحلة الثورة، فنحن ندرك تماماً أننا لسنا قادرون على منافسة الوكالات الإخبارية والمحطات الفضائية في نقل الأخبار وتغطية الأحداث بنفس الطرق وبنفس الحرفية، لكننا نهدف من وراء تغطية التطورات السياسية والميدانية إلى تثبيت هذه الأحداث ضمن وثيقة ورقية تحوي بالإضافة إلى ذلك سلسلة من قصص الواقع، وحكايا الناس وهمومهم، بالإضافة إلى قصص الشهداء والمعتقلين، لتشكل بالنتيجة صورة متكاملة لمجمل الأوضاع في فترة صدور كل عدد.

بالنسبة لمصادرنا الإخبارية فإننا نعتمد على 3 مصادر رئيسية تبعاً لنوع التغطية. فالتقارير الإخبارية والتحقيقات الصحفية الميدانية من داريا ومحيطها نعتمد فيها مراسلي الفريق المتواجدين بطبيعة الحال في المدينة، والذين يتابعون كل التطورات لحظة بلحظة ويجرون المقابلات مع الناس ومع النشطاء والثوار. وبالنسبة للتغطيات الإخبارية في بقية المناطق السورية فإننا نعتمد على مجموعة من المراسلين الذين يعملون معنا من مناطقهم في أكثر من محافظة سورية مثل حمص وحلب وإدلب ودير الزور. أما التقارير الإخبارية والسياسية الدولية المتصلة بالشأن السوري فإننا نعتمد فيها بشكل أساسي على الوكالات الدولية والمواقع الإخبارية الشهيرة.

عانت مدينة داريا من عدة اقتحامات من القوات النظامية أسفرت عن آلاف الشهداء والمعتقلين فيما يواصل الطيران الأسدي قصفه للمدينة منذ عدة شهور. كيف يمكنكم التغلب على المعوقات ومواصلة العمل تحت تلك الظروف؟

تعاني الصحافة الحرة في عموم البلاد من ضغوط كبيرة ومصاعب كثيرة، وهذا أحد أسباب توقف الكثير من التجارب الصحفية في سوريا بعد أشهر قليلة من انطلاقتها. إذ يقع الصحفيون والإعلاميون تحت خطر الملاحقة الأمنية والتهديد بالقتل والاعتقال من قبل السلطات بمجرد انخراطهم في مثل هذه النشاطات، وهذا ما يدفعنا – في عنب بلدي – لاتباع سياسيات أمنية صارمة في التعامل والتواصل مع الآخرين خشية أن تكشف هوياتنا وما يترتب على ذلك من مخاطر التوقيف والاعتقال على الحواجز المنتشرة في كل المناطق، وهو ما يؤثر بشكل كبير على سوية عملنا، إذ لا نستطيع أن نصرح دائماً بطبيعة عملنا في جريدة عنب بلدي أثناء تغطيتنا للحراك الثوري في المدينة، كما نجد صعوبة في إجراء المقابلات المباشرة مع الناس، وكل ذلك لأن عنب بلدي وُضعت على قائمة المطلوبين لدى فرع الأمن الجوي وبات من الخطير التصريح بالانتماء لها. لكن هذه الحيطة لم تكن قادرة على إيقاف الاعتقالات التي تعرض لها زملاؤنا وأصدقاؤنا في العمل الإعلامي. وقد مُنيَ فريق عنب بلدي باعتقال عدد من أعضائه منذ انطلاقة الجريدة قبل سنة ونصف، ولكنهم جميعاً اعتُقلوا على خلفية نشاطات ثورية أخرى أو بشكل عشوائي وهذا ما سهّل خروج بعضهم بعد قضائهم فترات مختلفة داخل المعتقلات.

المصاعب الأخرى التي يواجهها الفريق هي الوضع الميداني في المدينة، إذ تشهد داريا قصفاً مستمراً منذ أكثر من سبعة أشهر استهدف كل أحيائها تقريباً، ومن ضمنها الحي الذي كان فيه مقرنا السري وتوجد فيه معدات الطباعة وبعض الحواسب ولوازم العمل، ما أدى إلى خسارتها جميعها وأجبر عدداً من أعضاء الفريق على مغادرة المدينة والعمل من خارجها، لكن الأعضاء الذين بقوا داخل المدينة كانوا تحت خطر كبير وقد خسرت الجريدة ثلاثة من أهمهم، وهم محمد قريطم أحد مؤسسي الجريدة الذي استشهد بصاروخ طائرة ميغ، ومحمد فارس شحادة أحد أهم مراسلي الجريدة الميدانيين استشهد بقذيفة دبابة استهدفت السيارة التي كان يقلها، وأخيراً أحمد شحادة مدير تحرير الجريدة الذي استشهد بشظية قذيفة سقطت إلى جانبه. وكانت الجريدة مهددة بعد كل حادثة بالتوقف لشدة وقع الصدمة على أعضاء الفريق جراء فقدان زملائهم، لكن الجريدة استمرت بالصدور بانتظام بفضل الله وبسبب تنظيم مجموعة العمل وإصرار الفريق على تحدي الآلام وتجاوزها.

يزعم البعض أن الاقتتال الداخلي أطاح بالثورة السورية ومطالبها. كيف تردون على مزاعم انتهاء المبادرات والعمل الشعبي؟

لا شك أن المعارك اليومية والاشتباكات المستمرة على طول وعرض الأراضي السورية قد حرفت مسار الثورة في أكثر من مكان وجعلت امكانية التغيير الشعبي أعقد وأصعب بعد أن انتشر السلاح بين الناس وساد صوت الرصاص في مختلف أنحاء البلاد، وبعد أن دخل القتل إلى كل بيت، وبعد أن شُردت مئات العائلات واعتقل وجُرح آلاف السوريين، كل ذلك يؤخر العمل الشعبي والمجتمعي ويترك الساحات مفتوحة أمام العمل المسلح ويجعل الأولوية عند الثوار هي للانتقام وللرد العسكري الذي أصبح الكثيرون يظنون أنه السبيل الوحيد للخلاص.

لكن من جهة أخرى لا يمكن القطع بأن واقع الاقتتال في سوريا قد أنهى كل المبادرات والفعاليات الشعبية والمجتمعية، فسوريا تشهد اليوم حراكاً مدنياً وثقافياً واسعاً؛ فالمظاهرات السلمية لا زالت مستمرة في كثير من المناطق، كما تشهد مناطق عديدة في البلاد إقامة المعارض والحفلات والندوات، بالإضافة إلى إقامة مشاريع تربوية وتوعوية وتثقيفية كروضات الأطفال ودورات التأهيل المدني، ومؤخراً شهدت دوما (وهي من أكثر المناطق سخونة في المنطقة الجنوبية) افتتاح مكتبة بيت الحكمة وهي مكتبة عمومية تقوم على نشر الوعي من خلال إعارة الكتب ونشر ثقافة القراءة لدى الشباب، كل ذلك بالإضافة إلى الإصدارات الصحفية المتنوعة التي جاوزت الـ 30 صحيفة ومجلة منها 10 على الأقل يتم طباعتها وتوزيعها داخل الأراضي السورية.

على غرار إصدار صحافة شعبية بديلة، ما هي مظاهر السلطة الشعبية البديلة التي ظهرت بالمدينة؟

في داريا تم العمل على بناء مؤسسات عديدة تعتبر “سلطات” بكل معنى الكلمة، وعلى رأس تلك المؤسسات المجلس المحلي لمدينة داريا، والذي يضم مجموعة من المكاتب تعتبر بمثابة مؤسسات مستقلة في مختلف الاختصاصات، كالمكتب الإعلامي، والمكتب الطبي، والمكتب القانوني، والعسكري، والمالي. إذ تحاول تلك المكاتب القيام بمهامها الكاملة ضمن اختصاصاتها وضمن الإمكانيات المتاحة لديها، تمهيداً لأن تكون مؤسسات بديلة عن مؤسسات النظام قادرة على إدارة شئون الناس ونظم حياتهم.

وفي ضوء تجربتكم كيف تجدون أفق السلطة الشعبية البديلة في الثورة السورية؟

قسم كبير من السلطات البديلة التي نشأت في ظل الثورة مرشح لأن يكون السلطات الحقيقية في مستقبل سوريا وهناك محاولات جادة في كثير من المناطق لمأسسة النشاطات الخدمية والأهلية والهيئات العسكرية والشرعية وغيرها بما يسمح لها أن تكون سلطة بديلة شرعية بعد زوال النظام الحالي. في المقابل هناك الكثير من المؤسسات التي نشأت لمصالح آنية ولأهداف محددة ستسقط بشكل طبيعي مع انتهاء الغايات التي أُنشئت لأجلها.

من رأيكم كيف ترون نهاية الصراع وما أهم عوامل انتصار الثورة في سوريا؟

كل المعطيات تشير إلى نهايات مأساوية للأسف، فلا يبدو أن النظام سيتوقف عن تدمير البلاد لإنهاء الثورة أو بقائه، كما لا يبدو أن الأطراف الممثلة للثورة من معارضة ومجالس سياسية تستطيع إدارة حلول للخروج من الأزمة وإنهاء الصراع الذي أخذ بعداً إقليمياً وطائفياً.. ويبقى الرهان الحقيقي في كل الأوقات على وعي الثوار على الأرض، وعلى قدرتهم على إعادة قطار الثورة إلى السكة التي انطلق عليها منذ البداية، وحتى نصل إلى ذلك الوقت ستبقى عنب بلدي (ومعها صحف الثورة السورية) تمارس دورها الرقابي على الثورة وعلى النظام على حد سواء ولن تتردد في تسليط الضوء وفضح على كل ما من شأنه أن يؤخر انتصار قضية الشعب السوري.