الصهيونية: تاريخها وأعمالها
«لو أن العرب انتبهوا إلى ما يجري في أرض فسطين، منذ نهاية القرن التاسع عشر…لما وقعت المأساة…!، ينطلق محرر الكتاب من هذه المقولة، لبيان مدى صحتها، استهل المحرر كتابه، بعرض للسيرة الذاتية لجورجي زيدان، منذ مولده في بيروت 1861م، ودراسته، ثم سفره إلى مصر، وعمله الصحفي، وأنشأ «الهلال»، في سبتمبر أيلول 1892. تعرض زيدان لحملة شعواء، بسبب ترشيحه لتدريس مادة «تاريخ مصر الإسلامية» في الجامعة، انتهت بسحب الترشيح، وقد سافر على إثرها في جولة، في الشام، ثم أوروبا، واختص فلسطين بزيارة طويلة، في صيف 1913، حتى وفاته، في يونيو 1914.
نظر معظم المفكرين، المعاصرين لزيدان، إلى المشكلة باعتبارها هجرات جماعية يهودية، لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية. وكان الصحفيون الموالين للصهيونية، يروجون لاعتبار الصهيونية ستأتي بالتقدم والرقي. وكان وصف زيدان للصهيونية بأنها «حكومة يهودية، ضمن حكومة عثمانية»، هو أقرب التصورات دقة في ذلك الوقت. كما لمس الممارسات الصهيونية لتهويد معالم فلسطين.
فلسطين، تاريخها وآثارها، وسائر أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، من رحلة لصاحب الهلال. من هنا يبدأ نص الحلقات التي نشرها جورجي زيدان، في الهلال. يبدا زيدان بعرض «فذلكة تاريخية»، ويؤخذ عليه، أنه اعتمد بشكل كبير على رواية العهد القديم، في تاريخ فلسطين القديم. كذلك وصفه «هيكل سليمان»، اعتماداً على قصص التوراة، وعلى «تصوُّر» وضعه أحد المستشرقين (ص72-78). وقوله و»اليهود هم أقدم الأمم الفلسطينية الباقية حتى الآن» (ص128)،
ثم يسرد، المراحل التي مرت بها فلسطين، تباعا، الحكم العربي ثم الصليبيين، ثم الدولة الأيوبية، ثم المماليك، ثم العثمانيين، «وآخر ما أصابها من الطوارئ الاقتصادية والاجتماعية، قدوم الإرساليات الدينية النصرانية لإنشاء المدارس، ونشر التمدن الحديث. ثم عود اليهود إلى استعمارها» ويؤخذ على زيدان، الإقرار بمفهوم «عودة « اليهود، وهو من أسس الدعاية الصهيونية.
القدس
ثم يتحدث زيدان عن القدس وآثارها وجغرافيتها، وإقليمها، وهو يذكر ان سكانها، بالتقريب،90ألفا، 60ألفا من الإسرائيليين(اليهود)، و12ألفا من المسلمين، و18ألفا من المسيحيين. ولكن دون الإشارة إلى مصدر هذه الأرقام.(ص61). ويذكر، ببعض التفصيل الآثار المسيحية ثم الإسلامية، كما يصف «مبكى اليهود»بأنه جزء من الحائط الغربي، طوله 50متراً، عليه كتابات بالعبرانية، هي أسماء كتبها الزوار. ثم يصف زيدان عدد من المدن الفلسطينية.
في الفصل الثالث من الكتاب «نظام الاجتماع فيها» يتناول زيدان الاوضاع الاجتماعية في فلسطين:»كان نظام الاجتماع في الشرق العربي والإسلامي…مؤلفا من طبقتين: الخاصة والعامة. والخاصة عبارة عن الحكومة وأرباب البيوتات ومن يلحق بهم، والعامة هم التجار والصناع والفلاحون ونحوهم.»(ص105) ثم يستدرك زيدان انه، لكون الحكومة تركية، مسلمة فإن:»طبقات الاجتماع في سوريا وفلسطين ثلاث: رجال الحكومة والأتراك، ومن يلحق بهم، فالمسلمون أهل الأنساب والموظفين وغيرهم، ثم المسيحيين واليهود، أو أهل الذمة»(ص106).
من الواضح أن زيدان يستخدم كلمة طبقة بمعنى مختلف عن المفهوم الماركسي، فهو يستخدمها بمعنى فئة أحياناً أو طائفة أحياناً أخرى، وصحيح أن نظام العثماني، استند إلى الطائفية وكرسها، لكن الواقع يقول أن التقسيم الطبقي، لم يكن مرتبطًا بالتقسيم الطائفي بالضرورة.
يؤكد ذلك، ويناقض ما طرحه زيدان، قوله في موضع تالي:»وكان المسيحيون فرقاً لا تزال باقية حتى الآن، وكل فرقة مكونة من طبقتين» العامة، وفيهم الصناع والتجار، يرأسهم طائفة الإكليروس…وهؤلاء هم الخاصة عندهم»(ص106). لكنه هنا أيضا قد جانب الصواب، فالتقسيم الطبقي، بين المسيحيين، لم يكن بين العامة، والصفوة الدينية، حيث أن الأخيرة، لا يُصنف المنتمين إليها إلى طبقة واحدة، والأمر نفسه على المسيحيين العاديين، خارج المؤسسة الكنسية.
ثم تحدث زيدان عن الحملة الفرنسية، التي رأى أنها لم تحدث أي تأثير، ولكن التأثير في رأيه، كان لتوافد الأجانب أصحاب الامتيازات، والإرساليات والمدارس التي افتتحتها، وإن طبقة تولدت من المتعلمين المسلمين والنصارى(ص107)، وأن أحزابا دينية تألفت لمطالبة رجال دين بإصلاح…والأحزاب السياسية لمطالبة الحكومة بإصلاح إدارتها(ص108) ومن المرجح، أنه لم يكن يقصد «أحزاب»بالمعنى المعروف لدينا الآن.
الأوضاع الاقتصادية
وعن «أحوالها الاقتصادية»،يتحدث زيدان باقتضاب، وتعميم غير دقيق، لكنه يركز على ظاهرة الهجرة، ولكن بنفس الرؤية، السطحية، بأن جميع من هاجروا فقراء عادوا وهم أصحاب ثروات. ثم يتحدث عن الثروات الطبيعية، مشيرًا إلى وجود مناطق تحتاج للاستصلاح، وأن هناك مناطق للرعاة، لا زالوا يعيشون كالجاهلية. والاهم، ما ذكره عن مناطق شاسعة من السهول الخصبة، التي استولت عليها الحكومة العثمانية، منذ زمن، ثم عرضتها للبيع، من بينها، منطقة الغور في حيفا، والتي كان يسكنها نحو 20ألفا من الفلاحين، واحتج الأعيان على بيعه لليهود، فأرجئت الحكومة بيعه مؤقتًا. كما ان بعض «الأثرياء الوطنيين» اشتروا بعض الأراضي، واحتكروا بعض المناجم، وأن»غير واحد من أهل الثروة في مصر وغيرها قد هموا لابتياع بعض تلك الأرضين»(ص115) ولكن»اليهود باذلون جهودهم في ابتياع أراضي فلسطين، حيثما تيسر لهم…بمساعدة الجمعية الصهيونية..» (ص116)
الاستيطان
ينتقل زيدان إلى الجزء الأهم، «المستعمرات اليهودية في فلسطين»، فيقول:»رغم احتجاج المسلمين والمسيحيين وغيرهم من الوطنيين على بيع الأراضي لليهود..» ثم يصف حداثة وتقدم المستوطنات، وتنوع أنشطتها، بين سكنية وزراعية وصناعية،»وقد أحصى بعضهم هذه المستعمرات…فزادت عن أربعين مستعمرة، يختلف سكانها بين بضع عشرات إلى بضع مئات أو بضعة آلاف، وفيهم الوطنيون والألمان والروسيون، والإسبان، تجمعهم جامعة بني إسرائيل.(ص117). وهناك تحفظ على كلمة الوطنيون، فالحقيقة أن الاستيطان اعتمد على يهود شرق أوروبا في الأساس، وعامة، كان اليهود المحليين مستبعدين من ناحية، وعازفين، لأكثر من سبب، على الانخراط في المشروع الاستيطاني، من ناحية أخرى.
«قال لنا وجيه فيهم ظل اليهود أدهاراً مضطهدين، وأحياؤهم مضرب المثل في القذارة…» (ص118) وهكذا، وفي مواضع أخرى يتبين أن زيدان لم يجد غضاضة في التعامل المباشر مع الصهاينة، في سبيل تقصي أحوال المستوطنات. وهو يركز على انعزال اليهود بشئونهم، وصبغ المدن بصبغة يهودية، وتسمية المحال والشوارع باللغة العبرية، حتى وصفهم بــ«حكومة يهودية ضمن حكومة عثمانية»
وتحت عنوان «مستقبل فلسطين لليهود»، يعبر زيدان عن قلقه من أن استمرار وتيرة الهجرات والاستيطان وتحويل ملكية الأراضي، سوف يجعل فلسطين كلها لليهود. كما قدّم زيدان اقتراحات لمقاومة المشروع الصهيوني، على شاكلة» النسج على منوال هؤلاء المستعمرين، من حيث تعمير الأرض بالطرق العلمية، وإنقاذ الفلاح من المرابي بالطرق المعقولة، إما بإنشاء النقابات الزراعية، أو نحو ذلك…»(ص121).
تحت عنوان «أجناس أهل فلسطين»، يقول أن أهل فلسطين، هم العرب، والسوريون، و»اليهود …وعددهم الآن78ألفا، أكثرهم في القدس ويافا، وهم طبقتان، اليهود الوطنيون…واليهود الغرباء الذي عادوا في العهد الأخير، وهؤلاء أكثرهم عدداً، ويذكر زيدان أن عدد الأشكناز يقترب من عشرة أضعاف السفاراد. (ص128).
في مقابل ضعف التعليم في فلسطين والمملكة العثمانية عامة (ص139). يذكر زيدان تطور التعليم اليهودي، والمدارس العبرية الحديثة، التي تفقدها، وتحدث مع مسئوليها.
الصهيونية
تحت عنوان»الصهيونية، تاريخها وأعمالها»، يبدأ بتعريف الصهيونية: «دعوة اجتماعية سياسية انتشرت في الأمة الإسرائيلية بأواخر القرن الماضي». ثم يعود زيدان ليتحدث عن تاريخ اليهود منذ الشتات «وقد حاولوا استرداد ذلك الوطن عبثا…وحاول اليهود..استرجاع ذلك الوطن غير مرة بأساليب مختلفة، آخرها الحركة الصهيونية..»(ص152) ورغم عرض زيدان لبعض النبوءات التوراتية، التي تستند إليها الدعاية الصهيونية، يؤكد على «أن هذه الأقوال وأمثالها لا تكفي لإجماع الأمة..» فهو يرى أن العوامل التي أفرزت الصهيونية هي العصبية القومية، ومعاداة السامية(ص154). ويعكس ذلك، علاوة على المعلومات التي ذكرها، عن المؤتمر الصهيوني، وعن التيارات الصهيونية، ومعارضة السلطة الدينية في البداية، وكل المشروعات البديلة (مشروع أوغندا)، وكم جيد من المعلومات، خاصة في هذا الوقت المبكر. يعكس ذلك وعيا متقدما بأبعاد المشروع الصهيوني.
المقال الأخير في الكتاب «اليهود في الدولة الرومانية والدول الإسلامية»، يسرد تاريخ اليهود، سردا سريعا، مؤكدا على تباين وضعهم بين الدول الأوروبية، وبين معيشتهم في الدول الإسلامية، واستقرارهم وازدهارهم في الأخيرة.
أخيرًا، وبرغم بعض القصور، فإن رؤية جورجي زيدان لأبعاد الخطر الصهيوني، تنم عن وعي متقدم يالمقارنه مع معاصريه من المثقفين العرب.