بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

سوريا:

الثمار المرّة للسياسات الليبرالية

لم يكد ينقضي عام 2006 حتى أعلنت الحكومة السورية بشارة أن العام الجديد سيشهد افتتاح “بورصة دمشق” للأوراق والأسهم المالية. وبخلاف توقع الحكومة فإنه بدلا من أن تعم جماهير بلادنا مشاعر البهجة والفرح لهذا الخبر المتوج لسياسات ليبرالية جديدة تطبقها الحكومة السورية بتسارع منذ أكثر من خمس سنوات، فقد أصابت شرائح المجتمع السوري الواسعة، وخاصة في بداية عام 2007، حالة ذعر وهلع من الزيادات الهائلة في الأسعار للمنتجات الأساسية لمعيشة الناس بعد أن رفعت الحكومة، بسياساتها الليبرالية، الدعم عنها.

فجأة تناثرت مقولة “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وهو اللباس الأيديولوجي الذي تغطي به الحكومة السورية سياساتها الليبرالية الجديدة “اللاجتماعية” وفق التزامها الدقيق بوصفات المؤسسات المالية الدولية، ولا سيما البنك الدولي، لصالح حقيقة اقتصاد السوق الرأسمالي الذي يعني إثراء أقلية على حساب شقاء وعمل الأغلبية.

قدمت الجهات الحكومية تفسيرات عديدة لهذا “الخلل” – هكذا تسمي الأزمة الطاحنة بسبب غلاء الأسعار وتدهور الأجور وارتفاع البطالة – تراوح ما بين القول بأن اقتصاد السوق يقوم على مبدأ أساسي هو”العرض والطلب” وهي لذلك لا تتدخل. أو كما قال وزير الاقتصاد، دون خجل، أن سبب الأزمة هو “تحسن دخل المواطنين مما أدى إلى زيادة الطلب”. وبين مسعى إلى طرح قضية ما يزيد عن مليون لاجئ عراقي في سوريا باعتبارهم “كبش فداء” ومصدر هذا “الخلل”، مما يعني توجيه الأنظار بعيدا عن الأسباب العميقة والحقيقية لهذا التدهور في مستوى الحياة لغالبية السكان والتمايز الاجتماعي والطبقي الحادين اللذين يعاني منهما المجتمع السوري بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية الجديدة التي تطبقها الحكومة السورية وهي مطلقة اليدين. فالاحتجاجات الاجتماعية ما تزال يافعة، والنقابات ما تزال تحت السيطرة الحكومية.

ورغم ذلك فقد لاحت منذ أكثر من عامين تباشير نضالات جماهيرية، ما تزال جنينية وعفوية، من احتجاجات وإضرابات عمالية وغيرها، لم تسترعي اهتمام يذكر ولا حتى من القوى المعارضة. كان آخرها إضرابان من أجل الأجور في الشركة العامة للبناء والتعمير في دمشق شارك فيهما المئات من العمال في شهر مايو 2006 مع صدامات مع قوى الأمن. سبق هذه الإضرابات إضراب سائقي التاكسي في حلب، ومظاهرات في أحد المستشفيات وعدد من المصانع في عدة مناطق من سوريا. هذا بالإضافة إلى المواجهة العنيفة في شهر أكتوبر 2006 بين سكان أحد الأحياء في حمص مع قوى الأمن ضد محاولة هدم عدد من المنازل لصالح بعض المقاولين..الخ.

والحال فإن مسئول السياسات الليبرالية الجديدة في الحكومة عبد الله الدر دري كان أكثر صراحة وصفاقة من غيره من المسئولين عندما صرح لصحيفة السفير بأن “الحكومة اختارت اتخاذ القرار غير الشعبي.. حتى وإن تسبب بآلام اجتماعية”. مضيفا، بما لا يدع مجالا للشك لدى من لا يزال يعتقد بأن بلادنا ما تزال بعيدة عن العولمة الرأسمالية وتأثيراتها، بأن “الدولة السورية حسمت أمرها واتبعت خط الاقتصاد الحر بصيغة اقتصاد السوق الاجتماعي”.

لم يبق بعد أكثر من 44 عاما من استلام حزب البعث للسلطة من خطابه عن “الاشتراكية” و”العدالة” ووو… سوى ذكرى شاحبة لم تعد قادرة على إقناع أحد. فالحقيقة هي أن سوريا تعيش شكل ما من رأسمالية الدولة التي أسستها سلطة حزب البعث، والأخيرة وإن كانت قد أضعفت في البدء أقسام من البرجوازية السورية، إلا أنها استطاعت ـ تحت جناحها وبرعاية منها ـ أن تعيد تكوين برجوازية سورية (جديدة ــ قديمة) أقوى بما لا يقارن من تلك القديمة. لذلك برأينا أنه لم يكن النظام السوري، منذ استلام حزب البعث للسلطة في مارس 1963، اشتراكيا ولا ليوم واحد.

الطبقة السائدة

شهدت السبعينات نشوء نخبة جديدة هجينة ــ بفضل اقترابها من أو اندماجها في السلطة، ومن خلال آليتي الفساد ونهب القطاع العام ــ تشمل ضباطا من أصول متنوعة وكبار موظفين ومديرين في القطاع العام وملاك أراضي متوسطين ازدهروا من جديد ، إضافة إلى مجموعة جديدة من رجال الأعمال والمضاربين والوسطاء، لتتكون منها الأقسام المتعددة من البرجوازية، التي وصفها الباحث الألماني فولكر برتز وصنفها بأنها تتكون من “الطبقة البرجوازية القديمة وصناعيين جدد وبرجوازية الدولة والطبقة الجديدة”. وساد بين أطراف هذه البرجوازية الصاعدة المتعددة وطرفها الأقوى، أي “برجوازية الدولة”، نوع من العقد يقوم على مبدأ “ابتعدوا عن السياسة واتركوها لأهلها، في المقابل فإن السلطة توفر لكم الاستقرار الضروري لاغتنائكم” (غسان سلامة).

ما حصل في الثمانينات والتسعينات هو سيناريو مشابه لما حصل في بلدان أخرى كمصر، بمعنى أن هذين العقدين شهدا عملية اندماج البيروقراطية البرجوازية مع الطبقة البرجوازية الجديدة، بل وحتى مع البرجوازية القديمة التي وافقت على شروط اللعبة، ليحصل ــ منذ عام 2000 ــ ما يمكن أن نسميه نوع من “تطبيع الشريحة الحاكمة الممسكة بزمام السلطة”.

ويبدو من الصحيح أن القطاع الخاص النامي في ظل الدولة له مصلحة في تحسين هامش مناورته الاقتصادية، لكنه لا يرى ضروريا من أجل ذلك القيام بعمل سياسي مفتوح، بينما هو يستطيع أن يحصل على ما يريد بأقل تكلفة. ولعل لسان حال غالبية برجوازيتنا السائدة اليوم هو ما قاله أحد منهم “ما نريده هو الحرية الاقتصادية والاستقرار السياسي. بالنسبة لنا فإن الديمقراطية تعني انقلابا عسكريا كل سنتين”(نقلا عن جوزيف باهوت “المقاولون في سوريا”). ويمكن القول أن”أحزاب” البرجوازية السورية اليوم إنما تتجسد في غرف التجارة والصناعة فحسب، وليس لها وجود سياسي مستقل عن الدولة.

شهد نمو البرجوازية السورية أيضا ارتفاع عدد المنشآت الصناعية الخاصة من 31 ألف وحدة إلى 36 ألف وحدة بين عامي 90-95. وبات عدد العاملين في القطاع الخاص الصناعي يشكل ثلاثة أرباع اليد العاملة الصناعية البالغة 1،1 مليون عامل يعملون في القطاع الخاص والمشترك. مثلما يشير مكتب الإحصاء المركزي أن “عدد العاملين هو بحدود 4 مليون و700 ألف عامل في القطاعات المختلفة، وحوالي 60 في المائة من العاملين بأجر يعملون لدى الدولة”. بيد أن متوسط الأجر هو أقل من خمسة آلاف ليرة شهريا، مما يجعل العمال في حالة عوز دائمة.

إن نمو البرجوازية والسياسات الليبرالية الجديدة التي تطبقها الحكومة السورية له في المقابل ثمن اجتماعي قاسي جدا وهو “أن نصف السوريين صاروا تحت خط الفقر.. ونسبة البطالة وصلت إلى عشرين بالمائة مع انضمام أكثر من ربع مليون شخص سنويا إلى قوة العمل التي لا توفر الدولة والقطاع الخاص فرص العمل سوى لثلثهم في أحسن الأحوال” (العرب اليوم، 6 يناير 2007). ويقدر وزير النفط السابق مطانيوس حبيب أن معدلات البطالة وصلت إلى “أكثر من 3 مليون عاطل عن العمل”، وأن”الفساد كلف البلد عام 2000 نحو 50 ألف دولار يوميا”، وأن سوريا تشهد ظهور متواصل “لرجال أعمال جدد لم تكن وجوههم مألوفة في السابق”.

النضالات الجماهيرية القادمة

لا يمكن تصور أن يستمر هذا الازدهار المريع للبرجوازية السورية في ظل حماية دولتها، والتي لا هم لها سوى الربح والاغتناء على حساب قوت وعمل الغالبية الساحقة من السكان، التي لا تفتقر فقط إلى حد أدنى من مستوى المعيشة، بل تفتقر إلى الحرية أيضا.

لا يمكن تصور أن القوى العاملة التي تشكل نحو 28 بالمائة من السكان (بأدنى الأجور وبلا ضمانات اجتماعية)، إضافة إلى العاطلين عن العمل والمهمشين من سكان المدن والريف والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، ستبقى خاضعة لنهب وقهر متواصلين دون أن تنهض إلى ساحة الفعل لطرح مطالبها.

هذا الحراك الاجتماعي القادم تتجلى اليوم بشائره الأولى. وهذا ما يستدعي من اليسار الاشتراكي ومناهضي العولمة الرأسمالية العمل على دعمه والانخراط فيه، والمراهنة عليه كشرط للنمو الذاتي، وبالأخص كشرط موضوعي للقدرة على تحقيق الحريات العامة ومواجهة السياسات الليبرالية المنفلتة من عقالها، وفتح آفاق مستقبل عالم أفضل.

هذا بينما يعاني التيار الليبرالي السائد لدى النخب المعارضة من معضلة أنه يطرح برنامج ليبرالي “برجوازي” كلاسيكي تخلت البرجوازية السورية، وهي الطبقة السائدة بلا جدل، عن شقه السياسي منذ زمن طويل. وبذلك يصبح توجه ليبراليينا إلى الشرائح الأخرى، التي هي ضحية السياسات الرأسمالية، من أجل حمل برنامجهم “الليبرالي” مفارقة مستعصية تطلبت منهم، دون نجاح يذكر، القيام بإضافة جرعات من خطاب شعبوي لتبريره، أو قيام البعض بمراهنات على تدخلات خارجية، لكنه برنامج يبقى بلا حامل اجتماعي له.

تعلمنا التجارب أن النضالات الجماهيرية من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحدها هي القادرة على مواجهة الرأسماليين ودولتهم، وعلى مواجهة الإمبريالية ومشاريع الهيمنة والتفكيك الطائفي في منطقتنا، وعلى فتح آفاق مستقبل أكثر إنسانية. وبوابة هذا الأفق تتطلب العمل الجاد والشاق والصبور في آن معا من أجل “الخبز والحرية”.