اليسار والدعم غير المشروط للمقاومة
أعادت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله الحوار مجدداً داخل صفوف اليسار حول الموقف من القضية الوطنية، والمعركة ضد الإمبريالية والصهيونية. يحيى فكري يدافع عن الدعم غير المشروط لكل الحركات المقاومة للإمبريالية في المنطقة وغيرها.
هذه المرة تطرق الحوار إلى إعلان مواقف هي الأولى من نوعها على الأقل في السنوات الأخيرة. فوجدنا نشطين “يساريين” يعلنون بوضوح إدانتهم للمقاومة ومن يؤيدونها، بل و”قرفهم” منهم. بل ويؤيدون المطالبة بنزع سلاح حزب الله (هدف إسرائيل المعلن من الحرب)، ويرددون العبارات التي أطلقها رموز التبعية للإمبريالية في المنطقة (قادة مصر والسعودية والأردن) بإدانة المغامرات العسكرية لحزب الله، وتوعد حسن نصر الله بالحساب العسير، وما إلى ذلك.
هذه المواقف الصادرة عن نشطين، يصرون على تسمية أنفسهم “باليسار”، تجعل هناك أهمية بالغة لإعادة التأكيد على مواقف اليسار المناضل من القضية الوطنية، والفصل بوضوح بينها وبين دعاوي هؤلاء. كما تظهر ضرورة ملحة لتفنيد حجج ذلك التيار وإظهار هشاشتها وخوائها. فالمعركة ضد الصهيونية والإمبريالية هي معركة مركزية بالنسبة لليسار، كما أن الصهيونية والإمبريالية هما عدوان رئيسيان وحليفان مباشران وداعمان للديكتاتورية والرأسمالية الكبيرة في مصر. ولا يمكن كسب الديمقراطية أو أية إصلاحات اجتماعية جذرية دون أن ترتبط معركة النضال من أجلهما بالنضال ضد الصهيونية والإمبريالية.
بهذا المعنى فإن الانحياز لحركات المقاومة المسلحة التي تقوم فعلياً اليوم بالتصدي للإستعمار الصهيوني والإمبريالي في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها، وإعلان التأييد غير المشروط لها في معركتها هذه، وتقديم كل دعم ممكن لها من أجل انتصارها في المعركة، هو شق رئيسي يجب أن يتضمنه برنامج النضال لأي حزب أو تنظيم أو كيان سياسي يساري في مصر. هذا وبصرف النظر عن العقائد المذهبية لتلك الحركات. مع الأخذ في الاعتبار أن التأييد غير المشروط لا يعني عدم توجيه النقد لأية سياسات عنصرية أو طائفية تنتهجها المقاومة، وتؤدي إلى شق الصفوف في معركة التحرر، المهم أن ينطلق هذا النقد من نفس الخندق الذي تقف فيه المقاومة، أي من انحياز مطلق لمشروع انتصارها. وفي جميع الأحوال، يجب الوقوف بصلابة مع وحدة المقاومة، وضد أية نزعات طائفية أو مذهبية سياسية تؤدي إلى إضعافها في المعركة، كما يحدث في فلسطين والعراق. كما يجب الدفاع عن أن إسقاط المشروع الصهيوني الأمريكي وهزيمته سياسياً وعسكرياً هو المهمة المركزية الملقاة على عاتق المقاومة اليوم، والتي لها أولوية على أية صراعات أخرى.
المهم هنا هو أن التأييد غير المشروط للمقاومة هو موقف عادة ما يواجه باتهامات عديدة، وخلال الأسابيع الأخيرة حدثت إعادة إحياء لتلك الاتهامات وربطها بهجوم حاد على حزب الله وحربه ومن يؤيدونه. وقد يكون من المناسب اليوم إظهار أوجه القصور في الانتقادات الموجهة لمسألة الدعم غير المشروط، والتي يمكن تحديد أهمها على الوجه التالي: أولاً، أنها تعبير عن انحراف قوموي، حيث ترفع من شأن القضايا الوطنية العامة على حساب المصالح السياسية والاجتماعية المباشرة للجماهير. وثانياً، أنها تعكس موقف غير أخلاقي لأنها تتجاهل أساليب لا أخلاقية للمقاومة من نوع قتل المدنيين. وثالثاً، أنها تدافع عن مشروع غير عقلاني يفترض إمكانية النصر العسكري للمقاومة في معركة هي خاسرة فيها بلا أدنى شك. ورابعاً، فيما يخص الحالة اللبنانية، فإن أي دعم للمقاومة، سواء كان مشروطاً أو غير مشروطاً، سيطيح بمحاولة القوى “الوطنية” هناك في بناء وطن ديمقراطي علماني غير طائفي.
أولاً:
الدعم غير المشروط للمقاومة، واعتبار أن المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية معركة مركزية، هو موقف لا يعكس أي توجه قومي، إنما ينطلق -على العكس- من تصور أممي وطبقي في جوهره. والأصل في المسألة أن هزيمة الإمبريالية في أية ساحة هي رصيد إضافي لقدرة البشر في كل مكان على التحرر من الاستغلال والاضطهاد. فمثلاً خروج قوات التحالف الأمريكي البريطاني مهزومة من العراق سيؤدي بالضرورة إلى اتساع شعبية الحركات المناهضة للحرب في الغرب وتأزيم وضع الحكومات الرأسمالية هناك، وبالتالي تحسين شروط نضال الطبقات العاملة البريطانية والأمريكية وفرصها في انتزاع مكاسب أعلى. هذا ما حدث في السبعينيات بعد هزيمة أمريكا في فيتنام.
ليس المقصود هنا بالطبع وضع هموم الطبقات العاملة في الغرب على جدول أعمال اليسار في مصر، إنما هو فقط مثل لتوضيح حقيقة بسيطة، دائماً ما يتجاهلها البعض، أن هزيمة الإمبريالية هي بشكل رئيسي هدف أممي وطبقي. والحقيقة أن الجماهير المصرية، أكثر من أي شعب آخر في العالم، صاحبة مصلحة مباشرة في هزيمة الإمبريالية والصهيونية في فلسطين ولبنان والعراق، وفي سياق معركة تحررها (الجماهير المصرية) من الاستبداد والاستغلال تحديداً. فديكتاتورية مبارك في مصر قائمة لازالت، وقادرة على الاستمرار، على الأقل جزئيا بسبب دعم أمريكا وإسرائيل لها. هذا الدعم الذي تقدمانه للنظام المصري مقابل الأدوار التي يؤديها في خدمة مصالحهما في المنطقة. ومما لا شك فيه أن أي هزائم عسكرية تمنى بها أمريكا أو إسرائيل، ومهما كانت محدودة، ستؤدي مباشرة إلى مزيد من التأزيم في أوضاع النظام المصري، والتعجيل بسقوطه.
الارتباط الوثيق ما بين الإمبريالية والديكتاتورية في مصر، الذي يجعل من هزيمة إحداهما هزيمة للأخرى، هو حقيقة لا تخفى على أحد في مصر بما في ذلك، بل وبالأساس، جماهير المواطنين العاديين غير المسيسين. الشواهد على ذلك لا يمكن إغفالها: موجة التجذير السياسي التي نعيشها اليوم، والتي فتحت الباب أمام معركة التغيير وأمام بناء يسار جديد، بدأت مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية؛ الميلاد الحقيقي لحركة التغيير الديمقراطي حدث في ميدان التحرير يوم 20 مارس 2003 احتجاجاً على بدء الحرب على العراق؛ الهزيمة العسكرية لإسرائيل أمام حزب الله تظهر في عيون السواد الأعظم من المصريين هزيمة شخصية لمبارك، الذي أدان “مغامرة” نصر الله يوم اندلاع الحرب؛ وهكذا.
ثانياً:
اعتبار أن الدعم غير المشروط هو موقف لا أخلاقي بسبب تجاهله لمسائل مثل قتل المدنيين، هذا التصور في الحقيقة يحمل قدراً من التناقض والغرابة، فهو يقوم بالتعريف على رؤية علمانية مناقضة للتصور الديني الذي يبرر العمليات الاستشهادية، بينما هو في جوهره موقف ديني لا مادي بالأساس. القتل خطيئة، هذا ما تنص عليه الوصايا العشر والكتاب المقدس والقرآن وأيضاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وجه الشبه هو أن القتل خطيئة في المجرد بصرف النظر عمن يَقتل ومن يُقتل، وعن السياق الذي يحدث فيه القتل، وعن الدافع من وراءه، وعن النتائج المترتبة عليه، وعن المصالح التي تقف وراء القاتل والقتيل. القتل خطيئة وفقط، هذا هو الموقف الديني المجرد، حتى لو تم تعديله إلى قتل المدنيين، وحتى لو كانت مرجعيته هي اتفاقيات جنيف أو تفاهمات الأمم المتحدة، فسيبقى موقفاً مجرداً يطل على العالم من أفق رباني غير إنساني وغير متفاعل مع حقائق الأمور.
أما المنظور المادي فهو نسبي بطبيعته يحدد الخطأ والصواب من تحليله للصراع، وطبقاً لانحيازاته الطبقية والسياسية. لا يمكن مثلاً من منظور مادي طبقي المساواة بين ما حدث من قتل للمدنيين على يد إسرائيل وعلى يد حزب الله في الحرب الأخيرة، ومن يفعل ذلك هو بالقطع متحامل ومتحيز لإسرائيل سواء عن قصد أو عن دون قصد.
هذه القضية عادة ما تطرح بطريقة مخادعة تنطلق من فكرة أن هناك حرباً مشروعة وحرباً غير مشروعة. وإذا كانت إسرائيل تمارس حرباً غير مشروعة فالواجب علينا ألا نحذو حذوها وإنما علينا أن نخوض حربنا نحن بصورة مشروعة تنسجم مع نبل وعدالة قضيتنا. وجه الخداع هنا في أمرين: الأول أن هذا لم يحدث في أي وقت، ولا يمكن أن يحدث. فمثلاً لم تكن هناك أبداً حرب لم يقتل فيها مدنيون، سواء الحروب التي دارت بين جيوش نظامية كالحرب العالمية الثانية التي انتهت بأربعين مليون قتيل وقنبلتين نوويتين ومدن كلندن وبرلين وستالينجراد وقد تحولت إلى خرائب، أو الحروب بين مصر وإسرائيل التي دمرت فيها مدن القناة عدة مرات. أو سواء في الحروب التي دارت بين جيوش نظامية وحركات مقاومة مسلحة، كالتي جرت في الجزائر وفيتنام وكمبوديا وأنجولا وبيرو وغيرها. أو كذلك بالقطع في الحروب الأهلية التي دارت بالأساس بين ميلشيات من المدنيين وسط المدن، كالتي حدثت في لبنان ويوغوسلافيا السابقة والكونغو.
ولم تخل حروب التحرر الوطني في كل التاريخ الحديث من عمليات قتل للمدنيين قامت بها فصائل المقاومة المسلحة. ولن نجد في الحقيقة مثلاً فارقاً كبيراً بين العمليات التي قامت بها حماس في فلسطين خلال السنوات الماضية، وبين العمليات التي نظمتها جبهة تحرير الجزائر أثناء حرب التحرير هناك. وربما لا يتذكر الكثيرون بيننا أن واحدة كجميلة بوحريد، التي حظت بشعبية واحتفاء واسع وظلت اسماً لامعاً في تاريخ المقاومة الجزائرية، كان دورها في الحرب هو وضع قنابل في المقاهي والبارات التي يرتادها المستوطنون الفرنسيون المدنيون في الجزائر. وربما لا يتذكر الكثيرون أيضاً أن حرب التفجيرات التي تقوم بها منظمة كالقاعدة اليوم، التي لا نؤيدها كاشتراكيين، هي في الأصل اختراع أوروبي حدث على يد الجيش الجمهوري الأيرلندي ومنظمة إيتا الأسبانية والألوية الحمراء الإيطالية وبادن ماينهوف الألمانية، وجميعها حركات كانت تحظى بتقدير واحترام العديد من فصائل اليسار العربي في السبعينات.
أما وجه الخداع الثاني في مسألة مشروعية الحرب فهو الانطلاق من “بديهية” أن هناك مرجعية للأمر كاتفاقيات جنيف، وحظر انتشار الأسلحة النووية، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمواثيق الدولية، وغيرها. وجه الخداع هنا هو تجاهل أن هذه الاتفاقيات والمواثيق هي مجرد صياغات ورقية وضعتها البلدان الاستعمارية لفرض سيطرتها، وهي أول من يتجاوزها. وببساطة الحرب الوحيدة المشروعة قياساً على تلك المرجعيات هي الحرب التي ستنتصر فيها الإمبريالية. فتلك الصيغ التي تبدو وكأنها محايدة ويتساوى أمامها الجميع ليست كذلك، هي أشبه بالدستور المصري الذي يعطي الحق لجميع المواطنين في ترشيح أنفسهم لمنصب رئاسة الجمهورية، لكننا نعرف جميعاً بالقطع أن ذلك شبه مستحيل.
ثالثاً:
اتهام المقاومة المسلحة، وبالتالي الدعم غير المشروط لها، بأنها مشروع لا عقلاني وأن حربها خاسرة حتماً هو في الحقيقة اتهام لا عقلاني، يكفي للرد عليه استعراض النتائج العسكرية للحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله. لكن المهم أن الفكرة التي ينطلق منها هذا النقد ليست فقط خاطئة وإنما شديدة الخطورة أيضاً. الفكرة تقول: 1) أن التوازن ما بين القدرات العسكرية للجيوش الأمريكية والإسرائيلية وبين القدرات العسكرية لفصائل المقاومة المسلحة هو العنصر الحاسم في تحديد المنتصر والمهزوم في الحرب. 2) بما أن ذلك التوازن يميل بشكل ساحق لصالح الجيوش الأمريكية والإسرائيلية فإن هزيمة المقاومة أمر محتوم. 3) أن الطريق الوحيد الممكن هو المقاومة السلمية وقبول الحلول الواقعية.
خطأ هذه الفكرة ينطلق من تجاهلها لكل خبرات التاريخ المعاصر، ولكل ما جرى ويجري حولنا خلال السنوات الأخيرة. فلو كانت القدرات العسكرية للجيوش هي العنصر الحاسم لكان من الاستحالة انتصار الثورة الجزائرية، وهزيمة أمريكا في فيتنام، وهزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وخروج القوات الأمريكية من الصومال، وفرض حق تقرير المصير في أيرلندا الشمالية وتيمور الشرقية وجنوب السودان، وانتصار حركات التحرر في أنجولا وموزمبيق، وانقسام قبرص إلى دولتين، وحفاظ كوبا على استقلالها السياسي عن أمريكا، وانفصال أريتريا عن إثيوبيا، ..الخ.
فالأمر ببساطة لا يعود فقط إلى القدرات العسكرية، وإنما تلعب عشرات العوامل الأخرى أدوارها في تحديد النتائج: التوازنات في الساحة الدولية، الجغرافيا، التوزيع السكاني، الدعم الإقليمي، الحركات الاجتماعية، ..الخ. فحركة مناهضة الحرب في فيتنام في الولايات المتحدة لعبت دوراً حاسماً في هزيمة أمريكا هناك، كما لعب الدور المصري في حركة عدم الانحياز دوراً حاسماً في انتصار الثورة الجزائرية، وهكذا. إلا أن وجود المقاومة المسلحة للاستعمار وصمودها في مواجهته شرط رئيسي في تفعيل العوامل الأخرى، وهذا ما يجعل الدعم غير المشروط للمقاومة مهمة حيوية وضرورة لا مناص منها.
على جانب آخر تكشف حقائق الأحداث عن هشاشة وخواء ما يسمى بالحلول الواقعية، فماذا كسب الشعب الفلسطيني من أوسلو سوى سلطة فاسدة راكمت ثرواتها على حساب الدم الفلسطيني؟! ألم يسأل أصحاب نظرية الحلول الواقعية أنفسهم لماذا حققت حماس كل هذا النجاح الساحق في الانتخابات الفلسطينية؟ ألم يسألوا أنفسهم لماذا يتمتع حسن نصر الله بهذه الشعبية الجارفة ليس في لبنان وحدها وإنما أيضاً في مصر وعلى امتداد العالم العربي كله، وليس فقط لدى القوميين والإسلاميين وإنما وسط السواد الأعظم من الجماهير البسيطة غير المسيسة؟
مشروع الدولتين الذي يقدمونه دائماً بصفته الحل الواقعي للقضية الفلسطينية هو حل غير واقعي بالمرة، وغير قابل للتحقيق. والحل الوحيد الواقعي والممكن هو الدولة الواحدة، هو هدم الصهيونية وبناء دولة ديمقراطية علمانية متعددة الأعراق على أرض فلسطين يعيش فيها الجميع المسلمون والمسيحيون واليهود مواطنون متساوون أكفاء. والمقاومة هي الطريق الواقعي الوحيد للوصول إلى هذا الحل الواقعي.
رابعاً:
فرضية أن الدعم غير المشروط لحزب الله في حربه مع إسرائيل سيطيح بمحاولة القوى “الوطنية” (اليسارية وغير اليسارية) اللبنانية لبناء وطن ديمقراطي علماني غير طائفي (!!) هي فرضية في الحقيقة مدهشة بالفعل. غالباً سيكون علينا قبول هذا الكلام بصفته مناورة في الحوار السياسي، أما أن يكون أصحابه يصدقونه فعلياً، ويريدون منّا تصديقه، فهذا –مع الاعتذار- نكتة. فهم يريدون منّا تصديق أن رجالاً من أمثال سعد الحريري ووليد جنبلاط وأمين الجميل وسمير جعجع قادة “انتفاضة” آذار يسعون إلى بناء لبنان غير طائفي!! المفارقة لا تحتاج هنا إلى توضيح فهؤلاء هم رؤساء الطوائف اللبنانية الذين أشعلوا نيران الحروب الطائفية هناك، والذين لا يمكن أن يكون لهم وجود سياسي خارج نظام الطوائف، والذين تقوم تحالفاتهم الإقليمية والدولية مع الأنظمة في السعودية ومصر وإسرائيل وفرنسا على نفوذهم الطائفي ولا شيء غيره، وهم أنفسهم من يديرون الآن ما يسمى بالحوار “الوطني” اللبناني، الذي يدعي أصحاب تلك الفرضية أنه يهدف إلى تدمير النظام الطائفي!!
الحقيقة التي لا تخفى على أحد، رغم تجاهل البعض لها، أن حوار رؤساء الطوائف أولئك المدعوم بحلفائهم في السعودية وإسرائيل هو مجرد خطوة على طريق بناء مشروع لشرق أوسط جديد أمريكي صهيوني، هدفه إخراج لبنان من ساحة المواجهة مع إسرائيل، وعزل سوريا تمهيداً لضربها واحتلالها. إضافة بالقطع إلى تعميق النظام الطائفي، ففرض المشروع الأمريكي الصهيوني يحتاج إلى تعميق الطائفية في المنطقة، وهذا ما تفعله السياسة الأمريكية اليوم على رؤوس الأشهاد في العراق والسودان ومصر والخليج، وبالطبع لبنان. القضاء على النظام الطائفي في لبنان مرهون بمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني وبكسر تحالفات رؤساء الطوائف اللبنانية مع السعودية وإسرائيل، هو مرهون إذن بالمقاومة. أي أن حرب حزب الله مع إسرائيل هو خطوة حقيقية وفعالة ضد نظام الطوائف اللبناني وليس العكس.
لم يعد خافياً على أحد الآن أن الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على لبنان كان مخططاً لها من قبل، وأن الاستناد إلى العملية العسكرية التي قام بها حزب الله في بداية الحرب، ليس إلا ذريعة مفتعلة. هذا ما أعلنته العديد من الدوائر الغربية المتخصصة في السياسة والاستراتيجية. والحقيقة أن عملية حزب الله صادرت على عنصر المفاجأة في حرب إسرائيل، كما أنها جعلت اختيار توقيت الحرب في يد حزب الله، وهو أمر يحسب له وليس عليه. لكن حتى لو افترضنا أن إسرائيل لم تكن تخطط للحرب، وأن عملية حزب الله هي التي تسببت فيها، فإن السؤال عن مشروعية ما فعله حزب الله هو سؤال أقل ما يوصف به أنه مثير للدهشة!!
فهو سؤال ينطلق من فرضية أن المقاومة ليس لها حق المبادرة، أما إسرائيل فلها الحق كل الحق في أن تفعل كل ما تفعله: أن تحتل أراض فلسطينية ولبنانية وسورية بالقوة؛ أن تقوم بتهجير ملايين المواطنين الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم؛ أن تعصف بالشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة وتحاصره وتضطهده بأبشع ألوان الاضطهاد؛ أن تحتجز عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين إلى أجل غير مسمى في سجونها؛ أن تخترق طائراتها الأجواء اللبنانية بشكل شبه يومي؛ أن تملك مدرعاتها الحق في التجول داخل الجنوب اللبناني دون رقابة؛ ..الخ. سيصيح هنا أحد النشطين “اليساريين” المعاديين للمقاومة قائلاً: ما علاقة الشعب اللبناني بما يحدث للفلسطينيين في الضفة وغزة؟ وهو سؤال لا يستحق حتى مجرد عناء الرد عليه.
إن من يتحدثون عن أن سلاح حزب الله يتناقض مع “الوطن” اللبناني وجيشه “النظامي”، بافتراض أن مقاومة العدوان يجب أن تتم على يد الجيوش النظامية، وأن حالة حزب الله هي شذوذ عما هو طبيعي ومفترض، من يقولون هذا يتجاهلون في الحقيقة كل تاريخ النضال ضد الاستعمار، وينطلقون من فرضيات لم يقل بها أحد قبلهم، اللهم إلا الإمبريالية وعملائها. إن وجود سلاح للمقاومة الشعبية إلى جانب الجيوش النظامية هو مشهد متكرر في عشرات الحالات، الأقرب منها هو الحالة المصرية في مطلع الخمسينات، حيث نجد جيشاً نظامياً وفرقاً للمقاومة المسلحة تناضل ضد الاحتلال البريطاني في مدن القناة. حدث هذا أيضاً في فرنسا وهي تحت الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، كما حدث في حالات عديدة أخرى تمتليء كتب التاريخ بالحديث عنها في جنوب شرق أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وأيضاً فإن من يدينون سلاح حزب الله لأنه سلاح طائفي يتجاهلون حقيقة أن حزب الله هو الفصيل الوحيد في لبنان اليوم الذي يوظف سلاحه في أغراض غير طائفية، أي في المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية، يتجاهلون حقيقة أن فصائل لبنانية أخرى تملك لازالت ميلشيات مسلحة: الدروز، والكتائب، وأمل، وغيرها، وأن هذه الميلشيات غير موجودة إلا لخدمة أغراض طائفية، ومن عجائب الأمور أن أحداً لا يطالبها بتسليم سلاحها.
وأخيراً:
قد يرى البعض أن الاستغراق في الرد على الدعاوي السابقة هو مضيعة للوقت، وهذا صحيح إلى حد ما، صحيح إلى الحد الذي تنحصر فيه تلك الأفكار داخل دوائر البرجوازية ومثقفيها، أما أن تخرج علينا وهي ترفع شارة اليسار فهذا ما لا يجب أن نقبله أو نصمت تجاهه. فالقضية هنا لم تعد التشويش على معركة التضامن مع المقاومة، فتلك الأصوات للحق أضعف من أن تفعل ذلك، إنما القضية صارت هي السمعة التي تلحق باليسار وسط جماهير نسعى إلى الارتباط بها وكسبها، الجماهير التي تشعر بالغضب مما تفعله إسرائيل يومياً بالشعبين الفلسطيني واللبناني، الشباب الذين يملؤهم الأمل في انتصار حزب الله وهزيمة إسرائيل.. من من هؤلاء سيسير وراء راية تردد مواقف مبارك بإدانة “مغامرات” حزب الله، والتوعد لحسن نصر الله بالحساب العسير؟! لا.. علينا ألا نقبل أبداً وصم راية اليسار بمثل هذه المواقف.