مجاعة الصومال: جذور الأزمة

المقال بقلم لي ونجراف، ونشر لأول مرة بموقع «العامل الاشتراكي» الأمريكي، 11 أغسطس 2011..
لا يخفى على أحد أن الشعب الصومالي الآن يقع تحت وطأة كابوس بشع بكل المقاييس الإنسانية.. مجاعة رهيبة أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح في غضون بضعة أشهر حسبما كشفت الأمم المتحدة. فهي تسحق ما يربو على 3 ملايين من البشر، بجانب 10 ملايين على شفا حفرة منها بطول القرن الأفريقي. فحسبما ذكرت البي بي سي يوجد حوالي 640 ألف طفل يعانون الهزال وسوء (أو انعدام) التغذية بمعدل وفيات 6 أطفال من كل 10 آلاف يوميا.
يقول أنطونيو جيتيريز رئيس الوكالة الدولية للّاجئين التابعة للأمم المتحدة أن مجاعة الصومال هي أقسى الكوارث الإنسانية على الإطلاق. لقد تم تصنيف الكارثة رسميا كمجاعة لدى الأمم المتحدة مع العلم أن المنظمة لم تستخدم هذا التعبير بصفة رسمية منذ 1984.
إن آلاف الأشخاص ينزحون يوميا إلى مخيمات اللاجئين في كينيا وإثيوبيا. فعلى سبيل المثال يزيد عدد من يلجأون إلى معسكر داداب بكينيا ما يزيد على 1300 يوميا؛ وقد بلغ تعداد سكانه ما يفوق النصف مليون. وحسبما ذكرت البي بي سي أيضا فإن أجزاء من العاصمة الصومالية والتي تحوي معسكرات للمشردين قد أُقرت الأسبوع الماضي ضمن المناطق التي أعلنتها الأمم المتحدة رسميا كمناطق تضربها المجاعة.
مما نوهت له الأمم المتحدة أيضا أن 4 ملايين كيني على وشك أن تضربهم مجاعة الآن. و قد ذكرت وحدة دراسات الأمن الغذائي و التغذية بالأمم المتحدة في 4 أغسطس الجاري أن الأزمة مرشحة للاستمرار حتى ديسمبر من هذا العام.
كالعادة يلقي مسئولو الولايات المتحدة باللائمة على تنظيم شباب المجاهدين الذين يحكمون جنوب الصومال الآن والذي يشهد المجاعة في أعنف صورها. هذا التنظيم الذي انشغل الأعوام الأربعة الماضية بقتال الحكومة الانتقالية الفيدرالية المدعومة من الولايات المتحدة وُصِم بأنه منظمة إرهابية تمثل أحد أجنحة تنظيم القاعدة.
حيث تدعي واشنطن أن التنظيم هو المسئول عن تفشي المجاعة عن طريق إغلاق الطرق في وجه المساعدات الذاهبة إلى المناطق الأكثر تضررا. ساعد على ذلك تراجُع الثوار عن قرار اتخذوه سابقا برفع الحظر عن بعض المؤسسات الدولية مما حذا بوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لاستغلال التراجُع واتهامهم بأنهم “يمنعون المعونات من الوصول للمناطق المتضررة حقا “.
إن اللوم الرئيسي في أزمة الصومال يقع بصفة جوهرية على عاتق الولايات المتحدة. فصحيح أن الصومال تعاني جفافاً شديداً أدى إلى ندرة المواد الغذائية ووقوع الناس في ضائقة متوحشة، إلا أن عقودا متوالية من تدخل الغرب في شئون الصومال تقع في صلب أسباب هذه الكارثة.
بداية فإن المسئولين عن تقديم الدعم الإنساني في الصومال قد سجلوا أن العقبة الرئيسية في وجههم تتمثل في قلة ما يأتيهم من موارد (وليس وقوف شباب المجاهدين ضدهم). حيث ترى آنا سكاف (المتحدثة الرسمية باسم الصليب الأحمر الدولي) أن ما يعطلهم أساسا هو “قلة الدعم المقدم و ليس سبل الوصول لضحايا المجاعة”. وقد وضع مسئولو اليونيسيف والصليب الأحمر مشاكل الحصول على الغذاء وسوء النظام الموضوع لوصول طائرات الدعم على رأس ما يواجههم من عقبات.
يقول توني بيرنز مدير مؤسسة ساسيد (مؤسسة غير حكومية تهدف لدعم وضع المرأة بالصومال) لجريدة الجارديان البريطانية: “إن نقص مخزون الغذاء بالصومال لا محالة سينعكس سلبا على المجتمع الدولي الإنساني “، ويضيف: “إن شباب المجاهدين ليسوا من طراز واحد؛ فهم قد يغلقون بعض طرق الهروب أمام اللاجئين في بعض المناطق التي بها متشددون ، لكن المناطق الأخرى بها شباب لديهم تفكير معتدل، وفي أماكن أخرى حيث ليست لهم الغلبة يكون الأمر بالأساس بيد القبائل “.
علاوة على ذلك، تخبرنا صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية: “من المعوقات المهمة لوصول المساعدات، قوانين الحكومة الأمريكية التي تمنع وصول المساعدات لمناطق بها متشددون والذين غالبا ما يفرضون بعض الضرائب على عبورها”.
وأخيرا فإن الأسعار العالمية للغذاء قد أخذت في الغلوّ المتسارع عام 2010 (والذي دعمه قدرة البعض على تخمين متطلبات السوق وتسخيرها للتوسع في أرباحه) بعد هبوط أسواقها عام 2008. فعلى سبيل المثال زادت أسعار الحبوب بالصومال بنسبة 240% مايو الماضي عما كانت عليه مايو الذي قبله مما يضاعف من آثار الأزمة مرات ومرات.
أعلنت الأمم المتحدة من قبل احتياجها 6,1 مليار دولار ليمكنها إدارة الأزمة لكنها لم تتحصل إلا على نصف المبلغ مما دفع وزير التنمية الدولية ببريطانيا أندرو ميتشيل لوصف الاستجابة الدولية بأنها هزلية وقلَّتها تنبئ بمدى خطورة الوضع الدولي. على سبيل المثال تعهدت الولايات المتحدة بتقديم مساهمة ضئيلة في المعونات تقدر ب 28 مليون دولار وبررت هيلاري كلينتون ذلك بأنهم قدموا بالفعل 431 مليون دولار في المساعدات الغذائية وغير الغذائية العاجلة هذه السنة. هذه الأموال يأتي النصيب الأضخم منها في صورة معونات عسكرية لكل من قوات الحكومة الصومالية و ال9000 جندي الذين يشكلون قوات الاتحاد الأفريقي (أغلبهم جنود من أوغندا و بوروندي) والتي أججت حربا أهلية أفزعت ملايين الصوماليين.
علاوة على ذلك فالولايات المتحدة تعتمد بصورة كبيرة على التدخل العسكري المباشر في حربها على “الإرهاب” لدعم سياساتها الخارجية، هذا التدخل الذي يتزايد ويعلو صوته فقط مع إشعال الفتن داخل الدول بجانب عدد آخر من الأنشطة. ففي زيارته الأخيرة للصومال كشف الصحفي اليساري جيريمي سكاهيل عن قاعدة للاستخبارات المركزية الأمريكية قرب مطار مقديشيو يتم بها استجواب المعتقلين المرسلين من كينيا وإثيوبيا. بالإضافة إلى الضربات العسكرية المباشرة والتي يخطَّطُ لها تحت غطاء حديدي من السرّية. لقد أخبر أحد ضباط المخابرات الصوماليين سكاهيل أن ضبَّاط الاستخبارات الأمريكية متواجدون هناك طوال الوقت.
وكما تشير تقارير موقع بلاك أجندا فإن تصعيد الولايات المتحدة للصراع العسكري يتناسب طرديا بشكل مباشر مع قسوة المجاعة حيث يذكر التقرير أن “الولايات المتحدة قامت بتسليح طابور كامل من الميليشيات التي تعمل قرب الحدود الكينية والإثيوبية مما أدى إلى استحالة وجود تطور زراعي يقلل من نتائج الجفاف كما جعل ذلك الكارثة عالمية ولا يمكن تفاديها”.
كان الرئيس الأمريكي باراك اوباما واضحاً حيال المخاطر الاستراتيجية الناشئة عن عدم الاستقرار بالقرن الأفريقي وعن أهمية القيادة المركزية لأفريقيا بالجيش الأمريكي لمواجهة هذه المخاطر المزعومة . فقد صرح في زيارته لغانا عام 2009: “حين يحدث تطهير عرقي في دارفور أو إرهاب في الصومال فلا يمكن معاملتها كمحض مشاكل داخلية لأفريقيا إنها تحديات قوية أمام الأمن العالمي وتحتاج رد فعل دولي.. ودعوني أكُن صريحا: إن قيادتنا المركزية في أفريقيا ليست بغرض تثبيت موطئ قدم لنا بالقارة وإنما لمواجهة هذه المخاطر المشتركة وإحراز تقدم لأمن أمريكا وأفريقيا بل والعالم كله”.
أُنشئت القيادة المركزية لأفريقيا بجيش الولايات المتحدة في ولاية بوش الابن عام 2007. وقد رُصدت لها ميزانية تقدر ب 300 مليون دولار للسنة القادمة بزيادة 20 مليون عن السنة الماضية؛ فالصومال ذات مركز حساس للقيادة المركزية بأفريقيا. أيضا أعلنت إدارة أوباما في يوليو الماضي أنها ترسل المارينز لتدريب قوات حفظ السلام الأفريقية هناك وتخصص ما يزيد على 75 مليون دولار للحرب على “الإرهاب” بالصومال وحدها.
إن مسئولية الغرب عن المجاعة توغل في القدم عائدة بنا إلى بضع عقود مضت؛ فنظام التقشف والخصخصة العالميين الذي قاده كل من البنك وصندوق النقد الدوليين قد عاث فسادا بامتداد دول العالم الثالث في عصر “التثبيت و إعادة التكيُّف الهيكلي” الذي بدأ في السبعينات .لقد عرفت الصومال الاكتفاء الذاتي طوال عمرها رغم ظروف الجفاف حتى جاءت بداية السبعينات حينما أجبرت السياسات المالية العالمية النظام على تقليل الأجور والإنفاق العام للدولة الذي قابله ارتفاع مرعب في التكلفة على المزارعين جعلهم في ظروف معيشية شديدة الحساسية ساعدت على نشوب الحرب الأهلية 1988.
كانت الولايات المتحدة طوال الوقت تستهدف القرن الأفريقي وتضعه في موقع بارز ضمن سياساتها. سبَّب ذلك إشرافُه على مضيق باب المندب وقربهُ الشديد من قناة السويس واللذان يمثلان معاً البوابة الرئيسية للشرق الأوسط و جنوب آسيا؛ ولذا حدث التنافس على النفوذ فيها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي و ظهرت تجلياته في سياسة الحرب بالوكالة التي ميزت الحرب الباردة.
لقد أسفرت العسكرة وإعادة التكيُّف الهيكلي والحرب الأهلية عام 1980 عن مجاعة عظيمة راح تحت وطأتها 300 ألف نَفس . وقد استغلتها الولايات المتحدة كمبرر للتدخل العسكري بالصومال عام 1992 تحت إشراف الأمم المتحدة رغم أن لحظة الأزمة القصوى زالت قبل ذلك بعدة أشهر وانخفض معدل الوفيات بنسبة 90%. وقدر المسئولون الأمريكيون عام 1993 فقط أن قواتهم تسببت في خسائر تقدر من 6000 إلى 10000 شخص، ثلثاهم من النساء والأطفال.
لقد تسبب التدخل الغربي في التردي المتسارع للظروف المعيشية بالصومال، حيث ظلت الأمة الصومالية تتأرجح باستمرار عند الحد الادنى لكل المعايير الإنسانية أو تحتها بقليل. منذ عام 1991 والبلاد مبتلاة بالحروب الأهلية المدعومة من الولايات المتحدة التي تقوي الأطراف المتحاربة لتزيد النار اشتعالا.
عام 2006 قامت الجارة الإثيوبية بغزو الصومال لإنهاء حكم اتحاد المحاكم الإسلامية الذي لم يكمل عدة شهور في إدارة البلاد، ورغم ذلك حقَّق نوعاً من الاستقرار في أوضاعها. إن عودة الولايات المتحدة بقوة لتدريب وتمويل غزو القوات الإثيوبية للصومال كان سرا بالكاد يمكن إخفاؤه في ظل مساعيها لإنشاء الحكومة الانتقالية الفيدرالية كبديل لاتحاد المحاكم الإسلامية.
عندما خرجت القوات الإثيوبية عام 2009 تركت وراءها أوار حربٍ أهليةٍ مستعراً مع أزمة لاجئين في بدايتها ؛ فحوالي 10 آلاف قُتلوا كما تم تشريد 1,1 مليون مواطن.
نشرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريراً في ديسمبر 2008 عشية الانسحاب الإثيوبي، تنبَّأت فيه بالأزمة الحالية: حيث يحتاج ما يقرب من 25,3 مليون (أكثر من 40% من سكان جنوب ووسط صوماليا) المساعدة الإنسانية. وكما وصف أليكس ثيرستون صاحب مدونة الساحل (مختصة بشئون الساحل الشرقي الأفريقي) إن سقوط وتمزق اتحاد المحاكم الإسلامية بجانب وحشية الاحتلال الإثيوبي ساعدا على ظهور تنظيم شباب المجاهدين الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية.
في هذه المرة ونظراً لتدخل الولايات المتحدة السافر عن طريق جنود المارينز ورفع الميزانية الخاصة بالأنشطة العسكرية في الصومال و”الحرب على الإرهاب” ظهرت العواقب سريعا في هذه المجاعة – بالضبط كما حدث في 1992 – والتي ربما تكون غطاء للمزيد من التدخل .
لقد انسحبت منظمة شباب المجاهدين من الأماكن التابعة لسيطرتهم بالعاصمة مقديشيو (والتي لم تتعد ثلث المدينة في قمة قوتهم). أما السؤال الملحُّ الذي يبقى معلقاً دون إجابة شافية: هل حقاً تستطيع الحكومة الفيدرالية تحسين الأوضاع في العاصمة وإبقائها تحت السيطرة؟؟
وكما ذكر سكاهيل في “ذا نيشن” أو “الأمة”: “في حربها مع منظمة الشباب تتَّبع الولايات المتحدة سياسة محددة ( تعتمد على تغطية وجودها العسكري و خطط للدعم المالي) ذات خطين؛ أحدهما عمل الاستخبارات المركزية الأمريكية على تدريب ضباط المخابرات الصوماليين و تمويل أنشطتهم بل أحيانا تلجأ لتوجيههم بشكل مباشر وتكليفهم بمهام خاصة مما يجعلهم غالبا خارجين عن سيطرة الحكومة إلى جانب قيام القيادة المجمعة للعمليات الخاصة بهجمات منفردة دون الرجوع غالباً لموافقة الحكومة أو حتى إعلامها بما يحدث. بينما على الجانب الآخر يعمل البنتاجون على زيادة الدعم المقدم للقوات الأفريقية المختلفة المتواجدة هناك بحجة الحرب على “الإرهاب”.
زيادة على ذلك، أعلن الرئيس الأوغندي يُوِيري موسيفيني أحد أهم حلفاء أمريكا في أفريقيا في وقت سابق طلبه لجعل منطقة جنوب الصومال منطقة حظر جوي. وفي النصف الآخر من الكرة الارضية يقف النائب الجمهوري بالبرلمان الأمريكي بيتر كِنج محاولا إذكاء فكرة التدخل العسكري المباشر عن طريق تسييد فكرة الرعب من منظمة الشباب والادعاء أنها تحاول تجميع الكثير من الشباب الأمريكيين ذوي الأصول الصومالية تحت رايتها.
أما بالنسبة لكثيرٍ منَّا ممن يودون رؤية نهاية للحرب القائمة والجوع القتَّال في الصومال، لا يمثل دعاة السلام بالأمم المتحدة حلًّا حقيقيا. فقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة خاضعة كلية للإملاءات الأمريكية (تماما كما حدث في تدخلهم “الإنساني” عام 1993).
و نهايةً فإن الولايات المتحدة تهتم قبل كل شيء بتثبيت سيطرتها على هذه المنطقة الاستراتيجية؛ فهذه المجاعة و هؤلاء الآلاف الذين يموتون يوميا ليسوا سوى ثمن بسيط جدا يمكنهم دفعه في سبيل أهدافهم. لذا ليس من بد أن على النشطاء المناهضين للحرب والمدافعين عن العدالة الاجتماعية رفع راية واحدة و بقوة: “إن إنهاء الكارثة التي تشهدها البلاد لا يعني سوى رفع يد الولايات المتحدة عن الصومال.. الآن “.