بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عمال العالم يتحركون

كان الشهر الماضي حافلاً بالنسبة للحركة العمالية في العالم. فبداية من أواخر سبتمبر شهد العالم ستة إضرابات عمالية عامة امتدت عبر قارات من بلجيكا وفرنسا وروسيا في أوربا إلى جنوب أفريقيا والهند وأخيرًا في كولومبيا. وائل جمال ينظر في دلالة هذه الموجة من التحركات العمالية وما يجمعها.

يقول المفكر الاشتراكي البريطاني كريس هارمان في العدد الأخير من مجلة الاشتراكية الدولية البريطانية إن الصيف الماضي قد شهد ميلاد منطقة جديدة للعطب في النظام العالمي. فإلى جانب تلك المنطقة التي تسبب فيها جورج بوش يفشله في سحق المقاومة في العراق والأخرى الخاصة بموجة التمرد الجماهيري في أمريكا اللاتينية، هناك منطقة جديدة في أوربا الغربية. ويبدو أن هذه الإضرابات تؤشر لاحتمال ميلاد منطقة رابعة أكثر خطورة وأوسع نطاقًا تخص الطبقة العاملة.

زخم كبير واستجابة واسعة:
مستوى المشاركة في جميع الإضرابات العامة الستة كان أعلى من توقعات من نظموها ودعوا إليها سواء من حيث العدد أو من حيث الاتساع والشمول لقطاعات عمالية مختلفة. في الهند، شارك عشرات الملايين من العمال في إضراب التاسع والعشرين من سبتمبر والذي اتسع ليشمل عمال القطاعين العام والخاص. الإضراب الواسع جاء احتجاجًا على سياسات الحكومة الائتلافية الليبرالية الجديدة على حد دعوة النقابات العمالية التي نظمته.

وفي فرنسا شارك أكثر من مليون شخص في الإضراب الذي دعت إليه النقابات وعلى رأسها الاتحاد العام للنقابات العمالية، السي جي تي، التابع للحزب الشيوعي الفرنسي في الثالث من أكتوبر للاحتجاج على تردي مستويات الأجور والمعيشة بشكل عام لعمال القطاع العام الفرنسيين وعلى خطط الحكومة لبيع المزيد من الشركات المملوكة للدولة. وتقول الأرقام أن حوالي 30% من عمال القطاع العام الفرنسي شاركوا في الإضراب وهو ما شل الحركة تقريبًا في البلاد إلى حد أن عشرة في المائة من طاقة البلاد الكهربائية تم إيقافها. هذا في الوقت الذي تؤكد فيه استطلاعات رأي أخرى أن الإضراب تمتع بتأييد ثلاثة من كل أربعة عمال في فرنسا. وجغرافيا امتد الإضراب من ميناء لوهافر الشمالي حتى ميناء مارسيليا الجنوبي بينما خرج مئات الآلاف للشوارع للتظاهر.

أما في بلجيكا، ففي السابع من أكتوبر، دعت نقابة عمالية واحدة ليست هي الأكبر في البلاد، إلى إضراب عام يشكل منفرد هو الأول منذ 1993. واستجاب العمال بشكل غير متوقع لدرجة شلت الحياة تمامًا في البلاد وشهدت الشوارع صدامات بين العمال وقوات الشرطة. هذه المرة كانت النقطة الرئيسية هي مد سن المعاش من 58 عامًا إلى ستين عامًا. وامتد الإضراب إلى المواصلات والمدارس والخدمات الحكومية والموانئ والمناطق الصناعية الكبرى في البلاد. وفي الحادي عشر من أكتوبر، أضرب مئات الآلاف من عمال جنوب أفريقيا في إضراب عام دعت إليه النقابات العمالية أيضًا ضد البطالة وفصل العمال من المصانع مؤدين لإغلاق تام في عدد من المناطق الصناعية وأوقفت حركة الطيران إلى البلاد.

وفي الثاني عشر من أكتوبر أضرب العمال الكولومبيون استجابة لدعوة النقابات العمالية والحركات الاجتماعية في البلاد احتجاجًا على حكومة الرئيس يوريبا وعلى قراره بتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي روسيا، وفي الثالث عشر من أكتوبر، أضرب مئات الآلاف من عمال القطاع العام احتجاجًا على تردي مستويات الأجور وخرج الآلاف إلى الشوارع أيضًا للمطالبة بوقف تدهور مستويات معيشة العمال. وامتد الإضراب للمدرسين والأطباء الحكوميين الذين شهدت مستويات معيشتهم تراجعًا كبيرًا بسبب تجمد أجورهم عند مستويات متدنية.

درجة عالية من التسييس:
واحدة من سمات الإضراب العام هو الطبيعة الشاملة التي يرمز إليها. فهو ليس تحركًا ضد صاحب عمل بعينه ولا على مطلب فئة محددة من العمال. الإضراب العام يحمل في طياته تعميمًا للمواجهة لتصبح بين قطاع واسع من العمال وأصحاب العمل بشكل عام. وكانت جميع الإضرابات العامة التي نتكلم عنها علامة على مواجهة سياسية بين العمال والحكومات الموالية لرجال الأعمال وفي بعض الحالات مواجهة سياسية تصل لحد الاحتقان، في فرنسا، تكلم رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دي فيلبان في اليوم الافتتاحي للبرلمان بعد الإضراب بيوم واحد ليقول أن الإضراب رسالة عدم رضا واضحة وإنه يجب أن “نفهم هذه الرسالة ونتعامل معها”. نفس المنطق جاء على لسان بيرنار تيبو رئيس نقابة السي جي تي الذي قال أن أمام الحكومة وأصحاب العمل أيام قليلة لكي تفهم رسالة العمال وتتعامل معها. وفي الهند، فإن تسييس المواجهة واضح في عدد من العناصر. أولاً، الاحتجاج يجيء ضد حكومة ائتلافية يعد الحزب الشيوعي واليسار المتحلق حوله جزءًا أساسيًا فيها وهي حكومة جاءت للسلطة قبل ثمانية عشر شهرًا في انتخابات برلمانية توجت موجة من الغضب الشعبي ضد الفقر وتراجع مستويات المعيشة. لكن الحكومة الجديدة خيبت آمال فقراء الهند واستمرت في نفس السياسات التي سارت عليها سابقتها اليمينية. وترفع النقابات العمالية التي قادت الإضراب برنامجًا متكاملاً من 16 نقطة تطالب الحكومة بتطبيقه، على رأسه وقف الخصخصة ورفع الأجور وتقوية نظم تزويد الفقراء بالغذاء. وينطبق هذا الوضع بدرجات مختلفة في الحالات الأخرى على اختلاف درجة تنظيم وتاريخ الحركات العمالية فيها.

ليست آخر المطاف:
هناك عنصر آخر يجمع كل الإضرابات العامة التي تحدثنا عنها هو أنها وفقًا لمنظميها ولنتائجها ليست إلا خطوة ستتبعها خطوات. وبالفعل في الحالتين الفرنسية والبلجيكية تؤكد النقابات العمالية أنها تنتظر ردة فعل الحكومة لكي تكرر ضرباتها. وفي بلجيكا يتم الإعداد بالفعل لإضراب عام جديد في الأسابيع القادمة. هذا الوضع ناتج عن دوافع تلك الإضرابات والوضع السياسي والطبقي الذي أنتجها.

عندما كان كريس هارمان يحلل منطقة العطب الأوروبية أرجع ذلك إلى التحولات التي جلبت أحزاب الاشتراكية الديمقراطية للحكم في أوربا والتي استمرت في تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة وهو ما أزال الأوهام عن العديد من مؤيديها. ومع تصاعد تطبيق هذه السياسات وتصاعد التكلفة التي تدفعها الطبقة العاملة وجمهور الفقراء بدأت حالة الغضب الشعبي تتبلور. لكن هذه الحالة لم تردع حكومات الطبقات الحاكمة ولم تدفعها للتراجع بسبب زيادة الضغوط عليها بفعل المنافسة العالمية لتطبيق سياسات أكثر قسوة تهاجم المعاشات والأجور وتعمل على زيادة ساعات العمل واستغلال العمال.

في هذا الإطار يمكن أن نفهم لماذا توجه دي فيلبان إلى خصخصة شركة الكهرباء الفرنسية بعد أسابيع قليلة من الإضراب برغم ما تحدث عنه من أن رسالة العمال وصلته. إن هذه التركيبة التي تجمع بين تردي أوضاع العمال وبدء تبلور حس معمم لمعركتهم ضد هذا التردي وضعف مرونة الطبقات الحاكمة وقدرتها على الاستجابة ولو حتى جزئيًا للمطالب العمالية – هذه التركيبة تعني أن المواجهة ستكون ممتدة.

لكن هناك عوامل مازالت تلعب دورًا في إضعاف قوة الحركة الجديدة وهو شيء يظهر في كل حالات الإضراب العام التي تحدثنا عنها وعلى رأسها سيطرة البيروقراطية النقابية على هذه الحركة. ففي ظل غياب أحزاب ثورية مرتبطة بشكل مباشر بالحركة العمالية الوليدة، تصبح الأخيرة تحت رحمة تناقضات بيروقراطية النقابات. وفي الهند على سبيل المثال ينعكس ذلك في التوجه السياسي لاتحاد النقابات العمالية الذي دعا للإضراب ونظمه فهو يدافع عن التوجه ببرنامج الثماني عشرة نقطة الذي تحدثنا عنه إلى رجال الأعمال والشركات الكبيرة لإقناعها به. وهكذا فإن بزوغ قيادات من نوع آخر سيكون حاسمًا في مستقبل منطقة العطب الجديدة الوليدة تلك وساعتها سيكتسب التمرد الأوروبي الأمريكي الذي يصفه كريس هارمان بعدًا جديدًا ويأخذ خطوة ملموسة في اتجاه مواجهة عالم الليبرالية الجديدة المعادي للإنسانية.