المقاومة والثورة في الشرق الأوسط
من انتصار حزب الله إلى هزيمة الإمبريالية
يحاول تامر وجيه في السطور التالية رسم الصورة الجديدة للوضع الإقليمي، الشرق الأوسط الجديد الذي خلقته المواجهة بين إسرائيل وحزب الله ويستطلع المدى الذي يقترب به أو يبتعد عن الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كوندوليزا رايس في بداية الحرب.
يكشف قرار مجلس الأمن رقم 1701 عن الطبيعة المتناقضة للوضع الذي خلقته نتائج الحرب الإمبريالية-الصهيونية على لبنان خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين. فمن ناحية أولى، يعترف القرار بحقيقة ما جرى على أرض المعركة من نصر للمقاومة. فهو لا يطرح أي إجراءات مباشرة لنزع سلاح حزب الله أو تصفيته عسكريا وسياسيا، ويكتفي فقط بتبني اقتراح فؤاد السنيورة والحكومة اللبنانية بنشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني مع تراجع قوات الحزب إلى ما وراء النهر. أيضا وتراجع القرار، بعد تعديله، عن اقتراح إنشاء قوة دولية قتالية في الجنوب وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، واكتفى بالدعوة إلى تعزيز قوات اليونيفيل مع الحفاظ على طبيعتها كقوة حفظ سلام تعمل وفقا للفصل السادس من الميثاق.
لكن القرار من ناحية أخرى يؤكد على مسئولية حزب الله عن الحرب ويطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن 1559 الذي يدعو صراحة إلى نزع سلاح حزب الله. لم يتضمن القرار أيضا أي حسم للقضايا المعلقة بين إسرائيل ولبنان مثل قضية الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية وقضية مزارع شبعا المحتلة.
هذا القرار المشوّه والمتناقض لم يأت صدفة. فهو انعكاس لطبيعة الحرب ونتائجها وللتناقض بين العسكري والسياسي الذي أفرزته، وهو أيضا تعبير عن محاولة القوة الإمبريالية الأعظم – الولايات المتحدة الأمريكية – إحالة ما فشلت المدافع في تحقيقه إلى العملية السياسية التي ستتلو سكوت المدافع.
جذور الحرب
لا يمكن فهم حرب لبنان إلا كامتداد “عسكري” للسياسة الإمبريالية – الصهيونية في منطقة الشرق الأوسط. اندلعت الحرب ليس، كما يصر البعض، لأن حزب الله قام بخطف جنديين إسرائيليين في عملية عسكرية ناجحة ومحدودة، ولكن لأن الولايات المتحدة وإسرائيل التقتا على هدف تحطيم الحزب والمقاومة اللبنانية كوسيلة لتعديل موازين القوى الإقليمية التي باتت تعمل في غير صالحهما في المرحلة الأخيرة.
المتأمل لمجريات الأمور في الشرق الأوسط في السنوات القليلة الفائتة يمكنه أن يلاحظ أمرين أساسين. الأمر الأول هو المصاعب الكبيرة التي تواجهها الاستراتيجية الأمريكية للحرب على الإرهاب. فبعد أوهام النصر، وبعد أحلام تدشين نماذج ديمقراطية-ليبرالية ناجحة في أفغانستان ثم العراق ، أفاقت العنجهية الاستعمارية الأمريكية على حقيقة أن امتداد قوس الهجوم الإمبريالي، والتورط في احتلال عسكري مباشر لبلد كبير كالعراق، كان ثمنه الانزلاق إلى مستنقع ذي مذاق فيتنامي لا يبدو أن هناك مخرجاً قريباً منه.
الأهم هو أن هذه “الورطة الفيتنامية” لم تؤد فقط إلى تعطيل استكمال المخطط الأمريكي للهيمنة العالمية، بل أدت أيضا – وهذا هو الأمر الأكثر مركزية – إلى زعزعة الهيبة وإضعاف القوة الأمريكية بما سمح بتصاعد جبهات جديدة للمقاومة والتحدي في أمريكا اللاتينية (فنزويلا، بوليفيا، كوبا) وآسيا (كوريا الشمالية)، بل وفي الشرق الأوسط ذاته. فالجرأة الإيرانية في تحدي الإرادة الأمريكية فيما يتعلق بملفها النووي، والتحالف السوري الإيراني، وحتى الصعود السياسي لحماس، كل هذه أمور لا يمكن عزلها أبدا عن آثار المستنقع العراقي على مجمل السياسة العالمية والإقليمية.
الأمر الثاني الذي يمكننا ملاحظته هو تحولات السياسة الإسرائيلية ومآزقها. ذلك أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية – الذي سبق أحداث الحادي عشر من سبتمبر بعام واحد لا غير – والفشل الإسرائيلي في تصفيتها، قد دفعا الدولة الصهيونية، تحت قيادة شارون، إلى استبدال استراتيجية السلام العربي-الإسرائيلي برعاية أمريكية بسياسة فك الارتباط. فقد أصبحت تلك السياسة الأخيرة هي جوهر الرؤية الإقليمية لإسرائيل في السنوات الثلاث الأخيرة. بل الأكثر من ذلك أنها كانت الأساس لتكوين تيار سياسي جديد تمثل في حزب كاديما الذي بنى رؤيته الاستراتيجية على الاعتراف بفشلين: الفشل في تركيع المقاومة الفلسطينية وتصفيتها إلى الحد الذي يسمح بالعودة إلى مسار السلام الاستسلامي، والفشل في الاحتفاظ بكل الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال.
سياسة فك الارتباط كانت تقوم، بعد الاعتراف بالفشلين، على أنه لا يوجد شريك للسلام على الجانب الفلسطيني، وأن حل القضية الفلسطينية لابد أن ينبني على اتخاذ خطوات من طرف واحد تقوم بها إسرائيل، جوهرها هو التخلي عن الأراضي ذات الأغلبية الفلسطينية وغير ذات الأهمية الاستراتيجية، مع ضم باقي الأراضي بالقوة ومع بناء سور عازل كأساس لاستراتيجية دفاعية محكمة تمهد لحل نهائي من طرف واحد.
المشكلة هنا أيضا أن سياسة فك الارتباط فشلت. فإذا اعتبرنا الانسحاب المهين من لبنان في مايو عام 2000 على يد حكومة باراك كان بداية “ما” لهذه السياسة، فمن الواضح أن هذا الانسحاب لم يؤد إلى تصفية الصراع أو إلى إنهاء المواجهة، بل أدى على العكس إلى تقوية شوكة حزب الله العسكرية وتعميق روابطه الاستراتيجية الإقليمية وتجذير قواعده الشعبية، أي أدى إلى تصاعد قدرته على تصعيد المقاومة ضد “العدو الإسرائيلي”.
أما على الجانب الفلسطيني، وهو الأهم بالنسبة لإسرائيل، فقد ظهر أيضا أن فك الارتباط بالانسحاب من غزة، وببناء السور العازل الذي تكلف مئات الملايين، لم يؤد إلى إضعاف حماس ولا إلى تصفية المقاومة. بالعكس، هو أدى إلى إعطاء حرية حركة أكبر لحماس. فرأينا نتائج الانتخابات التشريعية التي وضعتها في مواقع السلطة، ورأينا تصاعد معدلات إطلاق صواريخ القسام (التي بالرغم من ضعف تأثيرها، إلا أنها تؤشر لإسرائيل على إمكانيات المستقبل إذا ما استمرت حماس في العمل بحرية انطلاقا من غزة المحررة).
إذن فكل من أمريكا وإسرائيل واجهتا مصاعب جمة، بل ويمكن القول فشلا كبيرا، في سياسات كانتا قد اتبعتاها مع مطلع القرن الجديد. فقد انتهت استراتيجية الحرب على الإرهاب الأمريكية إلى مستنقع عراقي-أفغاني خطير، وإلى تحدي إيراني سوري مهين. أما سياسة فك الارتباط الإسرائيلية، فقد انتهت إلى تقوية شوكة حماس سياسيا، وحزب الله سياسيا وعسكريا.
العقدة الإيرانية
القراءة الأمريكية-الإسرائيلية للفشل المتزايد والورطات المتلاحقة تركزت على الدور الإيراني. فقد التقت الرؤيتان الأمريكية والإسرائيلية على أن إيران هي حجر الزاوية في السياسة الإقليمية المضادة، وأن ضرب إيران وإضعافها سوف يؤدي إلى حل كل المسائل الأخرى.
جزء من هذه الرؤية ينبع من الأزمة والفشل. فطالما أن أمريكا وإسرائيل لم تستطعا أن تقضيا على الموطن الأساسي للداء – المقاومة العراقية أولا والمقاومة الأفغانية والفلسطينية ثانيا – فإن العادة هي أن القوى الإمبريالية والاستعمارية تميل إلى فتح جبهات أخرى لتحقيق انتصارات لتحسين الصورة وبناء مواقع قوة جديدة في لعبة التوازن الاستراتيجي.
لكن جزءاً آخر من السبب يكمن في حقيقة الدور الإيراني. فإيران فعلا هي الكاسب الأكبر من المستنقع الأمريكي في العراق. ذلك أن سخرية القدر قد حولت الأزمة الأمريكية في العراق إلى مصلحة أكيدة لإيران. فمن ناحية أولى أصبح لإيران صوت هام في مجريات السياسة الداخلية العراقية بتحالفاتها مع قوى شيعية، اضطرت الولايات المتحدة إلى إعطائها دورا داخليا كبيرا في تركيبة السلطة الهشة. ومن ناحية ثانية، سمحت الورطة الأمريكية في العراق لإيران بتحدي الهيمنة الأمريكية وبالمضي قدما في محاولة بناء قوة نووية محلية.
على أن سياسة المواجهة المباشرة مع إيران لم تحقق نجاحا يذكر. فورطة أمريكا في العراق منعت الولايات المتحدة من حشد التأييد الداخلي والدولي والإقليمي المطلوب لضرب إيران عسكريا. من هنا برز مخطط تصفية حزب الله كبديل أقل تأثيرا، ولكن أكثر قابلية للتنفيذ. فحزب الله حليف أساسي لإيران، وضربه سيضعف الجبهة الإيرانية-السورية، وسيؤدي إلى تهيئة الأجواء السياسية الداخلية في لبنان لصعود القوى المتبنية للمشروع الأمريكي، وهي قوى أكثر نفوذا وتأثيرا من مثيلاتها في كل المنطقة العربية.
أما إسرائيل، فكانت ترى من جانبها أن تصفية حزب الله ستحقق لها مصلحة أكيدة ليس فقط في تأمين الجبهة اللبنانية، ولكن في ردع الجبهة الفلسطينية وعزلها سياسيا وعسكريا، مما سيسهل من تنفيذ مشروع فك الارتباط مع غزة وضم معظم أراضي الضفة.
الحرب
هذا هو الظرف الذي نشبت فيه الحرب على لبنان وحزب الله (وعلى فلسطين وحماس). كان الهدف هو تحطيم القدرات العسكرية لحزب الله تماما، وإجباره على الانسحاب مهزوما إلى الداخل اللبناني، ثم الاستثمار السياسي للنجاحات العسكرية في عملية تدجين الحزب وإخراجه من المعادلة السياسية اللبنانية، وتنصيب تحالف الرابع عشر من آذار (التحالف السياسي اللبناني المطالب بنزع سلاح الحزب وبتصفية النفوذ السوري في لبنان) في وضع الهيمنة على الحالة السياسية اللبنانية الداخلية، بعد أن فشل القرار 1559 في تحقيق ذلك بوسائل أخرى غير الحرب المباشرة.
هذا ما دعا الكثيرين، عن حق، إلى توصيف حرب لبنان الأخيرة بأنها حرب أمريكية أكثر من كونها حربا إسرائيلية. فالولايات المتحدة لم تخف كثيرا توجهاتها ورؤيتها لطبيعة تلك الحرب. كوندوليزا رايس قالت علنا إنها حرب من أجل شرق أوسط جديد. أي أنها مدخل لاستعادة المبادرة الأمريكية في منطقة تورطت فيها وباتت في مستنقع يصعب الخروج منه، وليست فقط حربا محدودة هدفها استعادة جنديين أو حتى استعادة هيبة وقوة ردع الجيش الإسرائيلي.
لكن أتت الرياح بما لم تشته سفن الإمبريالية قط. فصمود حزب الله وأداؤه العسكري الأسطوري في أيام الحرب الـ33 قلب كل الموازين. بدأت الحرب بمطالبات إسرائيلية واضحة: استعادة الجنديين، نزع سلاح حزب الله، إخراجه تماما من الجنوب اللبناني. وانتهت فقط بقرار (لم ينفذ كلية بعد) بتراجع الحزب – مع احتفاظه بكافة عتاده – إلى ما وراء الليطاني.
الأهم من ذلك أن الحرب كانت لها نتائج سياسية ومعنوية ستلعب دورا حاسما في السياسة الإقليمية والعالمية في المرحلة المقبلة. فإهانة الجيش الإسرائيلي وإثبات عجزه عن احتلال أراض جديدة، بل حتى عن تحطيم القدرات العسكرية لحركة مقاومة صغيرة في دولة صغيرة، قد أدى إلى اختلال حقيقي في استراتيجية الردع الإسرائيلية، وإلى إبراز صحة وأهمية الرؤية القائلة بأن حركات المقاومة – وليست الجيوش النظامية – هي القادرة على مواجهة إسرائيل وردعها وإجبارها على تعديل أهدافها. ثم أن تعديل القرار 1701، بالتراجع عن مطلب إنشاء قوة دولية ذات قدرات هجومية، أثبت أنه حتى السياسة الدولية يمكن تعديل موازينها بقوة الصمود العسكري للمقاومة.
وأخيرا فإن الحرب بنتائجها الكارثية على الولايات المتحدة وإسرائيل، لم تؤد إلى تقوية، بل على العكس، المعسكر الطبقي-السياسي المؤيد للإمبريالية في المنطقة. فالأنظمة العربية التي راهنت – كأمريكا – على نصر إسرائيلي سريع وقعت في حرج كبير وفقدت كل مصداقية شعبية متبقية لها وانفصلت كلية عن شعوبها. والقوى اليمينية اللبنانية وقعت – على الأقل أثناء الحرب ومع صمود المقاومة – في حرج كبير أدى إلى لجم حركتها مما أعطى دفعة للتضامن الشعبي اللبناني من كافة الطوائف مع المقاومة وأضعف إمكانيات اللعب بالورقة الطائفية. بل إنه حتى الرؤية الديماجوجية، القائمة على منهج فرّق تسد، التي أطلقها الملك عبد الله ملك الأردن حول مسألة الهلال الشيعي فقدت قوة دفعها أثناء الحرب عندما اصطفت قوى سنية عديدة (من بينها الإخوان المسلمين) وراء حزب الله بصفته المقاومة.
إذن فانتصار المقاومة في لبنان أفشل الهجمة الأخيرة للمعسكر الأمريكي-الصهيوني وضاعف من مأزقه. ويمكننا الآن أن نتوقع أن إلهام المقاومة اللبنانية “الشيعية” سيضاعف من الأثر الملهم للمقاومة العراقية “السنية”. وقد رأينا بعيوننا حالة الانتشاء بالنصر بين أبناء الجنوب اللبناني، ورأينا التحدي الإيراني للمطالب الدولية ورفضها لإيقاف تخصيب اليورانيوم بالرغم من التهديد بالعقوبات، ورأينا خطاب بشار الأسد الهجومي، وغيرها من النتائج السياسية المباشرة للحرب.
الحرب والطبقات
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت المقاومة قد انتصرت عسكريا، فلماذا إذن يصر القرار 1701 على استمرار المطالبة بنزع سلاح حزب الله وغيرها من المطالب التي لا تتناسب – ظاهريا – مع النتائج العسكرية للحرب؟
الحقيقة أن الحرب كانت – كما قلنا – محاولة فاشلة (وذات نتائج كارثية) للخروج من مأزق وجدت الإمبريالية والصهيونية نفسيهما فيه. لكن الحرب أيضا أثبتت – كما يكشف القرار 1701 بوضوح – أن المقاومة العسكرية وحدها لا يمكن أن تقضي على خطر الهمجية الإمبريالية والصهيونية.
فلنأخذ التجربة الفيتنامية كمثل. فصمود المقاومة الفيتنامية ونجاحاتها العسكرية الأسطورية لعبا بلا شك دورا مركزيا في تحقيق النصر النهائي. لكنهما لم يؤديا وحدهما إلى انسحاب الجيش الأمريكي ولا إلى تحقيق النصر. كان لابد أن ينعكس الصمود العسكري في تبدلات في الموازين والقوى في الداخل الأمريكي والأوروبي والعالمي، أي كان لابد أن ينعكس أداء المقاومة على الصراع الطبقي الداخلي في البلدان الاستعمارية والبلدان المتحالفة معها بالدرجة التي تؤدي إلى جعل استمرار “السياسة الاستعمارية” أمرا لا يطاق سياسيا.
هذا الانعكاس السياسي للنصر العسكري لم يتحقق بعد في الشرق الأوسط. صحيح أن المقاومة تحقق نجاحات، وتصيب الإمبريالية في هيبتها، لكنها وحدها لن تكفي لإخراج أمريكا من العراق أو من أفغانستان ولن تكفي لتحرير فلسطين ولبنان. فعلى رغم مركزية المقاومة، وعلى رغم من كونها حجر الزاوية في النضال ضد الإمبريالية، إلا أنه لابد أن تنعكس آثارها على هزيمة أمريكية وأوروبية وإسرائيلية داخلية؛ أي على هزيمة قوى الإمبريالية والهيمنة داخل الولايات المتحدة وأوروبا في مواجهة حركات مناهضة الحرب والاستعمار.
هذه الحلقة المفقودة – الحلقة التي يؤدي فقدانها إلى استمرار مبارك وعبد الله في السلطة، وإلى احتفاظ سياسات بوش وأولمرت العنجهية بسيطرتها السياسية الداخلية – تكشف حقيقة أن المقاومة لدينا لم تتبلور بشكل كاف بعد في صورة حقائق وتوازنات جديدة في الصراع السياسي والطبقي الداخلي في المراكز الطبقية للهيمنة الإمبريالية وفي المراكز الطبقية المتحالفة معها في المنطقة العربية.
طالما ظلت استراتيجية الحرب الإرهاب الأمريكية غير منهزمة في الداخل الأمريكي وغير محاصرة عالميا، وطالما ظلت استراتيجية فك الأرتباط مهيمنة في الداخل الإسرائيلي، وطالما استمر الظهير العربي للإمبريالية (المتمثل في حكم البرجوازيات العربية) قويا وفاعلا، ستظل المعركة مفتوحة وغير محسومة لصالح الجماهير العربية.
الدرس الذي نخرج به من هذه المعادلة هو أن الهزيمة على المستوى العسكري فقط للمعسكر الأمريكي-الصهيوني غير ممكنة؛ الممكن والضروري هو هزيمتهما سياسيا على أساس من الصمود العسكري الممتد للمقاومة.
ما نراه الآن، وما سوف نراه ربما على الأجل المتوسط، هو من نتائج الفجوة بين النصر العسكري للمقاومة واستمرار السيطرة السياسية النسبية للقوى المعادية لها. من هذه الفجوة مرّ القرار 1701 بتناقضاته. فالولايات المتحدة وإسرائيل تعتمدان الآن، بعد فشلهما الكبير في المواجهة العسكرية في لبنان، على اليمين اللبناني والأنظمة العربية لتنفيذ ما فشلت في تنفيذه آلة الحرب الإسرائيلية. المعركة القادمة التي سيواجهها حزب الله لن تكون على أيادي صهيونية بل على أيادي لبنانية. وشعار “كل السلطة للدولة” الذي يرفعه تحالف الرابع عشر من مارس/آذار اليميني اللبناني، والذي هو في معناه العملي اليوم – وبلا لف أو دوران – السعي إلى تركيع المقاومة بوسائل السياسة وربما الحرب الأهلية، هو قميص عثمان الذي يرفعه التحالف الطبقي الحاكم في البلدان العربية الذي يرى في التحالف مع الإمبريالية الأمريكية الوسيلة الوحيدة للحصول على حصة من حصيلة النهب الاستعماري العالمي.
الانتصار في المعركة ضد أعداء الداخل – ضد الطبقات الحاكمة – هو الانتصار الأصعب. لكنه سيصبح أمرا أكيدا ومسألة وقت إذا ما أدركنا أن دعم المقاومة وتوسيعها هو الجسر الذي سيعبر بنا من المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية إلى المعركة ضد الطبقات الحاكمة. استمرار المقاومة وتكبيدها للإمبريالية الأمريكية خسائر فادحة هو الذي رفع أسهم حركة مناهضة الحرب الأمريكية والعالمية مؤخرا، وهو الذي أضعف حزب كاديما، وهو الذي كشف الأنظمة وعمّق الهوة بينها وبين شعوبها.
والمطلوب استراتيجيا في هذا السياق هو ميلاد قوى سياسية شابة ومنفتحة ومنغمسة في النضال تربط بين معركة المقاومة ومعركة الطبقات، وتكشف عن الروابط بين الإمبريالية والبرجوازيات العربية، ومن ثم تدعو إلى توسيع المقاومة لتصبح ذات بعد طبقي جوهري، وتعلن أن هزيمة إسرائيل من الداخل لن تتأتى إلا عبر ثورات جماهيرية عربية تضغط على الدولة الصهيونية وتفكك تماسكها، وتطرح أفقا جديدا للسلام القائم على تصفية الإمبريالية والصهيونية والاستغلال.