أمريكا وأوباما
هل تجدد الإمبريالية نفسها؟

هناك حقيقتان سبق تأكيدهما في هذه المجلة أكثر من مرة. الأولي أن الإمبريالية لا تتغير في مضمونها كثيرا إذا ما تحولت من إمبريالية متغطرسة (وفي حالتنا هذه محافظة أو تميل إلي اليمين المتطرف)، إلى إمبريالية ليبرالية أو متسامحة (لا تلجأ للحرب كثيرا، وفي حالتنا هذه، كما سنري، هذا لن يحدث). أما الحقيقة الثانية فهي أن أي تغيير اجتماعي لا يمكن أن يحدث عن طريق صندوق الانتخابات.
يعرف أي متابع منصف للشأن الأمريكي أنها دولة تحكمها ديكتاتورية حزبين كلاهما يطبق السياسات الرأسمالية، سواء بتطرف شديد كما في حالة الحزب الجمهوري، أو بمسحة اجتماعية طفيفة كما في حالة الحزب الديمقراطي. وببساطة، فإنه يعد شخصا واهما من ينتظر حدوث تغيير جذري حقيقي من قبل الحزبين الحاكمين، سواء في صالح فقراء المجتمع الأمريكي، أو للمجتمع الدولي وفقراء العالم الذين عانوا من غطرسة إمبريالية أمريكا وحروبها.
هل تغير هذا الكلام بعد انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد باراك حسين أوباما؟ “لا” هي الإجابة المختصرة على التساؤل. لكن كيف نفهم هذا الرد في سياق حالة التفاؤل التي أعقبت انتخاب أوباما في أمريكا، بل وفي معظم بلدان العالم؟
حتي نكون منصفين، فإنه يجب الاعتراف بأن هناك حالة من الحراك الاجتماعي والسياسي خلقها انتخاب أوباما. هذه الحالة، كما سنرى، يمكن أن تكون سلاحا ذو حدين. فمن جهة أولى حاولت الرأسمالية الأمريكية استثمار نجاح أوباما لتبييض وجهها واستيعاب الحالة التي تسببت في نجاحه، بل وشهدت أمريكا حديثا إعلاميا مكثفا أن التغيير قد تم بالفعل! لكن من جهة أخرى، فإن هناك إمكانية كبيرة لحدوث إحباط اجتماعي وسياسي إذا فشل أوباما في تحقيق وعوده. وكل من ينتظرون تغييرا جذريا في إمبريالية أمريكا نتيجة انتخاب أوباما سوف يخيب أملهم، كما سنرى.
في هذا السياق سوف يركز هذا المقال على أربعة أمور أساسية هي أوباما و1) الحرب؛ 2) فلسطين؛ 3) العنصرية؛ 4) الأزمة الاقتصادية في أمريكا.
لماذا فاز أوباما؟
قبل القيام بعرض توقعاتنا لما بعد الانتخابات، تعالوا نتذكر لماذا فاز أوباما؟ واحد من أهم الأسباب هو الحماس الشديد في قطاعات واسعة من الشباب. يشير الكثير من التقارير إلى أن كل شىء حول شخصية أوباما كان جديدا وغريبا. وقد ساعده هذا ليكون مرشح التغيير المثالي. فمن المعروف أن الشباب ربما يشارك في الحملات الانتخابية، لكنه لا يقوم بالتصويت في النهاية. لكن حجم الضجر من سياسات بوش شجع الكثير من الشباب على الانضمام لحملة أوباما والتصويت له. ووفقا للنتائج النهائية للانتخابات كان هناك فارق كبير بين أوباما وماكين في قطاع الشباب، حتي في الولايات التي تتسم بالمحافظة الشديدة، مثل أوهايو. وفي تقرير لمؤسسة جون ديلا فولب John Della Volpe، فإن المقارنة بين انتخابات 2004 و2008 تشير إلي فوارق كبيرة تخص مشاركة الشباب. فبينما تقدم كيري على بوش بنسبة 9 % في وسط الناخبين الشباب، فإن أوباما قد تجاوز ماكين بنسبة أكثر من 23 %، علما بأن ماكين تميز بحصده لأصوات العجائز الذين تجاوزوا 65 عاما.
ومن الأسباب المهمة أيضا المالية الضخمة لحملة أوباما. فقد تجاوز تمويل حملته أكثر من 640 مليون دولار، وهو أكبر رقم في تاريخ الانتخابات الأمريكية – أكثر بكثير من احتياجات الحملة! وهناك جدل عما يجب أن تقوم به الحملة في هذا الفائض المالي. هذا بينما لم يتجاوز كل ما استطاع ماكين جمعه 360 مليون دولارا، أي تقريبا نصف ما جمعه أوباما!
وقد ساعدت أوباما في جمع هذا المبلغ الضخم مسألتان مهمتان. الأولي أنه قرر عدم الاعتماد على الدعم الحكومي. فوفقا للقوانين الأمريكية، فإنه في حالة الاعتماد على الدعم الحكومي يجب أن يخضع المرشح لسقف مالي ورقابة مالية أكثر. أما الأمر الثاني فهو الاعتماد على الإنترنت والتبرعات الصغيرة. (أثناء الحملة الانتخابية أشار ماكين أكثر من مرة إلى أن حملة أوباما قد جمعت تبرعات من شركات رأسمالية كبرى على خلاف ما تدعيه من أن معظم التبرعات كانت من الداعمين الصغار. وبالرغم من تأكيد حملة أوباما على أن التبرعات كان معظمها من المتبرعين الصغار، إلا التقارير المالية حول هذه الأموال لم تنشر بعد). على أي حال، فقد خلق الفارق الرقمي بين ما جمعه ماكين وأوباما ميزات ضخمة للأخير في منافسة ماكين، ليس فقط في الولايات “المتأرجحة” بين الحزبين، ولكن أحيانا في ولايات تخضع تماما لنفوذ الحزب الجمهوري. كما ساعدت هذه الأموال حملة أوباما على شراء أوقات إعلانية طويلة وحيوية في محطات التليفزيون الرئيسية.
كذلك ساعدت هذه الأموال أوباما على القيام بحملة تعبئة ناجحة. فمن المعروف أن المواطنين الأمريكيين يجب أن يقوموا بتسجيل أسمائهم قبل الانتخابات إذا أرادوا التصويت. وقد ساعدت حالة الحماس الشديدة لأوباما، والإمكانيات المالية الجبارة لحملته، في تسجيل أعداد مهولة من الشباب والسود. وقد ذهب المتطوعون مع أوباما للمنازل وللشركات الصغيرة والمؤسسات الاجتماعية لمساعدة الناس علي التسجيل.
أما ثالث العوامل المساندة لأوباما فهو عامل العرق. ساعد أوباما كثيرا تقديمه لنفسه على أنه مرشح يتجاوز مسألة العرقية والعنصرية. بهذه الطريقة ضمنت حملته الحصول على كل أصوات السود وأيضا الليبراليين ومتعددي الاعراق الذين يؤمنون بأن أمريكا مجتمع متعدد الثقافات. والمفارقة أن أحد الأسباب الأساسية التى أدت إلى انتخاب أوباما كانت هي أصوات السود، بينما كان هو يحرص على تجنب هذه الحقيقة طوال الوقت. وقد ساعدته أصوات السود في الحصول على أصوات ولاية كفلوريدا التى لا يحلم أي مرشح ديمقراطي بالفوز بها.
وكان أحد الأسباب المهمة، التى لم يشر إليها كثيرون، حالة الغموض والعمومية في شعارات مثل “التغيير”. إذ طرح كتاب يساريون أن الصياغة الفضفاضة لهذه الشعارات تجعلها تشمل كل شىء. فهي تتسع لمعارضة أي شىء في السياسات القائمة: الشعار كان يبدو موجها لمعارضي الحرب، ولأنصار حقوق المرأة وحق الاجهاض، وأنصار الحقوق المدنية.. الخ، في الوقت فسه.
وإذا كانت معارضة الحرب هي الركن الأساسي في بداية الحملة الانتخابية لأوباما، فقد كانت الأزمة الاقتصادية هي العامل الحاسم الذي رجّح كفته في المعركة. حيث حسمت الأزمة مواقف كثير من الناس في صالح أوباما والحزب الديمقراطي على حساب الجمهوريين.
وكذلك كان أحد أهم العوامل ذكاء أوباما الذي جعل الحملة تركز ليس على شخصه، بل على التغيير الذي يأتي من خلال الناخبين أنفسهم. وكثيرا ما ردد أوباما هذه العبارة، وهي مذكورة في موقعه الانتخابي: “أنا أطلب منكم أن تؤمنوا بالتغيير، ليس عن طريق شخصي أنا، لكن عن طريقكم أنتم.” وهي عبارة في منتهي الذكاء تجعل التغيير منسوبا للناس.
هل انتهت إمبريالية الحروب لتبدأ إمبريالية السلام؟
أي متابع منصف للانتخابات الأمريكية يمكن أن يلاحظ أن أوباما كان بالفعل معارضا للحرب على العراق. لقد ساعدته الظروف! حيث أنه لم يكن عضوا بمجلس الشيوخ أثناء التصويت على حرب العراق. وكانت هذه ميزة كبيرة تم استخدامها أثناء الحملة الانتخابية. لكن أي متابع منصف سوف يلاحظ أيضا أن خطاب أوباما المعارض للحرب قد اختلف بعد الانتخابات التمهيدية. إذ بدأ الخطاب يركز علي وجود خطة لانسحاب معقول خلال 16 شهرا.
وفي دراسة نشرتها مجلة Foreign Policy in Focus بتاريخ 10 يناير 2008 تمت الإشارة إلى أن أوباما لم يكن ناقدا حادا للحرب في مجلس الشيوخ قبل أن يبدأ معركته الانتخابية. وفي عامي 2005 و2006 صوّت لزيادة التمويل غير المحدود للحرب. وبالرغم من عدم موافقة غالبية الديمقراطيين في البداية على تعيين كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية، صوّت لها أوباما بالرغم من دورها المعروف في تأييد الحرب.
وحتى لو افترضنا أن أوباما سوف ينسحب من العراق بعد 16 شهرا، فنحن نعرف أنه بموجب الاتفاقية الأمنية، وبموجب وجود أكبر سفارة أمريكية في العالم في العراق، فإن العراق سوف يظل محتلا بشكل أو بآخر. نحن نعرف كذلك أن تحرير العراق شىء وانسحاب القوات الأمريكية شىء آخر. وحتى لو نسينا العراق، فماذا عن أفغانستان؟ لا يجب أن ننسى أن جوهر خطة أوباما هو انسحاب القوات الأمريكية من العراق مع تركيزها في افغانستان. إذاًَ: خطة أوباما لا تتضمن نهاية الحروب وإنما تغيير استراتيجية التعاطي معها.
وإذا تابعنا بدقة الخطاب الذي ألقاه أوباما بعد حلفه القسم الرئاسي، سوف نلاحظ أمورا كثيرة أهمها المرواغة الشديدة. فالخطاب لا يذكر أي كلمة عن الحرب، لكنه يتوعد الخطرين على أمريكا. الأمر الأهم هو أنه يركز علي قيادة أمريكا للعالم في إشارة لا تقبل أي تبديل على أن أمريكا يجب أن تظل هي القوة المسيطرة.
وفي تعليقه على الخطاب، أشار وزير الخارجية الإسباني مثلا إلى أن الخطاب قد خلا من أية إشارة لكلمة التعددية (multilateralism)، وهي الكلمة التي تحب أن تسمعها الدول الكبرى والمهمة الأخرى من أمريكا، على اعتبار أنها تعني مشاركة في اتخاذ القرارات في الشأن الدولي. لكن طبعا هذه الرغبة من جانب طبقات حاكمة أخرى في عدم انفراد أمريكا بإدارة العالم، لا تعني أن التشاور يعني نهاية الإمبريالية. فالقرارات الدولية، سواء صدرت عن طريق تعاون ومشاركة دوليين، أو عن طريق طرف منفرد، تظل صادرة عن طبقات حاكمة. والإمبريالية لا تنصرف إلى سيطرة دولة واحدة في كل الأحوال. كما أن قيادة الإمبريالية وأفعالها يمكن أن تستمر كما هي، بالرغم من وجود تشاور دولي.
والقارىء الفطن لخطاب إدارة أوباما وحملته الانتخابية سيكتشف أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تتخلى عن سيطرتها على العالم. ويمكن أن نرى هذه الحقيقة في كلمة قالها أوباما في حفل تنصيب هيلاري كلينتون كوزيرة للخارجية. فقد أكد أوباما أن وجهة نظر الإدارة الجديدة هو أن القوة وحدها لا تكفي في العلاقات الدولية، ولكن كل من القوة والدبلوماسية مهمين للمصالح الأمريكية. أي أن إمبريالية أمريكا في عهد أوباما ستشمل الحرب والسلام معا.
لكن هناك مؤشرات حول استمرار منطق بوش في بعض الأمور المتعلقة بالحرب على الإرهاب. مثلا تعيين بعض المستشاريين الأمنيين لبوش، أو الذين كانوا يعملون في المخابرات في عهده، في إدارة أوباما، ومن أمثلة هؤلاء جون برينان، وهو كان أول مرشح لأوباما ليقود المخابرات المركزية الأمريكية، لكن بسبب ارتباطه ببعض جماعات الضغط لم يتم تعيينه وفضّل أوباما تعيينه كأحد مستشاريه للأمن الداخلي.
من ناحية أخرى أشار تقرير أحد المواقع الإلكترونية اليسارية (WSWS) إلى سيطرة كثير من العسكريين على إدارة أوباما. كما تساءل تقرير نشر في موقع الصحافة البديلة (AlterNet)، بعد أن قام بحصر أهم الشخصيات التي قام أوباما بتعيينها في إدراته، والتى تشكلت كما يعرف كثيرين منا من وزراء سابقين في عهد كلينتون، حول مصداقية شعار “التغيير” الذي رفعه الرئيس الجديد بعد أن ظهر أن إدارته تتكون من 20 من الصقور، أغلبهم من إدارة كلينتون أو المتمرسين بالحكم، وبعضهم من المحافظين الجدد أو من عملوا مع بوش.
ثم أنه صحيح أن أوباما كان ذكيا عندما بعث رسالة للعالم الإسلامي في خطاب تنصيبه يقول فيها إنه يريد إقامة علاقة مع العالم الإسلامي تبني على الاحترام والمصالح المتبادلة. لكن قول هذا الكلام مع استمرار الحرب على الإرهاب لا يستقيم. فالحرب الغامضة والمفتوحة على الإرهاب معناها العداء لكل العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي، طالما تعارضت مصالحه مع الولايات المتحدة.
العنصرية والفقر في أمريكا أوباما
فور نجاح أوباما حاول الإعلام الأمريكي تقديم هذا النجاح واستثماره بوصفه شهادة ضد العنصرية في أمريكا وبوصفه شهادة للديمقراطية الأمريكية. فلفترة طويلة على سبيل المثال استمرت شبكة السي أن أن في إذاعة فقرات من خطاب انتصار أوباما، الذي كانت أول سطوره تقول إن الرد المناسب على أي مشكك في الديمقراطية الأمريكية قد جاءه اليوم.
إذا استغل الإعلام الأمريكي نجاح أوباما وقدمه على أنه يرمز لنهاية العنصرية في أمريكا. فبطريقة مبالغ فيها تمت استضافة كثير من قيادات حركة الحقوق المدنية ليتحدثوا عن أحلامهم بالمساواة التي تحققت بعد رؤيتهم أول رئيس أسود لأمريكا. وفي حفل تنصيب أوباما، تم الاتفاق مع مطربين سود للغناء منهم إريثا فرانكلين وهي من رموز الغناء الأفريقي في أمريكا. بدا الأمر وكأنه بانتخاب أوباما انتهت العنصرية في أمريكا. لكن هناك الكثير من الحقائق التي يجب أن نتذكرها.
من هذه الحقائق هو الأرقام نفسها التى لا تكذب. ونتذكر هنا الفارق الشاسع على سبيل المثال في عدد السود في السجون مقارنة بالبيض وبالسجناء من أعراق أخرى. فعدد السود يصل إلى حوالي 41 % من كل السجناء الأمريكيين. أيضا هناك 35.9 مليون شخصا يعيشون تحت خط الفقر في أمريكا، 12.9 مليون من هؤلاء أطفال، ومعظمهم من السود ومن الأعراق غير البيضاء ومن العمالة المهاجرة غير الشرعية. هذا الواقع البائس يحتاج مواجهة مجتمعية، والأمل لن يأتي من حكومة رأسمالية جديدة ولو على رأسها أسود.
أما ثاني هذه الحقائق فهو الطريقة التى تعامل بها أوباما نفسه مع قضية العنصرية. وفي هذا السياق يواجهنا سؤالا مهما لا ينتبه له كثيرون هو: لماذا نجح أوباما في الانتخابات الأمريكية بينما لم يستطع أي مرشح أمريكي أسود في الحصول حتى على ترشيح حزب رئيسي في الانتخابات من قبل؟ نذكر هنا أن أوباما أولا وأخيرا هو خريج جامعة هارفارد المليونير والسيناتور من الحزب الديمقراطي. يذكر شبيلبي ستيلي، الأستاذ بجامعة ستانفورد وأحد المتخصصين في دراسة العنصرية في الولايات المتحدة، إن الفارق الأساسي بين أوباما ومن سبقوه مثل جيسي جاكسون وآل شاربتون، هو أن هؤلاء كانوا يمثلوان تحديا للسيطرة الرأسمالية البيضاء. يقول ستيلي: إن السود الذين يدخلون معترك السياسية السائدة أو المسيطرة عن طريق الدخول في الأحزاب الحاكمة في الولايات المتحدة يدخلون “وعلى رأسهم بطحة”، هم يصدعون رأس البيض بالكلام عن العنصرية وتاريخ العبودية، وهناك أسقف لهؤلاء إذا أعلنوا تحديهم للطبقة السائدة، لكن أهم عامل في نجاح أوباما هو أنه لم يمثل تحديا للطبقة السائدة البيضاء.
والدليل على ذلك هو الحقائق على الأرض. فكما جاء في تقرير لوكالة الأسوشيتد برس فإن انتخابات أوباما قد ساهمت في زيادة معدل الجرائم العنصرية. على سبيل المثال شهد الكثير من الولايات الأمريكية حوادث اعتداء على سود أو ملونين وترك المعتدين علامات عنصرية أو قيل للمعتدى عليهم “نتمنى أن يقتل أوباما.” وفي أحد الولايات الجنوبية (جورجيا) اشتكي الطلاب السود من أن المدرسين لم يسمحوا لهم بمناقشة الانتخابات الأمريكية في اليوم التالي للانتخابات. وقد سمع الطلاب السود تعليقات عنصرية من زملائهم.
وفي أحد المدارس عاقب مدير المدرسة إحدى التلميذات لأنها كانت ترتدي قميصا عليه صورة أوباما. وعندما جاءت والدة الطالبة لتقديم شكوي للمدير، قال لها الأخير”سواء أعجبك أم لم يعجبك، فإننا لازلنا نعيش في جنوب الولايات المتحدة!” حتى الولايات التقدمية نسبيا، مثل كاليفورنيا، شهدت بعض الحوداث مثل حرق سيارات أو أعلام. وفي أحد الحوادث اختلقت طالبة بيضاء قصة، حيث قالت للبوليس أن أنصار أوباما اعتدوا عليها جنسيا لأنها تعمل في حملة ماكين. ولم تقتصر هذه الحوادث على السود، بل تم الاعتداء على عمال من أمريكا اللاتينية في ضواحي نيويورك. وهناك الكثير من القلق تجاه الجماعات العنصرية البيضاء وخاصة جماعات “سيادة البيض”(White supremacy). ففي اثناء الحملة الانتخابية، نشرت الصحف الأمريكية بعض التقارير عن وجود أكثر من محاولة اغتيال لأوباما من قبل هذه الجماعات الأخيرة. كل هذه الأمور تشير إلى عمق العنصرية في المجتمع الأمريكي. ومرة أخري نقول لن يأتي التغيير من حكومة رأسمالية جديدة ولو على رأسها أسود.
وماذا عن القضية الفلسطينية؟
لم تكن مصادفة على الاطلاق أن نري مظاهرات احتفال بانتصار أوباما في كثير من دول العالم، بينما الحالة كانت على خلاف ذلك في الشرق الأوسط. أي قارىء لمعظم الصحف العربية والمصرية سيلاحظ حجم الشكوك القوية تجاه أي إدارة أمريكية. هذه الشكوك زادت عندما عين أوباما السيناتور رام عمانوئيل كبيرا لموظفي البيت الأبيض، وهو اليهودي المتشدد، كما أنه كان قد تطوع في الجيش الإسرائيلي أثناء حرب الخليج الأولي. واكتملت الشكوك لتصبح خوفا مؤكدا عندما تم تعيين هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية، وهي المعروفة بقربها الشديد للوبي الصهيوني. وبعدها عين أوباما جورج ميتشل صاحب تقرير ميتشل الشهير مبعوثا خاصا للشرق الأوسط. وكان ميتشل قد كتب التقرير عام 2001 بناء على تكليف من بوش. الشىء الوحيد الإيجابي في تقرير ميتشل كان انتقاده لإسرائيل لبنائها المستوطنات. أما بقية التقرير فهي لا تختلف في شىء عن أوسلو أو مدريد، إلا في كون التقرير يركز بشكل خاص على أهمية جهود الحكومة الفلسطينية لمنع الإرهاب!
مؤشر آخر على مواقف أوباما كان أن أول من حادثه في الشرق الأوسط هو محمود عباس. أوباما، كسلفه بوش، يعتبر أن عباس، المنتهية ولايته، هو ممثل الطرف الفلسطيني الوحيد المعترف به. وهو كذلك يعتبر حماس جماعة إرهابية. وعلى كل الأحوال، فإن أفضل ما سيقدمه أوباما للقضية الفلسطينية هو العودة إلى منهج كلينتون الذي أثبت فشله تماما، والذي كان من ضمن أسباب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين اتضح أن إسرائيل غير مستعدة للتسليم بالحقوق الوطنية الرئيسية للفلسطينيين.
إذن، فمن المتوقع أن لا يحدث تقدم جوهري في الملف الفلسطيني في ظل أوباما. لكن الأهم من ذلك أن نطرح على أنفسنا السؤال: هل سيتوقف أوباما عن دعم إسرائيل وتأييدها؟ وإذا كانت الإجابة بلا كما نعلم جميعا، أفلا يعني هذا أن أوباما سوف يقف وراء إسرائيل في استراتيجيتها المعلنة لتحطيم حماس بقوة السلاح؟ إذاً لا يبدو أن ما سنراه في السنوات القادمة هو تغيير للمسار الدموي في الشرق الأوسط، أو تغيير جوهري في الدور الأمريكي.
رأسمالية متطرفة أم ذات مسحة اجتماعية؟
أدى تصاعد الأزمة المالية الأمريكية، التي أصبحت أزمة مالية واقتصادية عالمية، إلى احتدام معركة الانتخابات الرئاسية بين ماكين وأوباما. حيث بدأ كل فريق يركز دعايته حول المسائل الاقتصادية والمالية التي أصبحت هي الهم الرئيسي للناخب الأمريكي. وبالرغم من أن الكثيرين يصورون الأمر على أن هناك فجوة هائلة بين رؤيتي الجمهوريين والديمقراطيين لإدارة الاقتصاد والتعامل مع الأزمة، إلا أن هذا ليس صحيحا أبدا. فالفارق الأساسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو أن الأخير يؤمن بمساحة أوسع بعض الشيء من التدخل الحكومي لحل المشاكل الاقتصادية، هذا كل ما في الأمر. أما حينما يخص الأمر إنقاذ الرأسمالية الكبيرة من عواقب أزمة هي السبب فيها، فإن الحزبين يتضامنان لتحقيق الهدف ذاته.
ليس محل هذه السطور التناول التفصيلي للفارق بين رأسمالية الحزب الجمهوري وتلك الخاصة بالحزب الديمقراطي. لكن هناك واقعة هامة تشير إلى هذا الفارق سنطرحها كمثل يشرح ما نود قوله. الواقعة تتمثل في أنه بعد ظهور بوادر الأزمة حدث جدل بين الحزبين حتي ظهرت في أكتوبر 2008 فكرة قيام الحكومة بتقديم مساعدة قدرها 700 بليون دولار للبنوك والمؤسسات المالية الكبري. وبالرغم من أن كلا الحزبين وافق على هذا الدعم، إلا أن الحزب الديمقراطي اشترط تخفيض مرتبات مديري البنوك والمؤسسات المالية الكبري وضمان أن هذه المؤسسات سوف تعيد الأموال المقترضة في المستقبل أو سوف تستثمرها فعلا. كانت حجة الديمقراطيين في ذلك أنه ينبغي أن نحمي أموال دافعي الضرائب الأمريكيين. ثم بعد أقل من شهر، بدأ الحزب الديمقراطي في حملة لإنقاذ شركات صناعة السيارات. وبناء على اقتراح أوباما طالب الديمقراطيون بتقديم حوالي 27 بليون دولار دعما للشركات الأمريكية الكبري لصناعة السيارات. عندها اعترض الجمهوريون وقالوا إننا ينبغي أن نحمي أموال دافعي الضرائب ونضمن أن هذه الأموال سوف تذهب للشركات فعلا، وطالبوا كذلك بتخفيض مرتبات المديرين!
إذن فكلا الحزبين يسيران في نفس الطريق تقريبا، لكن لأسباب انتخابية ضيقة يتحججان بمصالح دافعي الضرائب، بينما هم لا يفعلون سوي مكافأة صناع الأزمة من الرأسماليين الكبار على أزمتهم. وإذا كان هناك من فارق، أساسي، بين الحزبين فهو أن كل منهما يتضامن بشكل أكبر مع قطاع معين من قطاعات الرأسمالية الكبيرة: فالحزب الجمهوري أقرب إلى البورصة والحزب الديمقراطي أقرب إلى صناعة السيارات. لكن في صلب مشروعيهما للإنقاذ الاقتصادي تكمن فكرة ضرورة دعم كبرى الشركات ومكافأتها على جرائمها بدفع الأموال لها حتى تحمي نفسها من السقوط، هذا بالرغم من أن هناك مسحة اجتماعية خفيفة يتحلى بها الحزب الديمقراطي.
وأخيرا: الإمبريالية ليس من حقها أن تبيع الأمل للفقراء
صحيح أن التغيير الحقيقي لن يأتي عن طريق الحزب الديمقراطي أو أوباما، لكن علينا أن نفهم الحراك الاجتماعي الواسع الذي حدث لصالح أوباما أثناء حملة الانتخاب. تجدر الإشارة هنا إلى أن مرحلة الانتخابات شهدت سجالات حادة بين بعض المنظمات اليسارية. حيث رأي بعضها أن التغيير الذي يمثله أوباما حقيقي وكبير. فبعض اليساريين من ذوي النزعة الليبرالية انتقدوا اليسار الراديكالي قائلين: عليكم أيها المتطرفون الاعتراف بأن انتصار أوباما هو انتصار ضد العنصرية البيضاء. مثلا كتب أحد المحررين في مجلة الأمة (Nation) اليسارية بتاريخ 23 ديسمبر الماضي أن “أوباما لا يتشابه مع أي رئيس أمريكي سابق. والأهم من ذلك أن الذين قاموا بانتخاب أوباما يختلفون اختلافا كبيرا عن أي قاعدة اجتماعية لرئيس أمريكي سابق. إن العلاقة بين أوباما وناخبيه تمثل أهم علاقة بين رئيس وشعبه في أي لحظة من اللحظات.”
هذا الكلام به الكثير من المبالغة طبعا، خاصة فيما يتعلق بالقاعدة الاجتماعية التي انتخبت أوباما. فقد انتخبه السود، فقراء وغير فقراء، كما انتخبه الكثير من الأمريكيين من أعراق مختلقة، كما انتخبه بيض كثيرون، وكذلك شركات رأسمالية كبري، كما دعمته منظمات شعبية عديدة. إذن فالـ”تحالف” الذي تحمس لأوباما كان عابرا للطبقات ويضم أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء.
القضية المركزية هنا من وجهة نظرنا أنه كانت هناك حالة حنق سياسي اجتماعي حقيقية ضد بوش وما يمثله. وبمقدار ما كانت حالة الحنق تلك عابرة للطبقات، أي أنه حتى قطاعات واسعة من الرأسماليين والطبقات العليا رأت في سياسات هذا الأخير كارثة على مصالحها، فإن هذا غذى حماسها للبديل الذي يمثله أوباما.
على أي الأحوال، فأن ما حدث فعلا هو أن قطاع واسع من الذين التفوا حول أوباما هم قطاعات من المستغلين والمضطهدين في أمريكا. لقد رأوا في هذا الأخير أملا في المستقبل. وأصبح تصورهم عن التغيير هو اقتناص كرسي الرئاسة لمن اعتقدوا أنه سيحقق لهم ما يصبون إليه إن جلس على هذا الكرسي. وهو ما يعني بالنسبة لنا أن الالتفاف حول أوباما، والحركة النشطة لإنجاحه، تعبر عن روح شعبية طامحة للتغيير ومستعدة لعمل شيء ما من أجل تحقيقه. وهذا، طبعا، خبر سعيد، وتطور إيجابي كبير.
لكن التناقض هو أن تلك الروح موظفة في حملة انتخابية رئاسية لمرشح أحد حزبي الرأسمالية الأمريكية. أي أن من وضعت فيه الجماهير ثقتها لكي يغير حالها هو أحد ممثلي الرأسمالية الكبيرة، مهما كان جديدا في شكله أو وثابا في روحه. وهذه، للحق، ليست ظاهرة جديدة. فكثيرا ما نجد أن الجماهير حين تبدأ في نفض غبار الصمت عن نفسها، تتجه صوب بدائل وخيارات وسطية أو غير حقيقية ظنا منها أن هذا هو الطريق إلى التغيير الذي تطالب به.
والآن بعد أن أصبح أوباما رئيسا، فإن ما سيحدث لا محالة أنه سيخذل كثير من الجماهير التي انتخبته، وسيظهر – خاصة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية – أنه يخدم بالأساس مصالح كبار الرأسماليين. في هذه الحالة فإن الاحتمالات هي أن تصاب الجماهير بحالة إحباط واسعة جراء تساقط أحلامها، أو أن تكتشف زيف بديل أوباما وتبدأ في أخذ خطوة أوسع وأكبر: خطوة نحو التغيير الحقيقي الذي لا يمر عبر صناديق الانتخابات أو مؤتمرات الحزب الديمقراطي، وإنما عبر نضالات الشارع التي تخوضها الجماهير ذاتها.