بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

موقنا من المقاومة.. نؤيد مَن يحارب الاستعمار!

كان عمال وطلاب فرنسا المنتفضون، في مايو 1968، ضد سلطة رأس المال وهيمنة الرجعية، قد أطلقوا شعارا لن ينساه التاريخ أبدا: «كن واقعيا وأطلب المستحيل!» فبالرغم مما في هذا الشعار من بعض خيال ومسحة رومانسية، إلا أنه يشير إلى حقيقة تاريخية لن ينجح في طمسها كل من ينعتون أنفسهم بـ»الواقعية» و»العقلانية» في عالمنا هذا، خاصة ذلك الجزء منه المسمى بـ»العالم العربي»؛ هذه الحقيقة هي أنه أحيانا ما يكون الفعل الواقعي الوحيد الجدير بالاحترام هو الثورة على الأمر الواقع ومحاولة تغييره!

«الواقعيون» و«العقلانيون» في عالمنا العربي، وفي مصر على وجه أخص، أصابهم سُعار العداء للمقاومة منذ اندلعت حرب إسرائيل البربرية ضد غزة. فمن وجهة نظر هؤلاء كانت «المقاومة»، التي يرونها بالتعريف معادية لـ«العقل» وغير ملبية لمتطلبات «التنوير»، هي المسئولة الأولى أخلاقيا وعمليا عن الحرب وعن شهداء فلسطين وعن الاحتلال والدمار والحصار. المقاومة في رأيهم ليست مقاومة، بل مؤامرة طائفية إيرانية تريد العودة بنا إلى عصور الظلام، في مسعى لتأسيس إمارة إسلامية طالبانية موالية للقاعدة على الحدود الشرقية الآمنة لمصر!

الحقيقة أن هذه القراءة «العقلانية» للواقع تجافي كل عقل وأي منطق؛ هي محض كذب غبي ولا عقلاني. فالمقاومة وعلى رأسها حركة حماس (التي ربما لا يحب بعضنا لونها الأيديولوجي واختياراتها الفكرية، والتي من الواجب كشف حدودها ونقد عيوبها لتعميق المقاومة وتجذيرها) هي قمة العقلانية وآية التحضر. أفلم تثبت تجربة سنوات مدريد وأوسلو أن حتى الوَسَطي ياسر عرفات لم يستطع، برعاية أمريكية ووساطة مصرية، أن يقنع إسرائيل بتلبية متطلبات الحد الأدنى للتحرر لدى الشعب الفلسطيني؟ أفلم تشهد تجارب الحرم الإبراهيمي وقانا وعناقيد الغضب، ومواقف نيتنياهو وبيريز وباراك، أن النزعة العدائية متأصلة في طبيعة الدولة الصهيونية؟ أفلم يفهم البعض حتى الآن أن السلام الأمريكي هو استسلام للهيمنة الصهيونية المعادية للتحرر والاستقلال العربيين؟

ثم أن الإدعاء برجعية المقاومة الفلسطينية لأنها إسلامية يمثل في حد ذاته قمة السخف والرجعية! فأن تشترط على المقاومة أن تتبنى رؤيتك الفكرية حتى تؤيدها في مقاومتها للاحتلال، لهو موقف يضعك في معسكر أعداء التحرر بلا لبس أو مواربة. أن لا ترى، مثلما ترى إسرائيل بالمناسبة، أن هدف حماس الأول هو محاربة إسرائيل ومناهضة الاحتلال، وأن تدعي، بلا أي سند، أن هدفها «الخفي» هو غزو مصر والتوطّن بسيناء، أو إقامة إمارة إسلامية على الحدود المصرية، لهو أمر ليس فقط مضحك ومخز، بل كذلك يعد إهانة كبرى لشهداء حرب غزة الذين قُتلوا بالضبط لأن إسرائيل الهمجية أبادتهم في مسعى مجنون للقضاء على حماس والقصاص من المقاومة وصواريخها. فلماذا قتلت إسرائيل كل هؤلاء؟ هل مثلا لأن حماس تهدد مصالح الشعب المصري؟! أم لأنها تريد التوطن بسيناء؟!

أما أكثر الأمور التي أثارت حفيظة معسكر الاعتدال في السياسة العربية، من رجال النظام ومن المثقفين «العقلانيين» على حد سواء، فهو النتيجة التي أسفرت عنها الحرب. كان حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، قد تندّر في مؤتمر صحفي أخير له على أنصار إسرائيل في عالمنا العربي، قائلا إن هؤلاء سيصرون على إعلان هزيمة المقاومة في فلسطين حتى لو أعلنت إسرائيل رسميا، مثلما أعلنت بعد حرب لبنان 2006، أنها هي التي هُزمت وأُهينت في الحرب!

الإصرار على هزيمة المقاومة، ورصد المعلومات عن خسائر البشر والحجر في فلسطين بصفتها شواهد تلك الهزيمة، ومجافاة المنطق البسيط الذي يقول أن كل أهداف إسرائيل لم تتحقق في حرب غزة بالرغم من كمّ الدمار والبربرية المرعبين، كل هذا الهراء المعادي للحقيقة يعد مسألة حياة أو موت بالنسبة لمعسكر الاعتدال و»العقلانية» العربي. فلو أقر هؤلاء بانتصار المقاومة، لو أقروا بأن إسرائيل ممكن قهرها بالنضال الشعبي، ولو اعترفوا أن تلك الدولة «المتحضرة الحداثية» انهزمت على يد حركة رجعية «إسلاموية» (كما يسمونها)، لانهار منطقهم العقلاني، ولأصبحت الحداثة الرأسمالية ليست سببا للانتصار أو عنوانا للتحضر!

انتصار المقاومة على إسرائيل خطر وأي خطر على عقلانيي الأمر الواقع وليبراليي التحديث والرأسمالية ويساريي الإمبريالية والصهيونية. فهذا الانتصار يثير خيال كل مقهور داعيا إياه لرفع سلاح المقاومة ضد من يقهره. هذا الانتصار يمثل خميرة ثورة في كل بيت وشارع وحي. فإن كان فقراء غزة المحاصرين والمعزولين قد استطاعوا الاستمرار في إطلاق الصواريخ، حتى بعد أن اضطرت إسرائيل لإيقاف إطلاق النار من طرف واحد؛ إن كانت معنوياتهم قد ارتفعت إلى عنان السماء واحتفلوا شعبيا بالنصر بعد نهاية الحرب؛ وإن كانوا قد انطلقوا في اليوم التالي للحرب في إعادة حفر الأنفاق بكل همة في معركة باعثة على الأمل ساعية إلى مواصلة الحياة والنضال،.. إن كان شعب غزة البطل استطاع فعل كل هذا، وإن كان حزب الله المقاوم قد استطاع من قبل ذلك اجتراح المعجزات ومرمغة سمعة إسرائيل في الوحل، وإن كانت المقاومة العراقية والأفغانية تقض مضاجع الأمريكان يوما وراء يوم، إن كان كل هذا حدث ويحدث، فلم لا نستطيع نحن المظلومون في كل أرجاء الوطن العربي أن نواجه الطغاة والمستغلين من أمثال مبارك وعبد الله وزين العابدين وغيرهم. بل لم لا نستطيع – نحن الشعوب العربية – أن نواجه حكام ما يطلق عليه أنظمة الممانعة، أولئك الذين لاكوا لوهلة العبارات الفخمة ودبجوا الخطابات الضخمة في تأييد المقاومة، ولكنهم سارعوا فور انتهاء الحرب إلى مصالحة إخوانهم من الحكام المعتدلين على مائدة كويتية عامرة؛ أولئك الذين نتوقع «بمشيئة الرحمن» أن ينخرطوا جميعا، بين يوم وآخر، في مسيرة استسلامية جديدة مرّوجة للأوهام وخادمة لإسرائيل برعاية باراك حسين أوباما الذي أقض مضجعه منظر أطفال إسرائيل الجزعين من صواريخ حماس، لكن الذي لم ير فيما يبدو منظر المئات من أطفال فلسطين منثوري الأشلاء على أرض فلسطين المخضبة بالدماء.

إن انتصار المقاومة هو انتصار لخيال الثورة على واقع القهر والاستغلال، هو انتصار للعقلانية الثورية على العقلانية الاستسلامية، وهو بداية لامتداد نهج المقاومة من فلسطين إلى مصر والأردن والسعودية وسوريا وكل بلدان منطقتنا المبتلاة بأنظمة الاستبداد والفساد والاستغلال.