مؤتمر أنابوليس.. محاولة أخرى فاشلة
لم تكن مسرحية أنابوليس، التي جرت في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر نوفمبر الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان “مؤتمر السلام في الشرق الأوسط”، شيئا جديدا أو حدثا غير متوقعا، رغم أنها حملت عناصر جديدة مختلفة وأنها تحدث في سياق سياسي ودولي مختلف عن سابقتها.
القمم المفلسة
غالبا ما كانت الإدارات الأمريكية المختلفة تلجأ إلى هذا الضجيج العالي حول القضية الفلسطينية لعدة عوامل، ربما أهمهما احتدام الصراع ووصوله إلى طريق مسدود بالشكل الذي يهدد مصالح الإمبريالية والصهيونية في المنطقة.
وربما كانت أقرب محاولة قبل أنابوليس هي ما فعله الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في نهاية ولايته الثانية عام 2000 عندما دعا إلى قمة فلسطينية إسرائيلية أمريكية لدفع عملية السلام التي تجمدت خلال النصف الثاني من حقبة التسعينات. كان الشارع الفلسطيني آنذاك يهدد بالانفجار مع تصاعد وتيرة المقاومة، نتيجة الفشل الذريع الذي منيت بها مسيرة الاستسلام التي دشنتها اتفاقات أسلو ومدريد في بداية التسعينات، كما كانت نذر صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل تتجلى بوضوح كل يوم. لم يكن أمام الإمبريالية والصهيونية إذن سوى الدعوة إلى قمة تصور للعالم أنها تهدف إلى دفع مسيرة السلام والإتفاق على الوضع النهائي بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، لكن ما يجري خلالها في الحقيقة شيئا آخر تماما، حيث تُمارس من جديد ضغوطا على القيادات الفلسطينية المتفاوضة لتقديم المزيد من التنازلات في الحقوق، ومن جانبه يؤكد الجانب الفلسطينيى المفاوض على تمسكه بالسلام كخيار استراتيجي، وهكذا.
لكن التوازنات السياسية على الساحة الفلسطينية تغيرت بشدة مع بداية الألفية الثالثة، حيث أصبحت هناك ازدواجية خلقتها تراكمات التسعينات. ففي حين تقود فتح منظمة التحرير الفلسطينية وتفاوض باسم الشعب الفلسطيني، ظهرت قوى أخري احتلت الفراغ الذي خلقه انهيار شعبية فتح وأصبحت تمثل بديلا جديدا كحركة مقاومة ترفض سياسية الانبطاح الفتحوية من أسلو وصاعدا، وتعلن المقاومة خيارا استراتيجيا.
وهكذا انهارت قمة “واى ريفير” عام 2000 بالرعاية الأمريكية. هذا الانهيار كشف من ناحية عن عدم استعداد إسرائيل التنازل قيد أنملة في قضايا جوهرية مثل القدس والمستوطنات واللاجئين والمياه، ومن ناحية أخرى كشف عن بزوغ قوة فلسطينية جديدة تتبنى خيار المقاومة لا المفاوضة لاسترداد الحقوق، الأمر الذي عبر عنه بوضوح اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000 في أعقاب فشل القمة بأيام قليلة.
وبعد سبع سنوات من الانتفاضة وجدت الإمبريالية الأمريكية والصهيونية نفسها في مأزق أكثر عمقا بعد فشل استراتيجيتها في المنطقة. فقد كانت النتيجة انفجار حركات المقاومة بشراسة في كل الجبهات، فلسطين والعراق ولبنان. وخسر حلفاؤها في منظمة التحرير الفلسطينية وفتح يوما بعد الآخر أمام المقاومة بعد استيلاء الأخيرة على قطاع غزة، وانتصار المقاومة اللبنانية في حرب أغسطس الماضي ضد إسرائيل، أما عن العراق فحدث ولا حرج عن المأزق الأمريكي هناك بفعل المقاومة أيضا.
محاولة أخيرة لبوش
في ظل هذه الوضعية لم يتبق لبوش قبل خروجه من البيت الأبيض للأبد بعد شهور قليلة سوى محاولة أخيرة لإنقاذ ماء الوجه في أحد أهم بؤر الصراع في منطقة الشرق الأوسط وهي القضية الفلسطينية. لكن كما كان متوقعا فقد تمخضت الإمبريالية فولدت فأرا، حيث خرج البيان الختامي للمؤتمر ليؤكد على أن جميع الأطراف اتفقوا على استئناف المفاوضات على ضوء خارطة الطريق التي طرحها بوش عام 2003 !!، مع الكثير من الطنطنة من الجانبين حول أهمية السلام ورغبة الطرفين فيه. وبالطبع لم ينس رئيس الوزراء الاسرئيلي أولمرت تكرار الشكوى العبثية من رفض الدولة العربية والإسلامية للتطبيع مع إسرائيل، كما لم يفت أبو مازن تكرار تعهده بالقضاء على الإرهاب –يقصد المقاومة- والتزامه بتعهدات خارطة الطريق في حفظ أمن إسرائيل.
ورغم أن بداية المؤتمر أعلنت بدء المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على قضايا الوضع النهائي من القدس واللاجئين والمياه وغيرها، إلا أن المؤتمر انتهى بفشل من الجانبين في صياغة وثيقة تفاهم بينهما تقدم لمجلس الأمن لتصبح منهج المفاوضة في الفترة القادمة.
لكن هذه النتيجة لا يجب أن تعطي إيحاء بأن أبو مازن والأنظمة العربية عادوا من أنابوليس بخفي حنين كما يقال. فهم لم يذهبوا إلى هناك للضغط على إسرائيل لتحقيق السلام من الأصل، فالأنظمة العربية وأبو مازن يعرفون حدودهم جيدا. لقد ذهب أبومازن والقادة العرب للحصول على مكاسب أخرى والتأكيد عليها، وعاد أبو مازن من أنابوليس بدعم سياسي ومادي لسلطته في الضفة الغربية في مواجهة سلطة حماس في غزة، ووعود بمساعدته على استعادة الضفة لسلطته. أما الأنظمة العربية فقد اتخذت خطوة جديدة علنية للأمام نحو إسرائيل وأمريكا. نقصد هنا بالتحديد موقف المملكة العربية السعودية التي شاركت لأول مرة في تاريخها في لقاء علني يضم إسرائيل وهو ما يعظم احتمالات لقاءات أخري في المستقبل وربما تفاهمات وتطبيع، بالإضافة إلى مشاركة النظام السوري رغم إهمال ملف الجولان. وبالطبع لا يمكن أن ننسى هنا الدور المفهوم تاريخيا للنظامين المصري والأردني.
هذه الأنظمة ذهبت إلى أنابوليس لتؤكد لأمريكا وإسرائيل، في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ المنطقة، أن اختياراتهم مازالت إلى جانب المشروع الأمريكي في استئصال جذور المقاومة. ذهبت السعودية لتقول سوف نقف معكم ضد المقاومة وربما نطبع مع إسرائيل في مقابل حمايتنا من الخطر الإيراني وخطر حزب الله في لبنان. أما موقف النظام السوري فقد بات محرجا في السنوات الأخيرة بعد خروجه من لبنان والضغط على حزب الله ظهيره في لبنان، دون أي تقدم على الجبهة في الجولان. أما النظامين المصري والأردني فهما عرابا السلام مع إسرائيل تاريخيا.
الخلاصة أن مؤتمر أنابوليس لا يعدو كونه محاولة جديدة من أمريكا وإسرائيل لإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة قبل رحيل إدارة بوش بما يناسب التطوات الجديدة التي لم تأت في معظمها على هواهما، من صعود للمقاومة وفشل للمشروع الأمريكي. يريد بوش وأولمرت طمأنة حلفائهما في ظل المأزق الذي تواجهه الإمبريالية والصهيونية حاليا. وتبقى الإجابة على تساؤل إلى أى “مدي قد ينجحوا في ضمان إحكام قبضتهم على الأوضاع لصالحهم؟”، مرهونة بتطورات الصراع على الأرض وإحراز المقاومة مكاسب جديدة في عرقلة هذا المخطط.