مأزق الثورة في سوريا
تم نشر المقال لأول مرة في 3 نوفمبر 2011، بجريدة العامل الاشتراكي الإلكترونية الأمريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة.
تجتاز الثورة اليوم في سوريا شهرها الثامن من دون أن يحرز أي من الأطراف المتصارعة نصراً حاسماً على الآخر، وعلى الرغم مما يسببه القمع الوحشي الذي يمارسه نظام الأسد من ذعر، إلا أن الاحتجاجات الجماهيرية لازالت مستمرة.
لقد سقط أكثر من ثلاثة آلاف شهيد، بينما يطرح المأزق الراهن للثورة السورية السؤال حول قدرة الحركة الجماهيرية على الحفاظ على زخمها ونجاحها في إسقاط النظام دون اللجوء إلى السلاح؟
وفي نفس الوقت نظم الفارون من الجيش السوري الرسمي، ما يطلقون عليه “جيش سوريا الحرة” وذلك لتنفيذ عمليات عسكرية تهدف لحماية المدنيين من قوات الأمن التي تهاجم المظاهرات والأحياء.
لكن إلى الآن، لا توجد روابط وثيقة بين جيش سوريا الحرة والتنظيمات المدنية الأخرى التي وُلدت أثناء الثورة مثل اللجان التنسيقية للثورة أو المجلس القومي السوري، إلخ. وفي حين يدعو الكثير من النشطاء إلى تسليح الثورة كطريق وحيد لإلحاق الهزيمة بديكتاتورية بشار، يتشكك آخرون في هذا الاختيار ويتخوفون من أن اللجوء إلى السلاح سينعكس بشكل سلبي على الثورة التي تواجه قوات عسكرية تتفوق عليها في العتاد والتدريب.
لقد وقعت المعارك الأكثر ضراوة بين جيش بشار الأسد وجيش سوريا الحرة، في مدينة حمص، وهي ثالث أكبر مدينة في سوريا ويقطنها حوالي مليون مواطن، حيث نفذت قوات النظام في هذه المدينة، على مدار الشهور السابقة، الكثير من العمليات العسكرية الكبيرة التي استخدمت فيها الدبابات والبنادق الآلية، في محاولة –لم تنجح- لإخضاع المدينة تحت سيطرة النظام.
إضراب 26 أكتوبر
وفي هذا السياق، واحتجاجاً على القمع والعنف، انطلقت موجة من الإضرابات الضخمة في مدينة درعا، جنوبي سوريا، واستطاعت الانتشار إلى مدن أخرى. وقد أدى نجاح هذه الموجة إلى أن يطلق النشطاء في حمص، وسط سوريا، إلى الإضراب العام، احتجاجاً على الهجمات الوحشية للنظام، كما دعا الثوار لاتباع الشيء نفسه في باقي مدن سوريا.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها النشطاء إلى إضراب عام في كافة أرجاء سوريا، بل أن المرات السابقة قد باءت بالفشل. لكن على الرغم من ذلك، ومع النجاح المبهر الذي حققته الإضرابات في الجنوب ومن ثم انتشار الموجة إلى عدد آخر من المدن، دعت اللجان التنسيقية للثورة السورية، جنباً إلى جنباً مع المجلس القومي السوري، إلى إضراب عام على المستوى القومي في 26 أكتوبر تزامناً مع زيارة وفد من الجامعة العربية لسوريا. وجدير بالذكر أن الجامعة العربية ظلت صامتة على مجازر الأسد لفترة طويلة مما أتاح الفرصة للنظام لسحق الحركة وذبح النشطاء.
ووفق المجلس القومي السوري، يعد إضراب 26 أكتوبر بمثابة “مقدمة لعدد أكثر وأضخم من الإضرابات المشابهة ستقود إلى العصيان المدني الشامل والذي سيصبح قادراً على الإطاحة بالنظام بالإرادة الصلبة للشعب السوري. إن الإضراب العام لهو إشارة إلى أن ثورة الكرامة والحرية تدخل اليوم مرحلة جديدة من النضال تستكمل المقاومة السلمية حتى النصر”.
استمر الإضراب في درعا ثمانية أيام متتالية شهدت خلالهم المدينة بأكملها حالة من الشلل الكامل، وقد انتهى الإضراب فقط حينما اقتحم مئات من الجنود أحياء المدينة وعمدوا إلى تحطيم النوافذ وتهديد الأهالي باستخدام العنف وإجبارهم على إعادة فتح محالهم.
وكما أوضح تقرير أعدته وكالة رويترز، قالت فيه: “أظهر الإضراب الأخير القوة المتنامية لدى القيادات الشبابية الجديدة الذين يقفون خلف الاحتجاجات، والذين يفاجئون المسئولين المحليين في درعا بمهاراتهم التنظيمية الفائقة. يقول سكان المدينة أن شباباً ملثمين ينزلون إلى الشوارع ليلاً يعلقون الملصقات ويرسمون الجرافيتي التحريضية على جدران المدارس والمحال التجارية والمباني العامة للدعوة إلى الإضراب ولتحذير رجال الأعمال من كسر الإضراب. هناك الكثير من التجار الذين يشكون من الإضراب، لكن –على حد قولهم- ليس لديهم خيار سوى الاستجابة لدعوات الإضراب التي يؤيدها الرأي العام”.
ويستمر التقرير: “ويقول النشطاء أن الإضراب قد شجع أهالي درعا لمد المواجهة من الاحتجاجات اليومية إلى الخوض في أشكال مختلفة من العصيان المدني. وكما يقول أبو سلمان، أحد منظمي الإضراب في درعا، أن الإضراب يحمل أكثر من معنى، فقد أعطانا الثقة في إمكان الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، طالما أن الشارع في صفنا وبجانبنا”.
لقد امتد الإضراب العام إلى كافة المناطق التي تنتشر فيها الاحتجاجات والمظاهرات، بالأخص في حمص، حيث مكث أغلب العمال في منازلهم وبقيت أغلب المحال مغلقة. تكرر الأمر بشكل مماثل في دير الزور وحماة ودرعا والمدن المحيطة بها، إلخ.
وكما علق أحد أعضاء المجلس القومي السوري لجريدة الشرق الأوسط، فقد “وجد الثوار أن هذا هو الوقت المناسب للتصعيد من المظاهرات الكبيرة إلى الإضرابات العامة، ضمن الإطار السلمي للثورة، وبالأخص أن الإضرابات لها أثر كبير على الوضع الاقتصادي، وهذه هي النقطة الأضعف للنظام”. ويستطرد نفس التقرير قائلاً أن تاكتيك الإضراب أيضاً لا يُعرّض حياة النشطاء للخطر، وخلال الإضراب تقل أعداد القتلى والجرحى. وبالإضافة إلى ذلك، يمهد الإضراب العام الطريق للانتقال إلى مرحلة العصيان المدني الشامل.
الطبقة العاملة ومفتاح الحل
لقد مرت الثورة في سوريا بفترات طويلة من الصعود والهبوط خلال الشهور السابقة، ففي الكثير من الأوقات يتضائل عدد المشاركين في المظاهرات تحت تأثير القمع وارتفاع عدد الإصابات بينهم، ومن ثم تتصاعد أعداد المتظاهرين مجدداً بعد ذلك بفترة وجيزة. وفي المقابل يراهن النظام على قدرته على كسر إرادة الثوار باستخدام القوة المفرطة، وحينها قد تصل الاحتجاجات إلى طريق مسدود بعد أن يتآكل زخمها بفعل الإحباط.
لا يمكن إنكار أن نظام الأسد يلعب اليوم على الاختلافات الدينية والطائفية بين السوريين في سعيه لشق صف الثورة، ذلك بالإضافة إلى تحريض السوريين العرب ضد الأكراد، وإذكاء المخاوف في أوساط الأقليات العلوية والمسيحية من أن الثورة قد تجلب الأصوليين الإسلاميين السُنة إلى سدة الحكم في البلاد.
لكن من الواضح أن استراتيجية “فرق تسد” والتي ينتهجها نظام الأسد لم تنجح إلى اليوم في تحطيم الثورة. وكما يصف الكاتب السوري المعارض، ياسين الحاج صالح، فإن “الثورة اليوم في سوريا تضع رهانها على حركة الشارع. وصحيح أن الثورة قد غيرت سوريا بشكل لم يسبق له مثيل، إلا أن حركة الثورة لا تسير في خط مستقيم بدون تحولات، بل موجات من الهبوط والصعود”.
واستكمل الحاج صالح قائلاً “وبينما تظل المظاهرات الحاشدة واحتلال الميادين الكبرى أشكالاً أساسية للاحتجاج في الثورة السورية، علينا أيضاً أن نضيف أشكالاً أخرى تمكننا في وقت معين من الوصول إلى مرحلة الإضراب العام في كل سوريا. وقد يتطلب الأمر خوض عدد من التجارب النضالية على مستوى محلي، تلك التجارب بقدر ما تصبح قليلة الضحايا من حيث عدد الشهداء والمصابين، بقدر ما ستدفع بعض الكتل الصامتة من الجماهير للمشاركة في الثورة”.
أما بشأن الدوافع الاقتصادية للإضراب العام في سوريا، فهي حاضرة منذ سنين عديدة. فنظام الأسد، بما يشمل رجال الأعمال المقربين، يطبق السوق الحر وسياسات الليبرالية الجديدة لفتح الاقتصاد السوري على السوق العالمي، وهذا هو السبب في الانخفاض الحاد في مستوى معيشة العمال في سوريا. وهذا على العكس تماماً من الإحصاءات الرسمية التي تشير إلى نسبة نمو اقتصادي تُقدر في المتوسط بـ 5% خلال الخمس سنوات السابقة.
لكن وبينما تم خصخصة الاقتصاد، وبينما يعرف الجميع في سوريا القدر الهائل من الفساد والمحسوبية والثروات الطائلة لرجال الأعمال المقربين من النظام، لا تتحرك النقابات العمالية الرسمية للنضال في مواجهة الاستغلال الواقع على العمال. وكما جاء في مقالة منشورة حديثاً في النشرة الأسبوعية للحزب الشيوعي السوري، فإن النقابات العمالية:
“تكتفي فقط بنقد السياسات الاقتصادية للدولة، فهي تعد دراسات مفصلة حول التوجهات الاقتصادية الراهنة والأضرار الهائلة التي تتسبب فيها، إلا أنها لم تلجأ يوماً للإضرابات العمالية أو أي أشكال احتجاجية أخرى. إنهم يطبقون ما يمكن أن نطلق عليه “مبدأ النقابية السياسية” والتي تتجنب نضال الطبقة العاملة ومقاومتها الإيجابية ضد مستغليها. وهذه السياسية لا تؤدي سوى إلى توطيد سلطة الملاك والرأسماليين الذين يضعون العقبات لمنع الطبقة العاملة من ممارسة وسائلها المشروعة في النضال”.
وفي الحقيقة، فإن الحزب الشيوعي السوري، ذا الصلة الوثيقة بحزب البعث الحاكم، قد يعارض –شفهياً فقط- تلك العقبات في طريق نضال الطبقة العاملة في سوريا، لكنه لا يخطو ولو خطوة واحدة لتحديها عملياً.
إن الثورة المصرية تقدم لنا مثالاً واضحاً لما يمكن أن تتطور فيه الأمور إلى الأمام في سوريا. فكما أشار الاشتراكي الثوري المصري، سامح نجيب، فإن سنوات من نضالات الطبقة العاملة في مصر قد مهدت الطريق للحظة تسدد فيها موجة من الإضرابات الضخمة الضربة الحاسمة لنظام مبارك في فبراير الماضي.
وبالنظر إلى الطبقة العاملة السورية، فهي لا تملك التراث الطويل ولا الخبرة النضالية المتراكمة عبر سنين عديدة مثل تلك التي لدى المصرية، لكن وعلى الرغم من ذلك، فقد أثبتت الشهور القليلة الماضية أن العمال السوريين قادرين على التحدي والنضال ضد أبشع أشكال القمع من أجل الحرية والكرامة.
إن الإضرابات العمالية الراهنة في سوريا، سواء كانت محلية أو عامة على المستوى القومي، ترسم لنا الطريق الذي يمكن أن تسلكه الثورة للخروج من المأزق الراهن والتقدم للأمام. إلا أن السؤال المطروح الآن هو كيف يمكن أن تصير تلك الإضرابات أسلحة فعالة ضد القمع والعنف الذي يستخدمه النظام السوري. وفي نفس الوقت، علينا ألا ننسى أن هذه الإضرابات العمالية قد تمهد الطريق أيضاً وبشكل ناجح لبناء نقابات مستقلة وتنظيمات قاعدية للطبقة العاملة تدفع الحركة الثورية للأمام بتوحيد نضال قطاعات واسعة من الطبقة العاملة عبر التقسيمات الطائفية والعرقية المختلفة.. إن مستقبل الثورة السورية معلق على هذا المسار.