قرصنة الفقراء ونهب الأغنياء
“الحرب القادمة ضد القراصنة” هكذا تنبئنا حجم الحشود العسكرية البحرية التي أرسلتها 12 دولة إلى خليج عدن، منها قوات تعمل تحت قيادة حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، اللصوص الكبار يتحركون لحماية تجارتهم وبضاعتهم من النهب، على يد اللصوص الصغار، ورغم محاولات هذه الدول تصوير القراصنة الصوماليون على أنهم مجرد مارقون نبتوا من الأرض بشكل شيطاني، إلا أن تاريخ الصراع في الصومال، والذي لعبت فيه هذه الدول دورا أساسيا في إشعاله للحفاظ على النفوذ في هذا البلد المفصلي بالقرن الأفريقي، ودور هذه الدول بعد ذلك في نهب ثروات وخيرات البلاد، وإلقاء الأغلبية العظمي من عدد السكان -9 ملايين نسمة- إلى هوة الفقر المدقع، هذا الصراع يطرح سؤال، من هم القراصنة الحقيقيين؟
بدأت ظاهرة القرصنة منذ انهيار الدولة الصومالية عام ،1991 بعد سقوط نظام سياد بري، وتقسيم عصابات أمراء الحرب ومليشياتهم الصومال إلى مناطق نفوذ بينهم، لكنهم في الوقت ذاته لم يستطيعوا ملء الفراغ، الذي نتج عن انهيار الدولة، وساعد على ذلك اندلاع حرب أهلية مدمرة أتت على الأخضر واليابس، الأمر الذي دفع بملايين الصوماليين إلى هوة الفقر المدقع.
هذا الصراع وفر فرصة سانحة لسفن الصيد الأجنبية لغزو شواطئ الصومال ونهب ثرواتها الوفيرة، أكثر مما يزيد قيمته عن 300 مليون دولار من سمك التونة والروبيان واللوبستر وغيرها، تسرق سنويا بسفن صيدٍ عملاقة تبحر بطريقة غير مشروعةٍ في مياه الصومال غير المحمية، كما شوهدت سفن أوروبية على شواطئ الصومال، تتخلص من براميل ضخمة في المحيط، ثم بدأ سكان السواحلِ يمرضون، في البداية عانَوا طفَحاً غريباً، وتقيؤ ومواليد مشوهين، حتى قذف البحر إلى الساحل مئات البراميلِ، التي اكتشفوا أنها كانت محملة بنفايات مشعة ومواد سامة!.
كان الصيادون المحليون يشكون من أن شباكهم الصغيرة وغيرها من معدات صيد تتعرض للتدمير من قبل السفن الأجنبية العملاقة، مما أثار المواجهة المباشرة بين هذه السفن والصيادين على الساحل الصومالي، وطالب الصيادون مرارا وتكرارا بوضع حد لممارسات هذه السفن وحمايتهم منها، لكن أي من الدول التي هبت الآن بجيوشها وعتادها، لم تعر انتباها لنداءات الصيادين الفقراء.
اضطر الصيادون لتشكيل فرق للدفاع عن شواطئهم وأرزاقهم ضد هذه السفن باستخدام زوارق سريعة وبنادق مما يدافعون بها عن أنفسهم في فوضى الحرب الأهلية، مما دفع السفن العملاقة وشركاتها إلى تغيير أساليبها في مواجهة هذا التحدي، فسعت إلى استصدار تراخيص تمنحهم حق الصيد على طول الساحل -3300 كم- من أمراء الحرب الذين سهلوا المهمة في مقابل ملايين الدولارات، وهكذا كانت هذه السفن تخوض البحر تحت حماية مليشيات تابعة لأمراء الحرب، لكن إذا حدث واقتربت السفن الكبيرة من الشواطئ بحيث تحرم قوارب الصيادين المحليين من رزقهم اليومي فإنهم يضطرون عندئذ لمقاومتهم، وكانت هذه السفن تواجه الصيادين بعنف شديد بالأسلحة النارية الثقيلة وبخراطيم ضغط المياه لقلب قواربهم الصغيرة.
ورغم مقاومة الصيادين إلا أن فقرهم وتخلف معداتهم وأدوات ومقاومتهم، بالإضافة إلى تعاون أمراء الحرب مع السفن العالمية، هددهم بالموت جوعا، فتحولوا إلى ملاحقة السفن التجارية بدل سفن الصيد، وأصبح الهدف بعد ذلك سهلا باستخدام زوارق سريعة مسلحة، وبعد الاستيلاء على السفينة التجارية وطاقمها يطلبون الفدية مقابل إطلاق سراحهم، وقد انضمت إليهم لاحقا عناصر من مليشيات المسلحة بعد أن رأوا في هذه الطريقة وسيلة أسرع للكسب من العمل لدى أمراء الحرب، وهنا بدأت القرصنة تنحرف عن مسارها لتتعرض للسفن التي تقوم بإيصال المساعدات الغذائية من برنامج الأغذية العالمي للصوماليين أنفسهم.
هكذا، لم تكن قرصنة الصوماليين في جوهرها سوى رد فعل على عمليات قرصنة أكبر، وأقذر قامت بها شركات الصيد العالمية الكبرى، لنهب ثروات وخيرات شعب شارف على الموت جوعا، واليوم تعلن أقوى الجيوش، بأحدث الأسلحة، الحرب على قراصنة الصومال، لحماية أرباح هذه الشركات، لكن حياة آلاف البشر، يموتون جوعا ومرضا، ليست في حسبان هذه حكومات هذه الجيوش.