بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

عربي ودولي

فنزويلا.. بديل يختمر

اقتصاد خارج المألوف

السوق عن تكرارها هي أنه لا بديل للنموذج الذي يدافعون عنه. أحيانا يذهبون بذلك لحد وقف ذلك على روشتة الليبرالية الجديدة وأحيانا أخرى قليلة، وبخجل، يوسعون ذلك لبعض صور تدخل الدولة في الاقتصاد واحدة من الأفكار الرئيسية التي لا يكف أتباع اقتصاد وبعض مظاهر ما كان يعرف بدولة الرفاه. من هنا تأتي أهمية فنزويلا. فلأول مرة يصبح هناك نموذج على الأرض يطبق، بقدر لا بأس به من النجاح، وصفة أخرى تختلف في العديد من الأسس مع الوصفة التي يراد تعميمها على البشرية كبديل وحيد لا مناص منه.

لا للبنك والصندوق

أول ما يؤشر لهذه القطيعة بين ما يحدث في فنزويلا وبين الوصفة الاقتصادية المعممة لأتباع إجماع واشنطن هو موقف فنزويلا من المؤسسات الدولية من نوعية البنك والصندوق الدوليين، قبلة كل الليبراليين الجدد خاصة في العالم الثالث، بمن فيهم حكومة نظيف ومن سبقوها. تجربة فنزويلا مع هذه المؤسسات مريرة، مثلها في ذلك مثل باقي دول أمريكا اللاتينية التي صال فيها الصندوق والبنك وجالا فاتحين الأسواق ومحررين الاقتصاد إلى آخر ما تسمح به أكثر النسخ تطرفا من كتب الاقتصاد الحر المقدسة.

وعلى العكس مما يقوله الاقتصاديون من أنصار السوق حين يحصرون النجاح النسبي لفنزويلا اقتصاديا في النفط (فنزويلا هي الدولة الوحيدة في العالم حاليا التي تسير على مخطط التنمية الذي وضعته الأمم المتحدة للألفية الثانية باعتراف المنظمة الدولية على الرغم من الشكوى الفنزويلية من أن تقديرات صندوق النقد للنمو الاقتصادي في البلاد أقل مما هي عليه بالفعل ).

ففنزويلا كانت دائما دولة غنية بفضل النفط إلا أن ذلك لم يعن نجاحا متواصلا، بل على العكس. ومع هبوط أسعار النفط خلال التسعينيات (أخذ الأغنياء نصيب الأسد من حصيلة ارتفاع أسعاره في السبعينيات والثمانينات)، تعاقبت الحكومات التي وقعت اتفاقيات مع الصندوق والبنك كانت حصيلتها مريرة. هبطت الأجور الحقيقية للنصف، وهاجر الفقراء العاطلون للقطاع غير الرسمي كباعة جائلين من النوع الذي نجده على أرصفة وسط البلد وغيرها في القاهرة. من هنا فالتقليل من شأن ما يتم انجازه حاليا في فنزويلا على أساس أن شافيز يستغل ثروة النفط هو محض نفاق. فالنفط كان موجودا دائما لكنه كان في يد أقلية تتحكم فيه عبر الشركة التي تتحكم فيه.

هكذا فإن قرار انسحاب فنزويلا من البنك الدولي، في مطلع الشهر الحالي، لم يكن قرارا عصبيا يندرج تحت حرب الأعصاب التي يركز عليها الإعلام بين بوش وتشافيز وإنما هو تعبير عن تجربة أعمق تخالف في جذور أساسية ما يدعو له البنك والمؤسسات التي على شاكلته. وهي مخالفة تتأكد بطرد رافاييل كوريا الرئيس الإكوادوري لممثل البنك من البلاد.

سقوط قدسية الملكية الخاصة

في العالم أجمع، تطبق الحكومات سياسات الانسحاب من الاقتصاد ومن الساحة الاجتماعية وذلك عبر الترويج للقطاع الخاص. درة التاج في هذا التوجه هي الخصخصة وحرية السوق وتدعيم الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. كسرت فنزويلا هذا النموذج أيضا لتعيد شيئا كان العالم قد نسيه أو اعتبره تاريخا من يجرؤ على ذكره يصبح مثارا للسخرية: التأميم والتخطيط المركزي. تمثلت هذه السياسة في خطوات مدروسة وممنهجة لإعادة شراء بعض البنوك والشركات التي بيعت للشركات الأجنبية (وللمفارقة هنا بأسعار تقل عما تم بيعها به، أي أن الدولة خرجت رابحة). وهنا يمكن الإشارة لشركة النفط الوطنية التي صمم تشافيز على إعادتها لحظيرة الدولة مدعوما بالحركة الجماهيرية، ليعيد بذلك توجيه العوائد النفطية لصحة وتعليم وغذاء الفقراء.

لكن التأميم لا يجب أن يخدعنا. ولا يجب أن نقع في الخطأ القديم بتعريف الدولة كوسيلة للتغيير الاجتماعي لصالح الجماهير. فدولة الحكم البرجوازي لا يمكن أن تقوم بذلك بحكم تركيبتها وهيكلها والمصالح التي تمثلها في النهاية. هنا لا يمكن فهم التحول نحو التأميم وتقليص أهمية القطاع الخاص إلا في إطار الضغط من أسفل، الضغط الذي تمثله بامتياز حركة الاستيلاء على المصانع في فنزويلا، وهي التحدي الأعمق والأكثر جذرية للملكية الخاصة.

وقد لا تكون تجربة الاستيلاء على المصانع في فنزويلا بحجم وعمق التجربة في الأرجنتين لكنها ذات أهمية بالغة في البديل الاقتصادي الذي يبنيه العمال هناك. كما حدث في الأرجنتين، لكن على نطاق أعمق، نقطة الانطلاق كانت كسادا نتج عنه إغلاق العديد من المصانع. ثم يتقدم العمال لإعادة تشغيل المصنع وإدارته. لكن حجم بعض هذه المصانع التي يديرها العمال كبير بما يكفي لكي يشكل ظاهرة هامة، على الأقل في خمس حالات يعمل بها آلاف العمال. وتساعد الدولة العمال بتقديم القروض والاعتمادات، لكنها قصرت تحول الملكية للعمال على خمسين في المائة فقط من هذه المصانع مما يخلق تناقضا تواجهه إدارة العمال بطريقتها على الأرض. وبرغم من أن التجربة مازالت تواجه الكثير من التحديات، إلا أن الدلالة واضحة: قدسية الملكية الخاصة تلقت ضربة في الصميم، والعمال قادرون، على الأرض، على إدارة شئونهم بأنفسهم.

ثورة التعاونيات

جزء لا بأس به من المصانع المستعادة من قبل العمال تتحول إلى تعاونيات. لكن التعاونيات في فنزويلا ظاهرة تتسع لما هو أكثر من ذلك بكثير، متحدية هي الأخرى نمط الملكية السائد في العالم. وعندما تولى شافيز الحكم في 1998 كان هناك 762 تعاونية مسجلة رسميا في البلاد تضم عشرين ألف عامل. في 2003، أصبح هناك 3000 تعاونية، وبمنتصف العام الماضي نما الرقم إلى 108 ألف تعاونية تضم مليون ونصف شخص. وتعمل التعاونيات في جميع القطاعات تقريبا. واحد وثلاثون في المائة منها في التجارة والمطاعم والفنادق، وتسعة وعشرون في المائة في النقل والتخزين والاتصالات، وثمانية عشر في المائة في الزراعة، بينما تتراجع نسبة الصناعة إلى ثمانية وثلاثة من عشرة في المائة. لكن العمال صاروا يعملون ويديرون على أسس المشاركة التعاونية في جميع الأنشطة الاقتصادية تقريبا من إدارة الطرق السريعة للحديد والصلب والنسيج إلى المصائد السمكية والمزارع، وبنجاح غير قليل. وتتوقع المصادر الحكومية أن تنمو نسبة من يوظفهم قطاع التعاونيات من قوة العمل إلى ثلاثين في المائة في خلال السنوات القليلة القادمة.

وتحت الضغط الجماهيري لإنشاء التعاونيات ودعمها كمؤسسات تشاركية يديرها المنتجون، صارت الدولة تدعمها بطرق مختلفة أبرزها إعفاؤها من الضرائب. وبالطبع اعترض رجال الأعمال الذين رأوا في الظاهرة تشويها للمنافسة الاقتصادية محذرين من أن هذا الدعم سيؤدي لانهيار اقتصادي كامل. ونسي هؤلاء أن واحدة من أبرز سياسات البنك والصندوق، كما رأيناها في مصر، هي فتح الأبواب وإعطاء التسهيلات الجمركية والضريبية للمستثمرين محليين وأجانب لتشجيعهم على ضخ استثماراتهم. بالطبع لم يعتبر أي من أباطرة الدفاع عن السوق الحرة هذا أبدا تشويها للسوق أو إهدارا للمنافسة الحرة الشريفة.

صدع في أساطيرهم وإلهام لنا

البديل الاقتصادي الذي تقدمه فنزويلا ليس بديلا كاملا ولا بلا عيوب. والعملية التي فرضته مازالت تواجه تناقضات عدة (الفساد في تمويل التعاونيات مثلا، والمقاومة من الشركات الكبرى، وتردد الدولة في إطلاق اليد للملكية الكاملة للعمال..إلخ). والإصلاحات التي تدافع عنها وتنفذها حكومة تشافيز مازالت إصلاحات، ترسم حدودها توازنات القوى بين البرجوازية وبين القوى الجماهيرية من أسفل. لكن ما يشكله النموذج الفنزويلي، المدفوع بحركة اجتماعية وجماهيرية واسعة ضاقت ذرعا بنظام يأخذ منها ولا يعطيها، حقا هو صدع في أسطورة الرأسمالية الليبرالية الجديدة كالنظام الوحيد المتاح أمامنا، صدع يمكن أن يكون ملهما لعمال وفقراء مصر في مواجهة نظام استغلالهم وقمعهم الذي يسير على خطى أمريكا اللاتينية.