بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

رغم فوز اليسار في الانتخابات.. إيطاليا ما زالت أمام خيارين

رغم تخلص الإيطاليين من بيرلسكوني، فإن حكومة بديل اليسار المهادن الفائزة في الانتخابات الأخيرة لا تستند إلى أغلبية قوية. إبراهيم الصحاري يرى في نتائج انتخابات إيطاليا مقدمة لصراع جديد مفتوح على كل الاحتمالات بين تصاعد موجة ثورية جديدة وسط صفوف الطبقة العاملة وبين تنامي النزعات الفاشية.

علي الأغلب، كانت هذه الانتخابات بمثابة استفتاءاً على السنوات الخمس التي قضاها بيرلسكوني في رئاسة الوزراء وعلى سياسات اليمين عموماً كما يشير تكوين تحالف بيرلوسكوني الانتخابي. فقد ضم تحالف بيرلسكوني اليميني، بالإضافة إلي حزبه “إلي الأمام إيطاليا”، “التحالف الوطني الفاشي الجديد”، “الاتحاد الشمالي ضدّ المهاجرين” والمجموعات الموالية للفاتيكان. وبالتالي كان هناك إقبال من الناخبين على الإدلاء بأصواتهم هو الأعلى تاريخياً (84 بالمائة من الناخبين ذهبوا إلي صناديق الاقتراع). فقد وصل بيرلوسكوني إلى السلطة عبر وعوده بتحسين الاقتصاد الضعيف، بينما نجد اليوم أن الدين الوطني للبلاد يفوق الناتج المحلي الإجمالي. وقد واجهت سياسات بيرلسكوني تمرداً ومقاومة واسعة من قبل الطبقة العاملة بعد محاولات الضغط المستمرة على مستويات معيشتها. كما خرق بيرلسكوني هو وإدارته القانون علناً في فضيحة تلو فضيحة منذ وصوله إلي السلطة، شمل ذلك: اتهامات بالاختلاس، والاحتيال الضريبي، ومحاولة رشوة القضاة وتعاملات مع المافيا. أيضاً ظل بيرلسكوني واحداً من الحفنة التي واصلت دعمها للاحتلال الأمريكي للعراق. وتبعت إدارته أيضاً إدارة بوش بعد 11 سبتمبر في سن تشريعات قانونية قاسية ضد المهاجرين من المسلمين والعرب.

تمت الانتخابات الأخيرة بطريقة “التمثيل النسبي” الذي كانت اتبعته إيطاليا قبل سنوات عدة ثم كفت عن الأخذ به. والجدير بالذكر أن بيرلسكوني نفسه هو الذي كان وراء تمرير هذا القانون الجديد لضرب المعارضة، فهو يتيح للفائز بأغلبية ضئيلة في مجلس النواب أن يشكل الحكومة لكن انقلب السحر علي الساحر. فوفقاً لهذا القانون مع فارق 25 ألف صوت تقريباً عن اليمين، حصل الائتلاف اليساري على 340 من أصل 630 مقعداً في مجلس النواب، وهي أكثرية مريحة. كما أن فوز برودي وحلفاءه بأغلبية مقعدين في مجلس الشيوخ، عززت حظوظه بترؤس الحكومة. على أية حال، أغلب استطلاعات الرأي قبل الانتخابات كانت تشير إلي هزيمة بيرلسكوني ولكن هزيمته بفارق ضئيل للغاية ترجع بالأساس إلي أن تحالف برودي (الذي تكون من الديمقراطيين المسيحيين، والحزب الشيوعي الإيطالي، وحزب إعادة التأسيس الشيوعي، والخضر) رفض الإعلان عن موقف واضح من القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تؤرق الجماهير العمالية والعاطلين والشباب والمتقاعدين وقضية احتلال العراق. لقد أخفق تحالف اليمين في عرض برنامج واضح لإخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية، كذلك لم يكن لدي تحالف اليسار رؤية مميزة خاصة به حول قضية مواجهة سياسات الليبرالية الجديدة من خصخصة وتحرير للسوق.

برودي رجل الطبقة الحاكمة

زعماء اليسار في إيطاليا يقدمون برودي كمنقذ للطبقة العاملة متناسين من هو برودي. فهذا الرجل ليس بالتأكيد رجلاً لليسار، فجذوره تعود إلى الديمقراطية المسيحية الفاسدة، ولديه تاريخ حافل من العمل كمستشار لدى الحكومات حول كيفية خصخصة الأصول العامة. وكان أيضاً رئيساً للوزراء في 1996. وخلال فترة حكمه الأولى تعلقت الطبقة العاملة بأوهام أكبر حول إمكانية أن يتصدى لبرنامج الخصخصة والهجوم على الأجور والرفاهية. ولكن في المقابل نفذت حكومة يسار الوسط الائتلافية في تلك الفترة برنامجاً للخصخصة أكبر من أية حكومة سابقة أخرى. ويجب أن نتذكر أيضاً أن برودي كان رئيساً لمفوضية الإتحاد الأوربي حتى عام 2004، في الوقت الذي شُنت فيه حملة ضارية علي دولة الرفاهة في كل البلدان الأوروبية.

إن تحالف يسار الوسط يتحدث عن الديمقراطية والأزمة الاقتصادية الإيطالية بشعارات عامة لا تخيف أحداً من الرأسماليين الكبار. في الوقت نفسه لم تكن هناك إشارة حقيقية لمعارضة الاحتلال الأمريكي للعراق من قبل برودي. فمازال لدى إيطاليا حوالي 3000 جندي متمركزين في الناصرية لحماية مصالح شركة الطاقة العملاقة الإيطالية “إنيل” في سرقة النفط العراقي، الذي يباع للإيطاليين بأسعار باهظة. لذلك عندما تحدث برودي عن سحب القوات ربط هذا بالتنسيق مع واشنطن. وحتى الآن تصريحات البيت الأبيض لم تخول لإيطاليا سحب جنودها من العراق.

دعم برجوازي لتحالف اليسار!

وأثناء حملته الانتخابية، لم يعتمد برودي فقط على دعم إتحادات العمال وكامل اليسار الرسمي ـ يتضمن كل المنظمات المنشقة عن الحزب الشيوعي الإيطالي القديم ـ لكنه حصل على الدعم أيضاً من الأقسام الواسعة من الشركات الكبرى الإيطالية والأوروبية التي ضاقت ذرعاً ببيرلسكوني. فمن العوامل المهمة أيضاً وراء خسارة بيرلوسكوني أن بعض الشركات الرأسمالية الكبرى أرادته أن يخسر. وقبل شهر من موعد إجراء الانتخابات أعلنت جميع الصحف الرئيسية للطبقة الحاكمة بأنها ستطلب من قرائها التصويت لصالح إتحاد اليسار. هذا لأن الاقتصاد الإيطالي ظل في كساد، معظم السنوات الخمس الأخيرة لحكومة بيرلسكوني.

فبيرلسكوني أثرى أثرياء إيطاليا والشخصية الإعلامية الكبيرة ـ الذي يستحوذ على أكثر من 90 بالمائة من القنوات التلفزيونية الإيطالية الخاصة ـ استطاع أن يضاعف ثروته الشخصية أثناء توليه الحكومة إلى 12 مليار يورو، في الوقت الذي تباطأ فيه النمو الاقتصادي للبلاد مما أدى إلى أن يفقد الكثير من التأييد الذي كان يتمتع به من جانب الطبقة الحاكمة. فمعدل نمو الاقتصاد لا يتجاوز 0.35 بالمائة سنوياً، بالمقارنة مع الـ1.45 بالمائة لبقية أوروبا. وازداد العجز في ميزانية البلاد بشكل مثير. كما أخفق بيرلسكوني في تمرير قانون إلغاء قيود تنظيم سوق العمالة الذي وعد الرأسماليين به أيضاً ـ خاصة بسبب مقاومة الطبقة العاملة الشاعرة بالمرارة. فقد نظمت النقابات العمالية خلال فترة حكمه 6 اضرابات عامة. شارك في الإضراب العام الأخير في نهاية ديسمبر الماضي حوالي 13 مليون عامل (ما بين 80 و90 % من الطبقة العاملة). إن حكومة بيرلسكوني كانت قادرة علي البقاء على قيد الحياة فقط لأن إتحادات العمال البيروقراطية اختصرت فترة الإضراب ليوم واحد (4 ساعات فقط!). فقد كان تحديد فترة الإضراب بأربع ساعات فقط يشبه إعطاء العمال سكيناً ثلماً لمواجهة العدو الطبقي من ناحية، وهو يسمح لأصحاب العمل بتسليط الضغط على العمال لتعويض الإنتاج المفقود في الساعات الباقية الأربع من يوم العمل من ناحية أخرى.

وهكذا تنظر طبقة الرأسماليين في إيطاليا إلى برودي على أنه قد يكون قادراً علي تحقيق مصالحهم بتصميم أكبر. فحكومته ستتبنى سياسات الليبرالية الجديدة وإصلاحات السوق الحرة التي وعد اليمين بتطبيقها لكنه أخفق. لكنه، على خلاف بيرلسكوني، يريد نيل أهدافه من خلال التعاون مع إتحادات العمال، بدلا من مواجهتها. من خلال وجهة النظر هذه، فإن إدراج برودي حزب إعادة التأسيس الشيوعي في تحالفه الانتخابي وحكومته ذو أهمية كبيرة. فهذا الحزب، لديه ارتباطات وثيقة مع إتحادات العمال، والمهمة التي تحتاجها حكومة برودي منه هي الحصول على دعم العمال والشباب الأكثر جذرية للبرنامج البرجوازي اليميني لها!

فقد أعلن برودي أنه لن يلغي أي من القوانين التي فرضت من أجل مرونة سوق العمالة، وأنه لا توجد لديه أية نية لإعادة النظر في برنامج الخصخصة الذي نفذ حتى الآن. ولم يقدم رؤية ملموسة حول تحسين الخدمات الاجتماعية التي دمرت خلال الخمس سنوات الماضية من قبل حكومة بيرلسكوني. برودي كان واضحاً أثناء حملته الانتخابية، فأولويته الأولى هي إخراج إيطاليا من الأزمة الاقتصادية عبر تخفيض كلفة العمل، وهو هنا يتبع نصيحة مجلة الايكونوميست البريطانية التي ذكرت بأن الأجور في إيطاليا يجب أن تُخفض بنسبة 30 بالمائة! لو حدث هذا فسيكون عبئاً مدمراً بالنسبة للعمال الإيطاليين، فأجورهم اليوم في مستوى متدني في الإتحاد الأوربي بعد البرتغال واليونان (باستثناء الأعضاء الجدد من أوروبا الشرقية سابقاً!).

تؤكد نتائج الانتخابات الأخيرة بأن تحالف برودي “الاتحاد” ليس بديلاً حقيقياً للأخطار التي جسدها بيرلسكوني وحلفاؤه الفاشيون. فبرنامج حكومة برودي مناصر للرأسمالية، وسيعمل فقط علي تعميق الأزمة الاجتماعية وانحطاط البلاد. وسيكون هذا بالضبط الفرصة لبيرلسكوني وحلفائه الفاشيين لاستغلال ديماجوجيتهم اليمينية.

اليسار المهادن

ستظل إحدى ساحات الحرب الرئيسية بالنسبة لليسار هي معركة مواجهة سياسات الليبرالية الجديدة خاصة معركة انتشار العقود المؤقتة، التي تشمل أكثر من 4.5 مليون عامل اليوم. رغم ذلك تم التراجع عن مطلب توفير الأمان الوظيفي ـ وهو المطلب الذي خلق لليسار جذور وسط الجماهير العمالية ـ بهدوء الشهر الماضي في مؤتمر نقابة إتحاد العمال الأكبر، “سي جي آي إل”. إن أهمية هذه النقابة “سي جي آي إل” هي أنها مرتبطة بشكل وثيق بالحزب اليساري الأكبر “حزب اليسار الديمقراطي” “دي إس” ـ الذي يشبه إلى حد كبير حزب العمال البريطاني. والمثال التالي يوضح دور “دي إس” وسط الطبقة العاملة: عشية المظاهرات العالمية ضد احتلال العراق في 18 مارس الماضي ادعى “دي إس” بأن المظاهرة ستكون عنيفة وسحب دعمه لها فجأة. بعد ذلك طلبت نقابة “سي جي آي إل” من فروعها المحلية إلغاء العشرات من الحافلات التي كانت ستوجه إلي العاصمة محملة بعشرات الآلاف من العمال.

من الصعب جدا توقع ما الذي سيفعله برودي بالضبط إلا أن المثال السابق يعطينا فكرة عن توجهات هذا النوع من اليسار المهادن. ومن الحتمي أن حكومته ستكون غير مستقرة وهشة. وقد يؤدي هذا إلى ضغط أكثر في اتجاه تحالف واسع بين اليسار واليمين، علي غرار ما حدث في ألمانيا. وقد اقترح بيرلسكوني هذا بالفعل بعد هزيمته في الانتخابات في محاولة للتمسك بالسلطة، لكن برودي رفض الفكرة. رغم ذلك عندما يندفع برودي في اتجاه سياسات جديدة معادية للطبقة العاملة، وتؤدي إلي خلق معارضة صاخبة من اليسار، ربما تكون فكرة الحكومة الائتلافية جذابة بقوة بالنسبة لبرودي ولليسار الديمقراطي المهادن.

الاختبار الصعب ومحدودية المناورة

كل هذا يضع الكثير من المسئولية على الأطراف الأخرى من اليسار، التي كانت نتائجها جيدة في الانتخابات الأخيرة: حزب إعادة التأسيس الشيوعي، والخضر، وحزب الشيوعيين الإيطاليين. فقد حصلت الأطراف الثلاثة على مزيد من الأصوات بالمقارنة بالانتخابات السابقة. وفازوا معا بـ 10 بالمائة من إجمالي الأصوات.

أحرزت كل من هذه الأطراف الثلاثة نسبة تصويتية هي الأعلى في “وادي سوزا” في جبال الألب الجنوبية، حيث اندلعت في الخريف الماضي حركة بيئية جماهيرية جذرية استطاعت أن تهزم محاولة لبناء خط سكة حديد لقطار عالي السرعة. وهو المشروع الذي كان يتضمن حفر نفق ـ يربط بين فرنسا وإيطاليا ـ في التضاريس الجبلية المليئة بالأسبستوس واليورانيوم، ملوثاً المنطقة بالكامل. ففي 16 من نوفمبر الماضي، تحرك أكثر من 80,000 شخص ـ هم معظم السكان ـ إلي الشوارع في هذا الوادي الصغير، وواجهوا القمع الوحشي للشرطة واستطاعوا إيقاف بناء النفق وكانت الأطراف اليسارية الثلاثة هي الصوت المعارض الوحيد الحقيقي في هذه المعركة.

لكن بعض هذه الأحزاب واقع في تناقض كبير. فحزب إعادة التأسيس الشيوعي لديه 41 مقعداً في مجلس النواب، لكنه في نفس الوقت جزءاً من الحكومة التي تتمنى بالتأكيد أن تدفع بأقصى سرعة نحو سياسات ليبرالية جديدة. والحزب يتعهد بالسحب الفوري للقوات الإيطالية من العراق وأفغانستان، وإلغاء قانون مرونة العمل، ومعارضة الهجمات على مستويات معيشة العمال. والطريق الوحيد لتحقيق تعهداته تلك هو التنظيم الجماعي للعمال ضد الحكومة التي هو جزء منها. ذلك هو الاختيار والاختبار الصعب!

ستخلق هذه الحكومة الجديدة في المدى القريب مزاجاً انتظارياً مترقباً داخل صفوف الحركة العمالية. وعلي الرغم أن العديد من العمال لا يثقون في حكومة يسار الوسط كما في الماضي، إلا أن الكثير منهم يريدون إعطائها فرصة، لرؤية ماذا ستفعل. فهم لا يريدون عودة بيرلسكوني، ولذا من المحتمل أن نشهد هدوءاً مؤقتاً بين صفوف الحركة العمالية.

على أية حال، لا يمكن أن تدوم هذه الحالة لمدة طويلة، فالحكومة لن يكون لديها مجال حقيقي للمناورة. فالأزمة الحادة للرأسمالية الإيطالية، تحتم هجمات وتخفيضات جديدة علي مستوى معيشة الطبقة العاملة، ولن يخرج بيرلسكوني وحلفاؤه اليمينيون أيضاً إلي التقاعد. بل سيقومون بتجذير أكثر فأكثر لخطاباتهم، وسيستخدمون كل أنواع الدعاية العنصرية والرجعية والفاشية، لتقوية موقعهم وسط الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة علي أرضية تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذه العملية لها حدودها. فهي قد تثير رد فعل معاكس لتوقعات بيرلسكوني. بمعنى آخر، عندما سيلعب بيرلسكوني دور سوط الثورة المضادة سيطلق هذا السوط عنان حركة ثورية. فالتجذر إلى اليمين سيؤدي إلي تجذر معاكس إلى اليسار.