رغم الارتباك بعد اغتيال الجميل.. النصر القادم للمقاومة في لبنان
عقد في لبنان في الفترة من 16 إلى 19 نوفمبر “مؤتمر بيروت”، بمشاركة من قوى المقاومة اللبنانية ونشطاء مناهضة الإمبريالية والحرب في العالم، الذين جاءوا ليعلنوا تضامنهم مع المقاومة اللبنانية. وائل خليل شارك في المؤتمر، ويقدم لنا استعراضاً للقضايا الرئيسية التي طرحت، وكذلك رؤية للوضع الداخلي في لبنان.
جاء اغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل ليؤجل فيما يبدو خطط قوى المعارضة اللبنانية لتصعيد ضغوطها على حكومة السنيورة لإسقاطها باتجاه تشكيل حكومة وحدة وطنية تحوز فيها المعارضة على نسبة الثلث التي تعطيها سيطرة أكبر على القرارات التي تتخذها الحكومة.
وفور الاغتيال تعالت الأصوات عن مؤامرات وتخمينات لمن يقف وراء اغتيال الوزير الشاب المنتمي لحزب الكتائب وسليل عائلة الجميل الكتائبية العريقة، فهو حفيد بيير الجميل مؤسس حزب الكتائب ونجل أمين الجميل الرئيس السابق وعمه هو بشير الجميل الذي اغتيل عام 1982. فتيار السلطة المسمى بقوى 14 آذار سارع باتهام سوريا وقوى المعارضة بالمسئولية عن العملية بينما اكتفت المعارضة بالإشارة للمستفيد من عملية الاغتيال. فالمستفيد الأساسي هي قوى السلطة خاصة الجناح المسيحي فيها، حزب الكتائب والقوات اللبنانية. فهذه القوى أرادت أن تستغل الاغتيال للنيل من معسكر التيار الوطني الحر بقيادة عون وهو الجناح الأكثر شعبية وسط جماهير المسيحيين خاصة الفقراء منهم.
وكان تحالف المعارضة قد بدأ العد التنازلي للنزول إلى الشارع لإسقاط الحكومة وأشارت كل التقديرات أن التحرك سيكون يوم الخميس 23 نوفمبر وهو اليوم التالي لعيد الاستقلال. تحالف المعارضة يضم حزب الله، والتيار الوطني الحر، الحزب الشيوعي اللبناني، حركة أمل الشيعية بالإضافة إلى العديد من الشخصيات والرموز السنية مثل سليم الحص رئيس الوزراء الأسبق، والعديد من الأحزاب العلمانية الصغيرة. مطلب هذا التحالف هو تشكيل حكومة وحدة وطنية تعبر بشكل أفضل عن موازين القوى الذي اختلف عن ذلك الموجود في مجلس النواب والذي تنتمي الأكثرية فيه (56%) لتحالف تيار المستقبل والذي يقوده سعد الحريري (سنة) والحزب الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط (دروز) وحزب الكتائب بقيادة أمين الجميل والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع (مسيحيين). فتلك الأكثرية لم تكن لتحدث لولا فورة التعاطف بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005 وهي كذلك أكثرية ساهم حزب الله والتيار الوطني الحر في تحقيقها في محاولة لتوحيد الصف اللبناني عقب اغتيال الحريري.
مطلب حكومة الوحدة الوطنية هو مطلب تقف الولايات المتحدة (وإسرائيل) ضده بكل قواها. فهو يعني أن حزب الله نجح في تحويل انتصاره العسكري في الحرب إلى نصر سياسي أي إلى هزيمة جديدة للإمبريالية في المنطقة، وهو أمر لا تتحمله الإدارة الأمريكية بعد تأزم وضعها في العراق وأفغانستان. فهزيمة جديدة تعني ولاشك نهاية المشروع الأمريكي في المنطقة في صورته الراهنة. ولعل أفضل مثال على عمق الأزمة التي يمر بها جورج بوش هو إصراره على أن يكون السياسي الوحيد في العالم الذي أعلن انتصار إسرائيل في حربها على حزب الله.
وبعد الحرب مباشرة حاولت الولايات المتحدة إجهاض الانتصار ودفع الأمور باتجاه نزع سلاح حزب الله وكسر شوكته، ولكن هذه المرة بالطرق السياسية. ومثّل تحالف الحريري-جنبلاط-جعجع بالإضافة لرئيس الوزراء فؤاد السنيورة المحور الرئيسي في الخطة الأمريكية. إلا أن التأييد الشعبي والاصطفاف السياسي المؤيد لحزب الله والذي عبر عن تحالف عابر للطوائف (شيعة-سنة-مسيحيين-علمانيين) وافتقار التيار السلطوي لقاعدة جماهيرية حقيقية أفشل محاولات أمريكا وإن لم ينهها تماما.
فقد استمر دور السفارة الأمريكية والسفير الأمريكي جيفري فيلتمان في التدخل في الشئون اللبنانية ودفع جناح السلطة للمزيد من التشدد الأمر الذي دفع السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله، والمعروف عادة بدبلوماسيته في الشأن الداخلي اللبناني إلى اتهام الحكومة بأنها صارت حكومة فيلتمان لا حكومة السنيورة وأن قرارات المعسكر الحاكم صارت تتخذ في مبنى السفارة.
وبدأ تيار المعارضة في التصعيد التدريجي مطالبا بدون توقف بتوسيع الحكومة ودور أكبر لميشال عون وتياره فيها في إطار تشكيل حكومة وحدة وطنية تكون قادرة على التصدي للاستحقاقات والتحديات المطروحة أمام لبنان من إعادة إعمار وغيرها. دعوة المعارضة تصاعدت لتطرح بصراحة إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة “نظيفة”. ثم جاءت استقالة الوزراء الشيعة الستة من الحكومة بغرض نزع الشرعية عن الحكومة بغياب طائفة كامل عنها وهو ما يخالف الدستور اللبناني. وأخيرا كانت المهلة التي أعطاها حزب الله لتشكيل حكومة وحدة وإلا سيلجأ للشارع.
بدورها استمرت السلطة، وبدعم أمريكي فرنسي، في رفض دعوات الوحدة الوطنية بل واستخدمت استئثارها بالسلطة بعد استقالة الوزراء الست في تمرير مشروع قانون المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري، تلك المحكمة التي تراها أمريكا الأداة النهائية لإحكام السيطرة على النظام السوري ودفعه لمواقف متسقة مع المصالح الأمريكية في المنطقة. المحكمة الدولية كانت ومازالت الشعار السياسي الحقيقي لجماعة السلطة وهو ما ساهم في ازدياد عزلتها محليا حيث يرى العديد من اللبنانيين أن مسألة المحكمة ثانوية وأن الأولوية يجب أن تكون لقضايا إعادة الإعمار ومواجهة الفقر والفساد.
أخيرا بدا في الأسبوع السابق على اغتيال الجميل أن العد التنازلي لتحرك المعارضة قد بدأ ووضع خطاب السيد حسن نصر الله لقواعد حزب الله يوم السبت 18 نوفمبر الماضي الملامح النهائية لهذا التحرك، وكذلك فعل قادة التيارات الأخرى في المعارضة، الشيوعيون وأنصار عون وغيرهم. كان الطريق للشارع مفتوحا والنصر يلوح في الأفق. وباستثناء التهديد باستخدام حاسم للأمن والتخويف من الفوضى بل والتلويح بذكريات الحرب الأهلية، بدت السلطة عاجزة على مواجهة هذا التحرك.
ثم جاء الاغتيال. وجاءت معه محاولات محمومة لتيار السلطة لاستغلاله لأقصى درجة. فوجهت الاتهامات للمعارضة وتمت الدعوة والتعبئة لحشد واسع في الجنازة يكون مثابة استفتاء جديد للسلطة وقلب المائدة على حزب الله وتحالف المعارضة، بل والمبادرة بالهجوم والدعوة لإقالة رئيس الجمهورية إميل لحود المتحالف مع حزب الله. إلا أن كل هذه الخطط بدت في طريقها للفشل حتى قبل أن تنتهي الجنازة.
فالحشد الشعبي في الجنازة الذي راهنت عليه قوى السلطة قد أتي مخيبا لآمالها في أن يعطي زخما شعبيا افتقدته في الشهور الأخيرة وافتقدت معه تسميتها بقوى الأكثرية ذات المعنى الأقوى لتصبح مجرد قوى السلطة المصطفة في مواجهة قوي المعارضة. جاء الحشد المتواضع نسبيا وتزامن معه، ونتج عنه، استعادة سريعة لمعسكر المعارضة لتوازنه ليعلن أن خطط إسقاط الحكومة مازالت قائمة وأعلن ميشال عون أن المعارضة في حداد لمدة أسبوع على وفاة الجميل أي أن التحرك الشعبي لإسقاط الحكومة قد تأجل لأسبوع واحد.
والآن يبدو الأمر وكأن المقاومة وحلفائها في طريقها للانتصار في الساحة اللبنانية كما انتصرت ضد إسرائيل، قد تجري محاولات تخريب واغتيال ولكن هذا يبدو الآن عاجزا عن إيقاف هذا الانتصار. وهذا الانتصار لن يكون نهاية القصة، فالإمبريالية وإسرائيل لن يكفا حتى يقضيا على المقاومة وقد يحاولان خنقها بطرق جديدة -ربما عن طريق النظام السوري في إطار التقارب السوري الأمريكي بشأن العراق والذي توج بزيارة وزير الخارجية السوري للعراق واستعادة العلاقات الدبلوماسية بين نظام بشار الأسد وحكومة الاحتلال في العراق.
لن يكون انتصار المقاومة دائما طالما ظل حزب الله خجلا في موقفه من الأنظمة العربية، فلا يمكن أن ينتصر مجددا وهو يدعي الحيدة بين الأنظمة المستبدة وبين شعوبها، فتاريخ منظمة التحرير الفلسطينية والنضال الفلسطيني بشكل عام أبلغ دليل على فشل سياسة عدم التدخل والتزام الحياد بين الأنظمة الفاسدة المستبدة حليفة الاستعمار وبين الشعوب. وهناك كذلك تحدي حقيقي آخر في لبنان. فالجماهير التي دعمت المقاومة والمعارضة تريد إجابات على قضاياها الحقيقية، الدمار وانتشار الفقر واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. فهل يستطيع حزب الله وحلفاؤه تبني برنامج اقتصادي سياسي منحاز للفقراء في لبنان؟ وأخيرا هل يستطيع حزب الله أن يصبح حزبا لكل الجماهير اللبنانية –لا الجماهير الشيعية فقط- الراغبة في المقاومة وفي مجتمع عادل وديمقراطي؟ هذه الأسئلة هي ما سيحدد مدى اتساع واستدامة انتصار المقاومة في لبنان.