بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

شيلي: الطلاب على صفيح ساخن

* نشر المقال لأول مرة باللغة الإنجليزية، في موقع «العامل الاشتراكي»، بقلم جيسون فاربمان…

لقد تحول اليوم ما بدأه الطلاب في شيلي من احتلال للمدارس والجامعات، إلى أكبر موجة احتجاجات في تاريخ شيلي على الإطلاق. وتجتاز الاحتجاجات الطلابية الواسعة، والتي ينخرط فيها عشرات الآلاف من الطلاب بجانب العديد من العاملين بقطاع التعليم، شهرها الثالث، لتتلاحم مع احتجاجات عمالية عارمة بقطاعات مختلفة هذا العام. وجدير بالذكر أن عدد المتظاهرين قد وصل لما يقرب من 600 ألف متظاهر الأسبوع الماضي، حينما دعى اتحاد عمالي، يضم أكثر من 80 نقابة ومجموعة عمالية، لإضراب تضامني مع مطالب الطلاب لمدة 48 ساعة.

ويقدر بعض المسئولين الحكوميين الخسائر خلال الإضراب العام بـ 200 مليون دولار يومياً، مما دفع الرئيس، سباستيان بينيرا، لشجب الاحتجاجات، أو كما صرح أنه “من المؤلم أن نرى كل هؤلاء يسعون بجهد لشل البلاد”.

على مستوى المدارس، فإن أقل من نصف طلاب المدارس الثانوية في شيلي يدرسون في المدارس الحكومية. أما على مستوى الجامعات، وبالرغم من تزايد أعداد الطلاب الجامعيين، إلا أنه لم تُنشأ أية جامعات حكومية جديدة منذ نهاية عهد الديكتاتورية العسكرية للجنرال أوجستو بينوشيه في نهاية الثمانينات. وحتى قبل ذلك، فلقد كانت السياسات الحكومية في عهد بينوشيه تدعم الجامعات الخاصة مالياً سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق القروض المدعومة من قبل الحكومة.

وحتى الآن، تتلقى المدارس الحكومية قدراً ضئيلاً من الدعم الحكومي؛ وبالتالي فإن أجور المدرسين والأساتذة تظل هزيلة، بالإضافة إلى أن الكثير من المدارس التي تهدمت أثناء زلزال 2010 الذي ضرب شيلي، لاتزال على حالها دون أي ترميم أو إعادة بناء. وهكذا أصبحت أسر الفقراء وأسر الطبقة العاملة تواجه مصاعب مضاعفة لإدخال أبنائهم مدارس جيدة. وفي مثل هذا النظام، الذي وصفه أحد الأساتذة في شيلي بـ”الفصل العنصري التعليمي”، يستطيع فقط أبناء الأغنياء أن يحصلوا على تعليم ذي جودة عالية، أما أبناء الفقراء فعليهم تلقي قروض تعليمية باهظة تثقل كاهل أسرهم بديون هائلة فيما بعد.

إنفاق محدود وتتوازى الحركة الطلابية الواسعة التي تشهدها شيلي هذا العام مع عدد كبير من النضالات الكبيرة الأخرى، فلقد شهدت البلاد عدداً من الإضرابات والاعتصامات احتجاجاً على زيادة أسعار الغاز، واحتجاجاً على استمرار عمل السد الهيدروكهربائي المضر للبيئة في جنوبي شيلي، وأخيراً احتجاجاً على خفض أجور العاملين بمناجم النحاس.

أما المطلب المشترك بين كثير من هذه الاحتجاجات فهو تأميم مناجم النحاس(*) التي قد تم خصخصتها في عهد الديكتاتور بينوشيه. فإذا تم تأميم مناجم النحاس، لن يكون هناك حاجة لزيادة كلفة الخدمات والمرافق العامة أو لبناء سدود تهدد البيئة، وبالتأكيد سوف يكون هناك ما يكفي لتمويل التعليم الحكومي ليكون متاحاً لكل أبناء شيلي.

أما الرئيس الشيلي، بينيرا، وهو المليونير صاحب الشركات والاستثمارات الضخمة، فغالباً ما كان يستجيب للطلاب بقوله المتكرر أن “لا شيء يمكن منحه بالمجان”. وفي حين أن شيلي تعد أعلى دول أمريكا اللاتينية من حيث نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، وفي نفس الوقت أكثرهم من حيث اللامساواة في توزيع الثروة الاجتماعية، يرى الطلاب أن خطاب بينيرا الذي ينطق بلسان السوق الحر، لا يهدف إلا لاحتقار مطالبهم.

وفي النصف الأول من هذا العام، حققت شيلي نسبة نمو تقدر بـ 4.8%، بينما يتوقع وزير المالية الحالي فيليب لارين، أن ترتفع هذه النسبة إلى 5% بحلول عام 2012. لكن بالرغم من هذه الصورة الاقتصادية الإيجابية، إلا أن هناك فجوة كبيرة بين ما يجب أن تنفقه الدولة على التعليم وبين ما تنفقه فعلياً. وجدير بالذكر أن شيلي تنفق 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، بينما توصي الأمم المتحدة بتوجيه ما لا يقل عن 7% منه لتمويل التعليم.

إن ما تشهده شيلي اليوم يستكمل الاحتجاجات الضخمة التي شهدتها البلاد في 2006(**)، حيث أجبر نصف مليون متظاهر الرئيسة السابقة، ميتشال باشيلي، على التنازل والموافقة على إنفاق الملايين لتلبية المطالب، كما وعدت بإجراء الكثير من الإصلاحات التي لم تُنفذ إلى اليوم. وبينما يستكمل مشاريع الخصخصة واسعة النطاق وتراجع الدولة عن دورها في تقديم الخدمات الاجتماعية، هناك توجه عام بين القطاعات الطلابية والكثير من القطاعات العمالية لضرورة النضال ومواجهة سياسات بينيرا سوياً. وبعد انطلاق الاحتجاجات الطلابية بأسابيع قليلة، صرح القيادية الطلابية، كاميلا فاليجو، أنه يجب على الحشود الطلابية أن تجري تحولاً سياسياً جديداً حيث الالتحام مع باقي القطاعات الاجتماعية لمقاومة سياسات بينيرا.

ومنذ ذلك الحين، تبنت الحركة الطلابية برنامج نضالي جديد يهدف لإنهاء التعليم الخاص وضمان تعليم جيد في كافة المراحل التعليمية. ذلك بالإضافة إلى دعوات أخرى تنادي بإعادة صياغة النظام الضريبي وإعادة تأميم المناجم. لكن بوجه عام، فإن الملمح السياسي الرئيسي للحركة الطلابية اليوم في شيلي هو الميل الشديد نحو التوحد مع مطالب ونضالات قطاعات واسعة من الطبقة العاملة. تضامن جماهيري وقمع عنيف مع استمرار الاحتجاجات الطلابية والواسعة خلال الشهور الثلاثة الماضية، تهبط شعبية الرئيس اليميني، سباستيان بينيرا، بشكل حاد؛ حيث تبلغ نسبة مؤيديه، بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، إلى 26% فقط من سكان شيلي، وهي أقل نسبة تأييد لرئيس شيلي منذ الديكتاتور بينوشيه.

ومع تنامي الغضب الشعبي لسياسات بينيرا واندلاع الانتفاضة الطلابية الراهنة، صعد إلى السطح، ومن قلب هذه الموجة الاحتجاجية، العديد من القيادات الطلابية التي لعل من أبرزها الطالبة كاميلا فاليجو، وهي عضو بالحزب الشيوعي وثاني قيادية طلابية لاتحاد طلاب الجامعات بعد ما يزيد عن مائة عام. وقد كتبت الجارديان البريطانية عنها أنه:”منذ أيام الجيش التحرير الوطني أثناء ثورة الزاباتيستا، لم تحظ أمريكا اللاتينية بقائد ملهم مثلما كان ماركوس. أما اليوم، فلدينا قيادات جماهيرية لا تحمل البنادق ولا تدخن الغليون مثل القيادية الطلابية كاميلا فاليجو التي صارت الوجه الأبرز في الانتفاضة الشعبية في شيلي.. يمكن لمؤتمراتها الصحفية أن تؤدي إلى إقالة أحد الوزراء، ومن الملفت أن نرى المسيرات الجماهيرية التي تقودها تغلق أغلب مساحات العاصمة الشيلية”. لكن صعود كاميلا كقيادية بارزة في الانتفاضة الشعبية في شيلي، جعلها في موضع استهداف.

وجدير بالذكر أن المحكمة العليا في شيلي قد أصدرت قرار بحماية كاميلا وعائلتها بعد تلقيها تهديدات بالقتل. وبالنسبة للطلاب والعمال بشكل عام، فهم يواجهون ضغوط قمعية متزايدة من جانب قوات الأمن التي تستخدم القنابل المسيلة للدموع والمياه باستمرار لتفريق المتظاهرين. ويُذكر أنه خلال الإضراب العام الذي استمر 48 ساعة، تم القبض على ما يزيد عن 1400 متظاهر، كما أصيب الكثيرون أثناء عمليات القمع العنيفة.

وجدير بالذكر أن القمع العنيف الذي تستخدمه قوات الأمن قد أدى، الأسبوع الماضي، إلى مقتل فتى في السادسة عشر من عمره يُدعى مانويل جتيريز. لم يشترك مانويل في الاحتجاجات، لكنه كان يسير بالقرب من أحد المتاريس مع أحد أصدقائه في منتصف الليل، وحينها أطلقت ثلاثة أعيرة نارية اخترقت صدره، وتوفى بعد نقله للمستشفى بعدة ساعات. وقد استطاع الغضب الواسع إثر مقتل مانويل وقمع الشرطة، بجانب إصرار المتظاهرين من مختلف القطاعات، استطاع أن يحظى بتأييد شعبي عام ضد سياسات الحكومة.

وفي يوليو الماضي، أُجبر بينيرا على تقديم حزمة من الإصلاحات في مجال التعليم، لكن هذه الإصلاحات قوبلت بالرفض من جانب اتحاد طلاب الجامعات في شيلي نظراً لأن الإصلاحات لا تلبي مطالب الحركة الطلابية.

وكمحاولة لاحتواء الاحتجاجات، يدعو بينيرا قياديي الاتحاد الطلابي لمقابلته شخصياً. وفي المقابل اجتمع طلاب الاتحاد سريعاً لمناقشة هذا العرض، وبعد حوالي 10 ساعات أعلنوا موافقتهم. ومن جانبها، أكدت كاميلا أن لقاء بينيرا لن يتمخض عن أي مساومة على المطالب أو على الحركة. لكن بالتأكيد ليس هناك ما هو مشترك بين بينيرا المليونير وكاميلا الشيوعية. وكما أوضحت كاميلا، فإن الأهداف التي يناضل من أجلها الطلاب والعمال على السواء، “لتغيير النظام السياسي والاجتماعي ككل.. من أجل توزيع أكثر عدلاً للسلطة والثروة”.
———————————
الهوامش:
(*) تعد شيلي من أهم الدول المنتجة للنحاس، وتمتلك حوالي ثلث احتياطي النحاس في العالم. وجدير بالذكر أن شهدت مناجم النحاس موجة من التأميم الذي تم على ثلاثة مراحل خلال الستينات والسبعينات (في عهد الرئيسين إدواردو مونتالفا وسلفادور الليندي)، حتى جاء الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال بينوشيه بتدبير مباشر من جهاز المخابرات الأمريكية ليطيح بالرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي. وفي عهد بينوشيه شهدت شيلي موجات متسارعة من الخصخصة، أطلق عليها الاقتصادي الأمريكي ومهندس الليبرالية الجديدة، ميلتون فريدمان، “معجزة شيلي”، وفي سياق هذه الحملة من الخصخصة انتقلت مناجم النحاس من حيازة الدولة إلى أيدي الشركات الخاصة مرة أخرى. (المترجم).

(**) شهدت شيلي انتفاضة طلابية أقل وطأة في 2006، أطلق عليها “انتفاضة البطاريق” في إشارة إلى الزي المدرسي حيث السراويل والمعاطف السوداء والقمصان البيضاء. (المترجم).