سوريا: مقايضات القوى الكبرى
وصل مستوى العنف في سوريا إلى حد لا مثيل له منذ انطلاق الثورة في 15 أذار/ مارس 2011. ولا بد من الإقرار الصريح بأن خطة كوفي أنان ومراقبيه، التي كان الهدف الأول منها هو وقف العنف، قد فشلت فشلا ذريعا.
فقد تجاوز عدد الشهداء، منذ لحظة وصول مراقبي الأمم المتحدة في منتصف نيسان الفائت، 3500 شهيدا والعدد في تزايد كبير مع تفاقم الحملة العسكرية للنظام واستخدامه للأسلحة الثقيلة بشكل منهجي.
ولم يتردد الجنرال مود رئيس فريق المراقبين الدوليين نفسه من الاقرار بذلك في تصريحه الصادر في 16 حزيران/ يونيو في دمشق عندما أعلن " الوقف المؤقت لمهمته بسبب تزايد أعمال العنف التي يتعرض لها المراقبين انفسهم".
هذا في الوقت الذي تتابع فيه القوات المسلحة للدكتاتورية استراتيجية حرب شاملة ضد كل المناطق الثائرة، في حين تتعرض فيه حمص المدينة الجريحة، أو بالأصح ما تبقى فيها من أحياء ما تزال تقاوم مثل الخالدية، الى عمليات قصف وقتل يومية ومستمرة منذ أسابيع.
وبالتالي، فان الوضع الانساني قد أضحى أكثر من مأساوي، فضواحي دمشق ولا سيما دوما وكذلك أدلب وريف حلب ودير الزور ودرعا واللاذقية تتعرض لنفس المصير. فالمجازر التي ترتكبها ميليشيات السلطة بحق المدنيين، مثل مجازر الحولة وحمورية والحفة وغيرها، اصبحت تتكرر بشكل عادي. وتهدف طغمة آل الأسد منها إلى بث روح من الرعب في أوساط الجماهير أو على الأقل محاولة تغيير موازين القوى في الميدان، هذا إن فشلت في محاولتها سحق الثورة.
ولكن الطغمة الحاكمة ما تزال أبعد ما تكون عن تحقيق هدفها المذكور، لأن الالاف تتظاهر يوميا، ومئات الالاف تتظاهر أيام الجمع. كما أصبح الجيش السوري الحر أكثر تنظيما وقدرة على مقاومة الوحدات العسكرية الحكومية.
و ما هو بعد أسوا بالنسبة للنظام، فإن حلب شهدت إضرابا عاما في 16 حزيران/ يونيو وما بعده. إضافة إلى إضرابات مدينة دمشق نفسها.
ولكن تحويل الدكتاتور الأسد لسوريا إلى ساحة حرب حقيقية إنما يخلق الشروط الملائمة لتشجيع مقاومة مسلحة أكبر له، والممارسات الهمجية والمهينة لميليشياته ذو الطابع الطائفي إنما تدفع الى خلق رد فعل عليها من طبيعتها نفسها. وباختصار، يمكن القول أن آل الاسد قد وفروا، بوحشية قمعهم وسفالته، كل مستلزمات جرف البلاد إلى جحيم حرب أهلية قد تكون الاكثر همجية بسبب طائفيتها.
و تعتقد طغمة آل الاسد أن هكذا حرب أهلية ستشكل لهم مخرجا أخيرا من أجل بقاء سلطانهم. وهذا ما يفسر السبب الاخر الذي قدمه الجنرال مود في تبريره لقرار "التعليق المؤقت" لمهمته، حيث أعلن "أن كلا طرفي النزاع (النظام والمعارضة الثورية) يفتقدان إلى الرغبة في السعي إلى حل سلمي". والحال، فإن هذا الجنرال يضع على قدم المساواة من جهة، جيش جرار في تسليحه يشن حربا على شعبه ومن جهة أخرى، مقاومة شعبية مسلحة وسيئة التجهيز تدافع عن حياتها وحياة الشعب الثائر.
إن تغول النظام في العنف في الأسابيع الأخيرة ضد المدن الثائرة تعبر عن رغبته بإجهاض خطة أنان، التي تشمل على إجراءات تسمح "بانتقال ديمقراطي سلمي"، لن يقبل به.
في الوقت عينه، نشهد على الصعيد العالمي مفاوضات تجري بين الولايات المتحدة وحلفاء كل منهما، فقد أعلنت الخارجية الأمريكية في 15 حزيران/ يونيو أن بوتين وأوباما سوف يتداولان حول "خلافات وجهات نظرهما حول الوضع السوري على هامش مؤتمر قمة الدول العشرين المنعقد في المكسيك في 20 حزيران/ يونيو"، ويحدد التصريح نفسه "إن البلدان سيتابعان حوارهما حول استراتيجية الانتقال لمرحلة ما بعد الأسد".
و في الواقع، فإن الحكومة الروسية لا تستبعد هكذا سيناريو، حيث أعلن وزير خارجيتها لافروف في 10 حزيران/ يونيو "أن حكومته لن تقبل بتغيير النظام السوري من خلال استخدام القوة، ولكنها لا تعارض رحيل بشار الأسد إن جاء رحيله في ختام حوار بين السوريين أنفسهم".
لقد أدت تضافر كل من وحشية الدكتاتورية في حربها ضد شعبها والموقع الجيو-استراتيجي لسوريا وانتهازية المعارضة الهزيلة (المجلس الوطني وهيئة التنسيق) إلى جعل البلاد فريسة للضواري الامبريالية في الشرق والغرب، الاولون يدعمون النظام والأخرون يدعمون بعض المجموعات الموالية لهم. في حين يشكل الشعب الثائر بتضحياته العظيمة وقواه الشعبية الثورية الطرف المنسي واخر هموم هؤلاء المجرمين الذين يتصارعون على حصة كل منهم في بلادنا.
لكن ما يتناسوه، هو أن مستقبل سوريا هو بين أيدي شعبها الثوري الذي لن يقبل أن يرسم، أيا كان، له مستقبله، وهو يخلق كل يوم ومن الأسفل هيئات سلطة شعبية بديلة، فالسيرورة الثورية من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية تحقق تقدما مستمرا بتضحيات هائلة، بالتأكيد. ولكن أكثر من نصف مساحة البلاد أصبحت خارج سيطرة النظام الحاكم.
وفي النهاية، فإن النصر سيكون حليف الثورة الشعبية السورية.
• المقال منشور لأول مرة بالعدد السابع من جريدة "الخط الأمامي"، يوليو 2012، يصدرها تيار اليسار الثوري في سوريا