الأكراد هم الضحية
طبول الحرب تدق مرة أخرى في العراق
وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في أنقرة لتعلن: “حزب العمال الكردستاني عدو لنا جميعا… عدو لتركيا ولأميركا وعدو للعراق”… وبجوارها وقف وزير خارجية تركيا بسمت حازم ليعلن بعدها طالبا المزيد: “ولى وقت الكلام وحان وقت الأفعال”.
وعلى الرغم من سخونة تصريح رايس الا أنها كانت على الجانب الأخر تحض تركيا على التروي والتراجع عن عزمها الواضح لغزو شمال العراق لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني وإنهاء وجودهم في المنطقة الواقعة تحت الحكم الذاتي للأكراد العراقيين. ولكن الظاهر أن قطار الغزو الوشيك قد بدأ في التحرك. فتركيا حشدت مائة ألف من قواتها على الحدود مع العراق، والقصف المدفعي والغارات قد بدأت بالفعل. الأزمة التي فجرها للعلن عدد من العمليات الجريئة لحزب العمال ضد الجيش التركي والتي راح ضحيتها العديد من الضباط والجنود الأتراك تعود في الأصل لعدم التقدم باتجاه حل للمشكلة التاريخية لأكراد تركيا -وللأكراد بشكل عام- الذين يسعون بدأب لإقامة وطن يضم الأكراد من العراق وتركيا وإيران وسوريا، أو على الأقل للحصول على شكل من أشكال الحكم الذاتي لهم في هذا البلدان.
بالنسبة لرايس والإدارة الأمريكية، فتح جبهة جديدة في شمال العراق مأساة تقارب المهزلة. فهذه هي جنة العراق الجديد، المثل والنموذج الذي يدعي الأمريكان أنه النجاح بعينه لمغامرتهم الدموية. ها هو ينفجر مثل نظراءه (وسط العراق وجنوبه) في معارك بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي.
دخول تركيا شمال العراق سيفجر الموقف مع حلفاء أمريكا الآخرين، الأحزاب الكردية في شمال العراق، والتي لعبت دورا هاما في غزو واحتلال العراق وتلعب دورا هاما في اللعبة السياسية الجارية في العراق الآن. ولا يجب أن ننسى أن الرئيس الحالي للعراق هو جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني أحد الحزبين المسيطرين في شمال العراق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني.
السيناريو البديل والذي تتمناه الولايات المتحدة هو أن تتحرك الحكومة العراقية -وبمعني أدق الميليشيات الكردية التابعة لإدارة الحكم الذاتي – لقمع مقاتلي حزب العمال وإزالة قواعدهم من شمال العراق. الإدارة الكردية، من جانبها، يبدو أنها خضعت جزئيا لمطالب الولايات المتحدة حيث بدأت منذ بداية نوفمبر في التضييق على الحزب الديمقراطي الكردي -الحزب الأقرب لحزب العمال الكردستاني- وفي إغلاق مقراته في شمال العراق. ولكن رغم هذا التحرك فمن المستبعد أن تتحرك السلطات الكردية عسكريا ضد مقاتلي حزب العمال. فأكراد العراق يشككون علنا في دوافع تركيا، وفي أن تحركها الأخير لا يأتي ردا على العمليات ضد الجيش التركي. ويرون أن التحرك يعود لخطة أشمل لإجهاض أية محاولة لإقامة دولة كردية أو حتى حكم ذاتي للأكراد حتى لو كانوا في العراق حيث سيسهم هذا في حال نجاحه في إذكاء الروح الانفصالية للأكراد في تركيا.
المأزق الأمريكي لا يضاهيه إلا مأزق الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم ذو الميول الإسلامية. فانتصار الحزب في الانتخابات البرلمانية في يوليو الماضي لم يجلب فقط حسما لصراع الحزب مع المؤسسات العلمانية وعلى رأسها الجيش، بل جلب صعودا في شعبيته في المناطق الكردية وضاعف أصواته ليحصل على 52% من الأصوات في جنوب تركيا ذو الأغلبية الكردية. جاء هذا الصعود نتيجة للخط المتسامح الذي سلكته الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية تجاه الأقلية الكردية في تركيا، فبعكس الحكومات العلمانية والعسكرية السابقة رفع الحظر عن اللغة الكردية وسمح للعديد من الأحزاب الكردية بالعمل، وتبنى موقفا يبشر بحل سياسي للمشكلة الكردية.
والآن يبدو أن الحكومة –الإسلامية- قد بدأت في التراجع أمام الضغوط القادمة من المؤسسة العسكرية والقوميين الأتراك لغزو شمال العراق والقضاء على حزب العمال، ونجدها تدخل في مساومات مع القوى الاستعمارية ممثلة في الولايات المتحدة لدعم الغزو المرتقب. الموقف الأخير لحكومة حزب العدالة والتنمية ينزع بعض البريق منه كحزب إسلامي متطور وحديث يوازن بين القيم الإسلامية ومتطلبات الدولة الحديثة. وفي واقع الأمر لا يعدو حزبا انتهازيا يتخلى عن مبادئه للمحافظة على السلطة.
الأزمة الحقيقة تكمن في أن غزو شمال العراق لن يحل المشكلة، فتركيا توغلت في شمال العراق عدة مرات في التسعينات بغرض القضاء على حزب العمال ولم تنجح، وما من دليل على أنها ستنجح هذه المرة. لن ينجح الغزو المرتقب إلا في إلقاء المزيد من الوقود في آتون الحرب المشتعلة في العراق والتي لا يمكن ان تنتهي أو أن يسود الاستقرار طالما استمر الاحتلال الاستعماري لأرض العراق. من ناحية أخرى، فالقضية الكردية لن تحل بدون إعطاء حق تقرير المصير للأكراد في تركيا و إيران وسوريا والعراق.