ثورة الشعب الأردني تفضح انتهازية القوى السياسية

تتعاقب الاحتجاجات تلو الأخرى في الشوارع الأردنية، فبعد ما يقل عن شهر اشتعلت التظاهرات الشعبية من جديد لتستمر في شدتها حتى كتابة تلك السطور بخروج مظاهرات متفرقة في محافظات عدة احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، حيث تم تسجيل وفاة مواطن وجرح العشرات واعتقال المئات.
الاحتجاجات تميزت بطابعها العفوي، ففور الإعلان عن قرار الحكومة بخفض عجز الموازنة وتوجيه مزيد من الضغط على الجماهير، اشتعلت التظاهرات في الجنوب مثل الطفيلة ومعان والكرك بالاضافة إلى إربد وجرش في الشمال لتشمل في مجملها عموم البلاد وتتخطى بذلك حواجز الانعزال، بل وتجاوزت الجماهير الغاضبة مظاهر الاحتجاج المعهودة بمهاجمة مقار للشرطة وقطع الطرق الرئيسية وإشعال الإطارات وحرق صور الملك.
الملفت أن المظاهرات طالبت بإسقاط النظام وإسقاط الملك عبد الله وهي الحلقة الأكثر تطورا التي تشهدها سلسلة الحراك الشعبي الأردني المستمرة على نحو متقطع قبل ما يزيد عن عام ونصف بعد الاكتفاء بمطلب إصلاح النظام، بل لم ترهب المتظاهرين حالات الاعتداءات والمحاكمات السريعة التي اعتاد فيها النظام تلفيق تهم “إهانة الذات الملكية” للعديد من النشطاء طوال الأشهر الماضية.
ومع ازدياد المد الشعبي بموجة مظاهرات غير مسبوقة في طابعها ومطالبها تبينت عدة نقاط حول ما تواجهه الأردن من أزمة اقتصادية على المستوى الشعبي وفرص تصاعد الحراك وعلى المستوى السياسي والحدود المنخفضة للمعارضة.
الجانب السياسي للاحتجاجات، على سبيل المثال، أظهر ضعف أداء المعارضة أمام الحراك الشعبي، فحتى الآن لم تعلن جماعة “الإخوان المسلمون” الذين يشكلون أكبر قوة معارضة مشاركتها في الاحتجاجات الاجتماعية برغم تعبئتها الواضحة للجماهير بمظاهرات الشهر الماضي حول قانون الانتخابات، وهو ما قد يفضح التوجهات الحقيقة للمعارضة الإسلامية حول أفقها الحزبي الضيق الذي لم يتعارض في خطوطه مع الاقتراض من النقد الدولي والذي تناهضه اليوم مظاهرات شعبية عميقة.
وسواء وافقت المعارضة على فتح حوار مع الحكومة للتوافق حول قانون انتخاب جديد أو تحديد موعد آخر للانتخابات أو مقاطعتها، فإن بقاء المعارضة بموقف المتفرج وبدون مشاركة تظاهرية الآن يساهم في اختزال الأزمة في شقها السياسي فقط، ولا يعكس جدية حقيقية في التعامل مع مطالب الجماهير بل قد تتمادى المعارضة في هذا الإطار باستغلال الانتفاضة الشعبية لصالحها في الضغط على الحكومة حول إيجاد صيغ توافقية تضمن لها مقاعدها.
لكن على الجانب الآخر، فإن الاحتجاجات الشعبية من المتوقع تصاعد وتيرتها على عدة نقاط، فحالة التأزم الحقيقية التي يشهدها النظام خلقت تخبطا واضحا في قراراته، ولم يهدأ الشارع الأردني بعد مظاهرات الشهر الماضي احتجاجا على التعديلات السطحية لقانون الانتخابات حتى أعلن غلاء الأسعار وسط تردي الأحوال الاجتماعية ككل حتى اشتعلت النظاهرات الحالية، وهو ما قد يعد مؤشرا على فقدان النظام توازنه الذي طالما حاول استبداله بإصلاحات لا تمت من قريب أو من بعيد المطالب الشعبية إما على المستوى السياسي بتعميق مزيد من الفساد والتزوير المنتظر في الانتخابات القادمة أو المستوى الاقتصادي بالتضييق المعيشي على المواطنين.
النظام هنا أصبح عمليا لا يملك بدائل أخرى، فبعد التراجع عن قرار ارتفاع أسعار الوقود مطلع سبتمبر الماضي بقرار من الملك، عاد من جديد ليقر الزيادة المقترحة من أجل سد عجز الموازنة للعام الحالي. وسواء كان التراجع أساسه امتصاص لغضب الجماهير كما يدعي البعض فإن كل المؤشرات تفيد بحتميته أخيرا واحتمالية تصاعده بعد اقتراض الأردن مبالغ مالية من صندوق النقد الدولي وعدة دول أخرى، في نفس الوقت الذي تمتنع فيه الحكومة عن محاسبة الفاسدين أو رفع الإعفاءات الضريبية عن كبار المستثمرين كذلك وضع حد أقصى للأجور. وهو ما قد يؤكد مستقبلا أن الموجة الاحتجاجية الحالية لن تكون مؤقتة وستستمر مثلما أن السياسات الاقتصادية نفسها مستمرة.
لكن ستظل النقطة الأكثر أهمية في تواصل الاحتجاجات هو مدى التضامن النقابي والعمالي داخل أماكن العمل مع الحراك الشعبي بالشوارع، فمنذ اللحظات الأولى أعلنت نقابات المعلمين والمحامين وسائقي التاكسي إضرابا عاما، وبإعلان نقابة المعلمين عن إضرابهم تجسدت رمزية رائعة لحركة الجماهير في الشارع بعد استمرار نضال المعلمين لما يقرب من عامين من المظاهرات والاعتصامات والإضرابات انتهت بالانتصار وتحقيق المطالب، واليوم يمر حراك الشارع بنفس التسلسل.
كما أن الحركة العمالية بصفة عامة تصاعدت بحدة في الفترة الحالية بتكوين مزيد من النقابات المستقلة والروابط العمالية ليبدو المشهد أكثر قوة على مواصلة الدفع الثوري عما كانت عليه انتفاضة الخبز عام 1989 من ناحية التنظيم، ومن ثًم قدرة الاحتجاجات على تجاوز محاولات استيعاب النظام لهم بمسرحية انتخابية جديدة كما كان سابقا.
لا يمكن فصل الاحتجاجات بالأردن عن ثورات المنطقة العربية، فانتفاضة السودان اشتعلت ضد غلاء الأسعار، كذلك الضفة الغربية بفلسطين شهدت مظاهرات لم يسبق لها مثيل لنفس الأسباب، وفي مصر وبعد مساعي الاقتراض النقد الدولي من المتوقع ارتفاع معدلات الغلاء نتيجة للسياسات الاقتصادية التي مازالت تتحكم بالمنطقة، ومازالت الجماهير تثور ضدها في أزمات يدفع ثمنها المواطنون ويجني أرباحها الرأسماليون.