ثورة سوريا بين مخالب الأسد وبراثن الناتو
في هذا المقال، يتناول الكاتب الاشتراكي الأمريكي “لي سوستار” فرص وإمكانيات الثورة في سوريا في ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية التي يفرضها الغرب على نظام الأسد.
بينما يدفع القمع الوحشي من جانب النظام السوري الثورة إلى طريق مسدود، تحاول الولايات المتحدة وأوروبا التدخل لتهيئة الأوضاع بشكل يتناسب مع المشروع الإمبريالي في الشرق الأوسط.
ومنذ بداية الانتفاضة في فبراير الماضي، قُتل ما يقرب من 5 آلاف شهيد على يد قوات الأمن السورية، علاوة على الآلاف الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب. في ظل هذه الأجواء، فإن أولئك الذين يظنون أن واشنطن تكترث بحقوق الإنسان في سوريا، عليهم أولاً أن يتذكروا أن الولايات المتحدة ظلت صامتة عن الجرائم التي ارتكبتها قوات الأسد في قمع احتجاجات الأسابيع الأولى من الثورة منذ تسعة أشهر في درعا. عليهم أن يتذكروا أن وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، كانت قد وصفت الديكتاتور بشار الأسد بـ”المصلح السياسي”، وأن عضو لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، السيناتور جون كيري، والذي عمل على توطيد علاقات وثيقة مع نظام الأسد في السنوات الأخيرة، كان يجادل من أجل إعطاء بشار الأسد المزيد من الفرص.
أما اسرائيل، والتي طالما كانت تصور سوريا على مدار العقود السابقة باعتبارها تهديد خطير على المنطقة، فقد عملت على جلب دعم الولايات المتحدة من أجل الإبقاء على الأسد في السلطة للحفاظ على “الاستقرار” في الشرق الأوسط. يبدو الأمر من السطح وكأن اسرائيل تعتبر النظام السوري بمثابة عدو حقيقي يتحالف مع نظيره في إيران، لكن الحقيقة أن بشار الأسد يظل هو الخيار الأكثر أمناً بالنسبة لإسرائيل. وإذا تغير النظام أو استطاعت الحركة الجماهيرية تحقيق انتصارات هامة في صراعها ضده، فإن المستقبل قد يحمل لإسرائيل ما لا تتوقعه.
وبينما تستمر المذابح وتتسع الحركة الثورية في سوريا، استنتجت الولايات المتحدة أن أيام الأسد في السلطة معدودة، وهكذا تحول تاكتيك الولايات المتحدة إلى منظور جديد وهو الإطاحة بالأسد وتشكيل نظام يتوائم مع مصالحها. الأمر نفسه بالنسبة لأوروبا التي تندفع في ذلك بحماس بالغ بعد أن حققت ما كانت تهدف إليه في ليبيا بفضل قذائف الناتو وخدمات مستشاريها العسكريين بجانب بعض المتعاونين السابقين مع نظام القذافي.
والآن يبحث ساسة الإمبريالية كيفية التدخل بشكل تدريجي في سوريا؛ إذ أن الغزو المباشر على غرار ما حدث بالعراق عام 2003 لم يعد مطروحاً لأسباب عسكرية وسياسية واقتصادية واضحة. لكن قلقاً بالغاً صار ينتاب وزراء الخارجية والقادة العسكريين في أوروبا وأمريكا بأن يؤدي التدخل العسكري، على غرار ما حدث في ليبيا، إلى تقسيم سوريا ونشوب حرب أهلية شاملة كما جرى في لبنان من قبل.. وهكذا فإن هدف الإمبريالية الآن هو الإطاحة بحكم بشار الأسد لكن مع الإبقاء على سيطرة الدولة كما هي.
التدخل الخارجي
ونتيجة لذلك، يقتصر تدخل الغرب في سوريا إلى الآن فقط على العقوبات التي يفرضها على نظام بشار، والدعم السياسي الذي يقدمه للمعارضة السورية. وصحيح أن تركيا، وهي عضو في اتحاد الناتو، كانت قد سمحت بإقامة قاعدة “للجيش السوري الحر” المكون من المتمردين الذين انشقوا عن الجيش السوري، إلا أنه لا يوجد دليل حقيقي يثبت تلقي أولئك المقاتلين أسحة أو تدريبات كالتي حظي بها الثوار الليبيون.
وهكذا فإن محاولات التدخل تتمحور الآن حول العقوبات، كما أن القوى الغربية –والتي تعمل من خلال تركيا وجامعة الدول العربية – تأمل في انقلاب عسكري يزيح بشار الأسد ويترك جهاز الدولة القمعي دون مساس. هذا ما عبر عنه برهان غليون، القيادي بالمجلس القومي السوري (جماعة معارضة تجمعها بالغرب علاقات وثيقة)، قائلاً: “نريد أن نميز الفارق بين النظام والدولة في سوريا. لن يكون هناك فوضى كما حدث في ليبيا.. ولازال لدينا مؤسسات عسكرية قوية نريد أن نحافظ عليها”.
صحيح أن غليون أعلن من قبل أنه ضد محاولات التدخل على نمط الناتو في ليبيا، وأنه يصنع السوريون ثورتهم بأنفسهم، لكنه دعا الأمم المتحدة بكل وضوح لأن تشرف على منطقة حظر جوي لحماية اللاجئين ولتوفير مساحة حرة تستطيع المعارضة أن تتحرك فيها.. هكذا صرح بدعوة “المجتمع الدولي لاستغلال كل الفرص الممكنة للإشراف على منطقة آمنة في سوريا ولإيقاف الأعمال الوحشية التي تُرتكب في المدن السورية. نحن نرغب في منطقة حظر جوي جزئي، ولا نريد تدميراً كاملاً للقوات الجوية السورية”.
إن النموذج الأوضح لما يرغب فيه “المجلس القومي السوري” بقيادة غليون هو الحظر الجوي الذي كان مفروضاً على كردستان العراق من قبل بريطانيا والولايات المتحدة في أعقاب حرب الخليج الأولى 1991. ويروّج قادة المجلس القومي لوثيقة أعدها خبراء بريطانيون يلخصون فيه كيف يمكن أن تفرض القوى الغربية حظراً جوياً على مثل هذه المنطقة.
ليس بالضرورة أن تكون وجهة نظر غليون هي نفس ما يتبناه أعضاء المجلس القومي السوري، والذي يتكون من عناصر سابقة في نظام الأسد بجانب بعض عناصر المعارضة الوسطية. لكن ما هو مؤكد غليون هو الشخصية الأساسية الناطقة بإسم مصالح الإمبريالية في سوريا.
وعلى الجانب الآخر، هناك الكثير من الاختلافات في قلب التحالف الذي تحاول الولايات المتحدة استغلاله للتدخل في سوريا.
أولاً، تريد تركيا تجنب حرب شاملة أو حتى الدفع بغارات الناتو الجوية على سوريا، فقد يؤدي ذلك إلى تدفق اللاجئين عبر الحدود السورية – التركية. وفي نفس الوقت تطمح تركيا إلى بسط المزيد من النفوذ على سوريا التي كانت يوماً واحدة من ولايات الامبراطورية العثمانية. ومن خلال ذلك تستطيع تركيا توسيع نفوذها بشكل أكبر في المنطقة العربية ككل.
ثانياً، يبدو أنا هناك اختلافات أيضاً في جامعة الدول العربية حول مسألة التدخل. على سبيل المثال، كان وفد جامعة الدول إلى سوريا يضم ممثلين لدول الخليج، والذين هم في الحقيقة وكلاء لواشنطن، إلى جانب أحد الشخصيات البارزة السابقة في الجيش السوداني والمتهم بجرائم حرب والذي يبدو منحازاً لبشار الأسد أكثر من المصالح الأمريكية، وذلك على عكس زملائه من الخليجيين.
لكن بشكل عام، لم تكن مهمة وفد الجامعة العربية إيقاف القمع والقتل في سوريا، بل تلخصت في استكشاف بديل ترتضيه الإمبريالية عن بشار الأسد، بديل يستطيع الحفاظ على جهاز الدولة القمعي والنظام الاقتصادي القائم، على غرار ما يقوم به جنرالات الجيش والرأسماليون الكبار بعد إسقاط مبارك في مصر.
صراع متواصل
لأكثر من 40 عاماً، استمر حزب البعث الحاكم في سوريا في اللعب على التقسيمات الدينية والطائفية بين الجماهير السورية لتوطيد حكمه، وجدير بالذكر أن أغلبية القادة العسكريين ورجال الدولة من أصل علوي. وطوال تلك العقود كان يتم تصوير الدولة على أنها حامي الأقليات والحصن الذي يحتمي به العلويون والمسيحيون والدروز في مواجهة الأغلبية السنية في سوريا. كانت تلك هي الحجة التي برر بها النظام مذبحة حماة في 1981.
الأمر نفسه بالنسبة للأكراد الذين يتم التمييز ضدهم بشكل منظم، بما يتضمن ذلك حرمان أكثر من 300 ألف كردي من حقوق المواطنة. واستمر ذلك إلى أن قرر النظام تحويل سياسته تجاه الأكراد من أجل احتوائهم في محاولة لم تحظ بنجاح لسحبهم من الحراك الثوري.
إلا أنه ليس دقيقاً أن نصف الدولة السورية بأنها تمثل نظاماً “علوياً”. فنظام الأسد يرتبط بشبكة من المصالح والاستثمارات السنية، وهذه العلاقة أعيد تنظيمها في إطار الإصلاحات الاقتصادية للتحول نحو الليبرالية الجديدة والتي أعادت هيكلة الكثير من الصناعات التي سيطرت عليها الدولة تاريخياً.
هناك الكثير من المسيحيين المناهضين للنظام، وفي نفس الوقت هناك الكثير من العلويين الذين يعارضون النظام أيضاً إذ يرون أن عائلة الأسد، والتي تحكم بإسم العلويين، تقوم بالكثير من الأعمال التي لا يريد العلويون المعارضون أن تلتصق بإسمهم، كما أنها لا تعود عليهم بأي نفع.
وفي ظل حركة ثورية تتجاوز التقسيمات الطائفية والدينية بين الجماهير، يحاول النظام استعادة سيطرته مرة أخرى من خلال إثبات ذاته كنصير للأقليات. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى التفجيرات التي وقعت في العاصمة دمشق والتي وجه النظام أصابع الاتهام فيها لتنظيم القاعدة والأصوليين السنة، في حين أن النشطاء الثوريين يرون أن النظام نفسه قام بتدبير تلك التفجيرات كذريعة لتبرير قمع أكثر شراسة فيما بعد.
وبغض النظر عمن يقف وراء تلك التفجيرات، فقد أصبح واضحاً أن نظام بشار الأسد يرى أن دفع النضال الثوري للسقوط في هاوية الحرب الأهلية هو الطريق الأفضل ليكسب في صفه الطبقة الحاكمة وقادة الجيش والأقليات السورية معاً. لكن الأزمة الحقيقية لدى نظام الأسد هو أنه ليس لديه ما يكفي من قوات الجيش الموالية التي يضمن ولائها له لشن هجوم متزامن في كل أرجاء البلاد. لذلك فهو، في سعيه لإجهاض الحركة الثورية، يلجأ لإطلاق الهجمات العسكرية في مدن معينة، بينما يطلق القناصة والشبيحة لإرهاب الثوار في المدن والمناطق الأخرى.
وفي ظل هذه الضغوط، يصبح من الصعب على اللجان التنسيقية المحلية (المنظمات الثورية التي نشأت على الأرض خلال الثورة) أن تقوم ببناء بديل سياسي واضح في استقلال عن المجلس القومي السوري الذي يؤيد التدخل الأجنبي، في حين أن اليسار السوري يقع على الهامش من تلك المعادلة نتيجة صغر حجمه وانقسامه بين منظمات مؤيدة للنظام ومجموعات ثورية أخرى ضئيلة الحجم اضطرت، تحت تأثير القمع، أن تعمل بشكل سري لفترات طويلة.
أما النقابات، فهي تقع تحت السيطرة الكاملة للدولة. ولهذا السبب، جنباً إلى جنب مع التقسيمات الطائفية والدينية والقبلية والجغرافية، لم تقتحم الطبقة العاملة المعترك الثوري بشكل مستقل إلى الآن. وصحيح أن عمال الصناعة يشاركون في الاحتجاجات المختلفة، إلا أن نشاطهم الثوري لم ينعكس بشكل قوي في أماكن العمل. يختلف ذلك كثيراً عن الوضع في مصر على سبيل المثال؛ فالثورة هناك كانت مسبوقة بموجة ضخمة من الإضرابات العمالية والنضال من أجل بناء نقابات مستقلة عن سيطرة الدولة.
لقد تم تنظيم عدد من الإضرابات العامة في الكثير من المدن السورية على مدار الشهور السابقة، لكن ما كان يحدث خلال تلك الإضرابات فقط أن يتم إغلاق أماكن العمل والمحال التجارية. أما دمشق وحلب –عصب الحياة الاقتصادية والسياسية للنظام- فالتحركات فيهما أقل وأصغر كثيراً مما في المدن الأخرى، وليس ذلك بسبب الضغوط السياسية المتزايدة فقط، بل أيضاً لأن الطبقة الوسطى وأصحاب الأعمال لازالوا مترددين في القطع مع النظام والنضال ضده بجدية. هناك أيضاً قمع عنيف ضد أي احتجاجات في المدينتين سواء من خلال الشبيحة الذين يسيطرون على الشوارع أو القناصة المتواجدين فعلياً فوق كل المباني الرئيسية.
طريق الانتصار
لا شك أن دفع الثورة في سوريا إلى الأمام يعتمد على قدرة التيار اليساري داخل اللجان التنسيقية المحلية على حشد وتنظيم حركة الطبقة العاملة لتسديد ضربات اقتصادية مؤلمة للنظام الحاكم، كما فعل العمال المصريون وأجبروا مبارك على التنحي. لكن في ظل القمع المتزايد وتلويح النظام براية الحرب الأهلية، فإن هذه الخطوة تصبح بالغة الصعوبة. لكن النظام يتحكم الآن في المفاتيح الجوهرية للصراع، وإن لم يتدخل العمال بقوتهم الاجتماعية الهائلة، فإن النظام سيصبح مطلق اليد في الإجهاز على التحركات الجماهيرية في حرب استنزاف للجماهير تشمل القتل والاعتقال والتعذيب والتجويع من خلال الحصار الاقتصادي للمدن، إلخ.
إن الموقف يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم على نحو يجعل من الصعب توقع ما يمكن تحديداً أن يحدث. فقد يتصدع النظام تحت تأثير الضغوط الاقتصادية وعجزه عن كسر إرادة الجماهير. وقد تنجح الدولة في إشعال حرب أهلية شاملة تخلي الطريق أمامها لإحكام سيطرتها. وأخيراً، قد يمنح التدخل الإمبريالي الفرصة لبشار الأسد لارتداء عباءة القومية والظهور بمظهر المدافع عن الوطن ويحظى بذلك على دعم واسع للاستمرار على رأس السلطة.
لكن احتمالية صعود ثوري أوسع وأقوى تظل قائمة. وبالرغم من أن الجيش السوري الحر لا يستطيع هزيمة قوات الجيش السوري خلال المواجهة المسلحة المباشرة، لكن قد يصبح الانتصار ممكناً في حالة رفض كتل ضخمة من الجيش السوري للقمع وانشقاقهم عن النظام في بعض المدن أو المناطق الجوهرية في سوريا. والثوريون الذين يواجهون كل هذا القدر من القمع الوحشي، قد ينجحوا في تحويل دفة الصراع إلى المصانع حيث يمكن أن يحشدوا القوى الاجتماعية القادرة على شل النظام وإسقاطه.. هذا هو الطريق الوحيد لتصعيد الثورة بشكل حاسم في وجه النظام في سوريا، وليس التحالف مع الإمبريالية كما يفعل غليون ومجلسه القومي.
* تم نشر المقال لأول مرة في 10 يناير 2012 بجريدة العامل الاشتراكي الإلكترونية الأمريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً:
مقالات عن الثورة السورية