تناقضات المشهد اللبناني
يعيش لبنان، منذ انتخابات الصيف الماضي، أزمة سياسية وانقسام، يزداد تعقيداً مع كل ما يعكسه ذلك من تناقضات لبنانية داخلية، في تركيبة المجتمع الطائفية والطبقية، وما يعكسه أيضًا من المصالح والصراعات الإقليمية. بداية، فرغم أن المعارضة حصلت في انتخابات يونيو الماضي على 839371 صوتًا، بينما حصلت الموالاة على639931 صوتًا فقط، إلا أن ذلك لم ينعكس على التمثيل السياسي في البرلمان، بسبب حرمان المناطق الشيعية، التي يتركز فيها معظم جمهور المعارضة، من تمثيل موازي لتعدادهم السكاني، علما بأن آخر تعداد سكاني أجري في لبنان، قد مضى عليه قرابة ربع القرن، وهو التعداد السكاني، الذي تم بناءً عليه توزيع السلطة السياسية بين الطوائف اللبنانية الثماني عشر، وهذا يعكس إلي أي حد يصبح هامش التغيير، الذي تطرحه الانتخابات، في ظل النظام السياسي القائم في لبنان، والمعتمد بشكل أساسي، على ما يسمى “ديموقراطية التوافق”، هامش وهمي، فحتي مع فوز كتلة الموالاة بالأغلبية النيابية، إلا أن سعد الحريري، زعيم تيار المستقبل، وجد نفسه في مأزق، عند محاولته تشكيل حكومة تحظي بدعم الأقلية، هذا المأزق، لم يكن صنيعة تعنت قوي المعارضة، وإصرارهم على الثلث الضامن، كما زعم البعض من مؤيدي الموالاة، ولم يكن بالتأكيد بسبب ضعف شخصية سعد الحريري، وقلة حنكته السياسية، وإنما هي نتيجة لطبيعة النظام السياسي اللبناني نفسه، الذي يعتمد على تقسيم المناصب والسلطات السياسية بين الطوائف اللبنانية، هذا التقسيم يشمل كل نواحي الحياة في لبنان، بداية من اقتسام السلطة السياسية بين رئيس جمهورية ماروني، ورئيس وزراء سني، ورئيس برلمان شيعي، وحتي تقسيم الوظائف داخل المؤسسات العامة، مثل المستشفيات والمصالح الحكومية، بين أبناء الطوائف المختلفة، ليصبح بهذا فرصة كل شاب أو شابة في العمل، مقترنة بقدرة”الطائفة”، وزعيمها “حامي الطائفة”، على توسيع الحصة المخصصة لهم داخل الوطن، ليعلوا بذلك الإنتماء للطائفة وزعيمها، على أي انتماء أخر.
ويبدو هذا واضحاً جلياً مع سعد الحريري مثلاً، فسعد الحريري بلا أي تاريخ سياسي، على الإطلاق، وبلا أي إنجازات سياسية، سوي كونه ابن رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق، ورجل الأعمال، الذي اغتيل وهو خارج السلطة!!، ولكنه – أي سعد الحريري- أصبح زعيماً للسنة، بمجرد مقتل والده، وما ضمن له هذه المكانة، هو الرغبة في الحفاظ على زعامة الطائفة السنية داخل عائلة الحريري، بعيداً عن منافسيها من العائلات السنية الأخري مثل عائلة الصلح، وأيضاً انخراط سعد في شركات والده، فهو رئيس اللجنة التنفيذية لشركة “أوجر تليكوم” العاملة في الاتصالات، و رئيس شركة القابضة “أُمنية هولدنغز”، و عضو بنك الاستثمار السعودي، ومناصب أخري عديده، هذا كله وهو بعد لم يتجاوز الأربعين من عمره!!، هذه هي مؤهلات سعد الحريري، لكي يصبح لاعباً أساسياً في السياسة اللبنانية، وليضطلع في النهاية بمهام رئاسة الوزراء !!، فما ضمن هنا لسعد الحريري كل هذه المكانة السياسية، هو أن الطائفة السنية يجب أن يكون لها زعيم، عِوضًا عن زعيمها المغدور، وأن يكون هذا الزعيم من داخل المؤسسة الاقتصادية ذاتها، التي أسسها رفيق الحريري بالشراكة مع رؤوس أموال سعودية وفرنسية.
الأمر ذاته يتكرر في السياسة اللبنانية، فوليد جنبلاط ، فرغم الجهد الذي يحاول بذله، لكي يظهر بمظهر المدافع عن لبنان علماني، خالي من الطائفية، إلا أنه في حقيقة الأمر مثله كمثل معظم السياسيين اللبنانيين، ورثوا مناصبهم ومواقعهم السياسية عن أبائهم، فهو أيضاً لم يظهر في الحياة السياسية، إلا بعد مقتل والده كمال جنبلاط سنة 1977 مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وزعيم الدروز، ومن هنا ورث وليد عن والده الحزب، وزعامة الطائفة المحصورة داخل عائلة جنبلاط، وجنبلاط لم تكن له أبداً مواقف سياسية مبدأية، فهو معروف بمواقفه المتقلبة، فقد خاض معارك ضد المسيحيين المارونيين(القوات اللبنانية)، أعداء السوريين، ووقتها كان جنبلاط حليفاً للسوريين، ثم قام بعد ذلك بتفريغ منطقة الجبل الجنوبي من المسيحيين، وصار زعيماً أوحد للمنطقة. كما قضى على المرابطين (التنظيم المسلح للسنة في لبنان) في وقائع دامية.
الصورة لا تختلف كثيراً مع معظم السياسيين اللبنانيين، ومعظم زعماء الطوائف والأحزاب السياسية لم يتغيروا منذ توليهم مناصبهم، فنبيه بري، على سبيل المثال، تم انتخابه كرئيس لحركة أمل، منذ سنة 1980، وحتى الآن.
كل هذا يعكس، إلي أي حد يعيق الواقع السياسي اللبناني، تطور المجتمع هناك، ويحجزه خلف متاريس الطائفية والقبلية السياسية. وليس غريباً هنا، أن يكون لبنان قد عاش ثورة فلاحية سنة 1859، حملت بداخلها تمخضات وإرهاصات تقدمية، ولكنها أُجهضت بفعل أول حرب طائفية في لبنان، بين الدروز والمسيحيين، والتي دارت سنة 1860 ونتج عنها مقتل 10 ألف مسيحي[1]، وسمحت بتدخل القوات الفرنسية بحجة حماية الطائفة المارونية.
إذن فهذه هي صورة السياسة اللبنانية من الداخل، مجموعة من الساسة المستندين إلي زعامتهم الطائفية، والذين يقومون بالتفاوض حينًا، والصراع حينًا، بغرض أن يضمن زعيم كل طائفه دعمًا ومكاسب أكبر لطائفته، فيستمر دعم الطائفة له، ويتمكن هو من البقاء كجزء من النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة في لبنان. ربما تكون هذه هي المعالم الأساسية للواقع السياسي اللبناني، ولكنها ليست كافية، لتفسير نتائج الانتخابات، ولا لوضع رؤية كاملة لخريطة التفاعلات السياسية في لبنان، فهناك المزيد من التفاصيل، التي لا تقل أهمية عما تم ذكره سالفاً، منها واقع الشيعة في لبنان، وكيف أثر على طبيعة حزب الله الطبقية، وتكوينه الداخلي وسياساته.
فقد ظل الشيعة طوال الوقت هم القطاع الأكثر تعرضاً للفقر والقهر والتجاهل، من قبل الدولة اللبنانية، فدائماً ما كانت المناطق الشيعية بلا خدمات تقريبًا، وحتى في نظام التمثيل السياسي، الذي ورثته لبنان عن الاستعمار الفرنسي، فقد تم تقسيم السلطة بين الساسة المسيحيين المورانة والمسلمين السنة والدورز، وحتي بعد الاستقلال عن فرنسا، فقد كان توزيع المناصب العليا في الحكومة مجحفاً بالنسبة للشيعة، فقد احتل الموارنة 40 % من تلك الوظائف، والسنة 27%، والشيعة 3.2%، فإذا كان هذا هو الحال مع المناصب العليا التي يحتلها أبناء الطبقة الوسطي من الشيعة، فكيف هو الحال مع الطبقات الأكثر فقرًا.
يعكس هذا الوضع إلى أي حد، عاش الشيعة حالة من التهميش والفقر الشديد في لبنان، انعكست بالسلب، حتي على أبناء الطبقة الوسطي، وعلى الأثرياء من الشيعة، الذين لم يجدوا مكاناً لهم وسط التقسيم السياسي اللبناني، واستمر الوضع بهذه الصورة حتي توقيع اتفاق الطائف سنة 1989 الذي أنهي الحرب الأهلية بلبنان.
حزب الله
وسط هذه الظروف نشأ حزب الله كقوة مقاومة بالأساس، فنشأته تزامنت مع الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، ومنذ اللحظة الأولي، عمل الحزب مع فصيل من الحرس الثوري الإيراني، على تشكيل قوة لخوض حرب عصابات، ضد الوجود الصهيوني، الذي تحمل وجوده بالأساس هذه المره، الشيعة المتواجدين في جنوب لبنان، وعلى مدار سنوات المقاومة، التي بدأت أولي عملياتها في 1983، واستمرت حتى انسحاب الجيش الاسرائيلي سنة 2000، قامت المقاومة اللبنانية بما يزيد عن 6000 عملية فدائية، ضد الوجود الصهيوني، مما أكسبها شعبية طاغية بين الأوساط الشيعية، وخارجها أيضًا وحتي خارج لبنان.
لكن حزب الله لم يكن قوة عسكرية وحسب، فقد تأثر مؤسسيه بما جري في إيران من أحداث، وبالطريقة التي وصل بها رجال الدين الشيعة للحكم في إيران، وكما قال كريس هارمن، في مقاله” انتصار المقاومة اللبنانية وتحديات المستقبل”، فقد استلهم رجال الدين الشيعة في لبنان أيديولوجيتهم، بشأن تجاوز القهر والفقر، عن طريق إقامة “المجتمع الإسلامي” الذي وحد الفقراء والأغنياء، واضعاً نهاية للطمع والتفتت الناتجين عن “التأثيرات الغربية”. فقد أراد هؤلاء تحقيق التغيير، عن طريق الجمع بين الوعظ الديني، وإقامة حركة اجتماعية سياسية، تكون مهمتها الأساسية تخفيف حدة الفقر، خاصة في جنوب لبنان، والبقاع الشرقي و”دوائر البؤس حول بيروت”.[2] (2).
واعتمد حزب الله في تحقيق هذه الأيدولوجية على شبكة من الخدمات الاجتماعية والتي غطت مساحات واسعة من المناطق التي يقطنها اللبنانيون الشيعة، هذه الشبكة عملت على تخفيف حدة الفقر والبؤس الذي كان يعيشه الشيعة وفي الوقت ذاته حققت قدراً عالياً من الارتباط بين شيعة لبنان والحزب الذي مثل بالنسبة لهم الغطاء الذي يحميهم، هذا فضلاً عن الارتباط الروحي الذي صنعه جهد دعوي مستمر داخل الأوساط الشيعية، وقد بدا هذا الترابط واضحًا وقت حرب يوليو 2006.
لا يمكن تحليل تفاصيل الصراع الداخلي في لبنان، إلا كجزء من الصورة الأكمل للصراع بشكل عام في الشرق الأوسط، فاحتلال الولايات المتحدة للعراق في 2003 خلق واقعًا جديدًا في المنطقة، لم تعد الولايات المتحدة تخوض صراعها الإمبريالي، من أجل السيطرة على نفط المنطقة، عبر المحيطات والقارات فحسب، ولكنها أتت بجيوشها وأساطيلها ودعايتها وإعلامها كليةً، إلي هنا، لتباشر مصالحها الإمبريالية، لتلقي الدعم من إسرائيل، ومن دول عربية وإقليمية، تحكمها أنظمة ديكتاتورية فاسدة، بلا أي سند شعبي أو جماهيري، وجدت هذه الأنظمة، وعلي رأسها مصر والسعودية والأردن، ونظام أبو مازن، أنفسهم، في مواجهة إعصار أمريكي، يهدد كل من يقف في وجهه بالإطاحة به، وكان مشهد الإطاحة بنظام صدام حسين وإسقاط تماثيله في العاصمة، وإلقاء القبض عليه وإعدامه بعد ذلك، يؤرق مضاجع هؤلاء، وبالفعل اختارت هذه الأنظمة أن تقدم كل الدعم المطلوب منها للإمبريالية الأمريكية.
ولكن، لم يكن فقط الدعم هو ما تلقته الولايات المتحدة في المنطقة، فكان هناك أيضًا ضربات المقاومة المتتالية، وانتصاراتها، فمن المقاومة العراقية، التي أنهكت القوات الأمريكية، إلي الصعود السياسي لحماس في فلسطين، عندما فازت بالانتخابات البرلمانية مطلع 2006، وصولاً إلي حزب الله في لبنان، والذي يعد أكثر هذه الحركات المقاومة تنظيمًا وتماسكًا وقوة، على المستويين؛ السياسي والعسكري، وقد كان حزب الله، قبيل العدوان الإسرائيلي فى صيف 2006، بما يمتلكه من ترسانة صواريخ، وبسيطرته على الجنوب اللبناني، مصدر تهديد للمدن الشمالية في إسرائيل، وعنصر داعم للمقاومة الفلسطينية، وبدا واضحاً هنا، أن بؤر المقاومة تزداد في المنطقة وتهدد الخطط الإمبريالية، فالمقاومة في العراق تنهك الجيش الأمريكي، وتعوق الولايات المتحدة عن التقدم خطوات أخري، أبعد من العراق، وتقدم مثالاً سيئاً، من وجهة نظر الأمبريالية بالطبع، لما يمكن أن تفعله حركات المقاومة، بأعتى القوي الإمبريالية. والصعود السياسي لحماس يهدد مسار التسوية الاستسلامية للقضية الفلسطينية، بين الكيان الصهيوني، والسلطة الفلسطينية. وحزب الله يشكل عنصر تهديد لإسرائيل من الشمال، وإسرائيل هي الحليف الإمبريالي الأول للولايات المتحدة، فلا يمكن ترك حماس وحزب الله يهددانها، وبدا واضحاً هنا، أن صراعًا يجب أن تخوضه الإمبريالية، ضد بؤر المقاومة في المنطقة، هذا الصراع بدأ يتسبب في حالة من الاستقطاب داخل المنطقة، لتتشكل معسكرات ومحاور وتحالفات جديدة، فالإمبريالية لن تخوض هذا الصراع وحدها، فالساحة لن تخلوا أبداً من الحلفاء والمستفيدين، الاستقطاب هنا، شمل أنظمة حاكمة ودولاً، وأجنحة داخل أنظمة حاكمة، فمثلاً ومنذ الغزو الأمريكي للعراق والنظام السوري، يشعر بالتهديد من الوجود الأمريكي، فكان من الطبيعي أن يقترب تدريجيًا من قوي المقاومة، مثل حزب الله وحماس، وأن يمتد التحالف ليشمل إيران، صاحبة أعلي ترشيحات لتلقي ضربة لاحقة من الولايات المتحدة، هذا الاستقطاب الذي تصاعدت وتيرته مع الأحداث تدريجيًا، كان له أكبر الأثر، في التأثير على الوضع السياسي اللبناني الداخلي.
الموالاة والمعارضة
مع اغتيال الحريري، في 14 فبراير2005، اجتمعت قوي المعارضة وقتها، والتي ستعرف بعد ذلك بقوي 14 أذار، وأعلنت مسئولية سوريا عن حادث الاغتيال، قبل إجراء أيّة تحقيقات، وأصبح هناك ضغطًا شعبياً كاسحًا، كي يغادر الجيش السوري الأراضي اللبنانية، ضمت القوي، التي وجهت الاتهام لسوريا، كلاً من الحزب التقدمي الاشتراكي، الممثل الأهم للدروز، وما عرف بتيار المستقبل، والجماعة الإسلامية من السنة، وحزبي الكتائب والقوات اللبنانية من الجانب المسيحي، بالإضافة للتيار الوطني الحر، بزعامة ميشيل عون، قبل تحوله بعد ذلك للمعسكر الأخر، وفي الجانب الأخر، اصطفت القوي التي رفضت توجيه الاتهام لسوريا باغتيال الحريري، وكان على رأس هذه القوي حزب الله، وحركة الأمل الشيعيتين والحزب القومي السوري، والحزب الديموقراطي، ثاني أكبر الأحزاب الدرزية، وفي مواجهة ضغط القوي، التي هاجمت سوريا وطالبتها بالخروج من لبنان، قامت القوات الرافضة للاتهام بمهرجان شعبي ضخم، شارك فيه مئات الألاف يوم 8 أذار/مارس، بعنوان “شكراً سوريا”، فردت القوي الرافضة للوجود السوري بتنظيم مظاهرة عملاقة أخري، في يوم 14 أذار، وهكذا حمل كل معسكر اسم اليوم الذي قرر التحرك فيه، واستمرت المعادلة بين الطرفين حتي خروج القوات السورية في 26 إبريل 2005، وقبل الانتخابات البرلمانية، التي أجريت في نفس العام، نشب نزاع بين التيار الوطني الحر، ومعسكر 14 أذار على توزيع نسب المقاعد، فقرر التيار الوطني، بزعامة ميشيل عون، الخروج من الحلف، وخوض الانتخابات منفرداً، ولاحقاً في فبراير 2006 انضم عون لمعسكر 8 أذار.
صحيح أن التحالفين، بشكلهما الحالي، هما نتاج النظام السياسي الطائفي في لبنان، فمثلاً، المنافسة بين الحزب التقدمي الاشتراكي، والحزب الديموقراطي، على زعامة الدروز، جعلت كلاً منهم في معسكر مضاد للأخر، وكذلك النزاع بين ميشيل عون، وبين باقي الأحزاب المسيحية، مثل القوات والكتائب، على مقاعد المسيحيين في البرلمان، وعلى من سيصبح الرئيس المسيحي القادم، وهو حلم يراود ميشيل عون، منذ عودته من المنفي، هو ما أدي لانتقال عون وتياره إلي المعسكر المضاد، إلا أنه لا يمكن أبدًا، تجاهُل دور الوجود الإمريكي في المنطقة، في تفجير الصراع، أو على الأقل في تعميقه بعد ذلك.
فحتي بعد خروج الجيش السوري من لبنان، استمر النزاع والخلاف بين المعسكرين، فكان النزاع أولاً على طبيعة وشكل العلاقات اللبنانية السورية بعد الانسحاب، ثم امتد الخلاف إلي نقطة خلافية أخري، وهي تشكيل محكمة دولية، للتحقيق في حادث اغتيال الحريري، وقد كانت قوي 14 أذار تدافع عن هذا الاقتراح، في مواجهة اقتراح 8 أذار، بأن توكل القضية للقضاء اللبناني، مع دعم استقلالية هذا القضاء، ثم امتد الخلاف أكثر من ذلك، ليشمل دعوة نزع سلاح حزب الله، بدعوي أنه لم يعد هناك حاجة لاحتفاظ الحزب بسلاحه، بعد انسحاب القوات الاسرائيلية من الجنوب اللبناني.
ومع العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006 بدا واضحاً تماماً خريطة تحالفات كل معسكر تتجه إلي أين، فالحرب الطاحنة التي خاضتها إسرائيل لتحطيم قوة حزب الله العسكرية والقضاء عليه كانت جزء من الاستراتيجية التي وضعتها الإمبريالية للتعامل مع بؤر المقاومة في المنطقة، فالاستراتيجية شملت الحصار والضغط والضربات الموجعة مثلما حدث مع حماس في قطاع غزة بغرض الإضعاف والإنهاك وإفقاد حماس لشعبيتها في القطاع مما يؤدي لهزيمتها داخلياً على يد الفلسطينيين أنفسهم الذين سينقلبون عليها بفعل التجويع والحصار، وكذلك شملت الاستراتيجية أيضاً محاولات التحطيم بالقوة مثلما حدث مع حزب الله في حرب 2006 ومع قطاع غزه بعد ذلك في العدوان البربري عليها في 2008/2009.
العدوان الإسرائيلي على لبنان نجح في إبعاد خطر صواريخ حزب الله نسبياً، عندما فُرض على الحزب التراجع خلف نهر الليطاني، ولكنها لم تنجح في القضاء عليه عسكرياً أو سياسياً، وهنا أتي دور قوي 14 أذار التي تلاقت مصالحها مع مصالح الإمبريالية في الإطاحة بحزب الله سياسيا وعسكرياً أو احتواءه فتخلو لها الساحة السياسية في لبنان بالإضافة إلي أن التحالف مع الإمبريالية سيجعل المنح والمساعدات الدولية تنهال على الحكومة اللبنانية تحت بند إعادة الإعمار بعد الحرب بما سيعود بالفائدة على الشركات التي يمتلكها الساسة اللبنانيون، وهو ما حدث بالفعل وشهدناه في سلسلة مؤتمرات باريس الثلاثة.
هذا الاستقطاب الذي يحدث نتيجة الضغط الإمبريالي يؤثر بطبيعة الحال على السياسات التي تنتهجها المقاومة، فمثلما قد يؤدي الضغط إلي التراجع والتنازل من أجل الحفاظ على الوجود والبقاء، وقد يؤدي أيضاً في حالات أخري إلي الاندفع خطوة للأمام، مثلما حدث أثناء الحرب على غزة، عندما وجه نصر الله الدعوة للشعب المصري كي يخرج بالملايين ليفتح معبر رفح ويكسر الحصار المفروض من النظام المصري على غزة، وحتي أنه طالب ضباط الجيش بالتدخل لدي مبارك والضغط عليه لفك الحصار، والأمر نفسه ينطبق على ما عرف بقضية خلية حزب الله التي ألقي النظام المصري القبض عليها وأعلن أنها كانت “تخطط للقيام بأعمال تهدد الأمن القومي المصري”، وقد أعلن حسن نصر الله أن دور العنصر اللبناني سامي شهاب الذي أرسله حزب الله بالفعل،هو القيام بدور لوجيستي لتوصيل المساعدات للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، وسواء كانت الحقيقة هي ما قاله نصر الله أو كان في الأمر ما هو أكثر من ذلك، ففي كلا الحالتي فإن خطاب حسن نصر الله وقت الحرب على غزة و خلية الدعم أمران يشكلان نقلة نوعية في سياسات حزب الله، فسياسة عدم التدخل في شئون دول الجوار، تلك السياسة التي تمسك بها حزب الله لفترة طويلة مثله في هذا مثل حركات التحرر الوطني الفلسطيني لم تعد تعني إلا أن تخضع هذه المقاومة لسقف الأنظمة الحاكمة، ليس هذا فحسب وإنما تعني أن تظل المقاومة عاجزة ومكبلة في مواجهة أنظمة تبذل كل جهدها من أجل كسر المقاومة.
الاستقطاب الناتج عن الضغط الإمبريالي هنا لم يصل إلي الطبقات الحاكمة العربية فحسب – كما شهدنا أثناء حرب غزة من انعقاد قمتين عربيتين ومن وصول الخلاف إلي حد الجهر به علناً على ألسنة الحكام وفي الفضائيات- بل وصل أيضاً إلي الجماهير ذاتها، فالانقسام الشعبي حول تأييد المقاومة ودعمها شهدناه وقت الحرب على لبنان في 2006، كما شهدناه بشكل أكثر وضوحاً وعنفاً أثناء الحرب على غزة في 2008، ولا يمكن إغفال هذا السبب عندما نحاول تحليل الساحة السياسية اللبنانية والوصول لأسباب عدم تفوق المعارضة في الانتخابات البرلمانية، فالاعتقاد بأن ضغط الإمبريالية على المقاومة في فلسطين والضغط الداخلي بغرض نزع سلاح حزب الله و إعلان انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 2012 بفضل ضربات المقاومة العراقية، الاعتقاد بأن كل هذا سيؤدي بالضرورة لزيادة الدعم والتكاتف حول المقاومة هو إعتقاد خاطئ، فاللحظة الحالية شديدة المفصلية والتعقيد، فمنذ اللحظة الأولي من المواجهة بين الإمبريالية وقوي المقاومة في المنطقة والجماهير منقسمة بين مؤيد للمقاومة ومن يري عبثيتها وطائفيتها فحسب، ولكن مع زيادة الضغط الإمبريالي يتسع الانقسام، وتنشق الجماهير أكثر حتي داخل المعسكر المؤيد للمقاومة، فمن شاهد وعاصر مظاهرات التضامن في مصر مع حزب الله ولبنان في 2006 سيلاحظ الفارق الكبير بينها وبين الموقف الملتبس والمتردد في دعم حماس الذي طال قطاعات من الجماهير أثناء العدوان على غزة، وهذا يوضح لأي درجة يتسع الانقسام.
هذا الانقسام في الوقت الحالي قد ينال من رصيد المؤيدين للمقاومة من جهة، ولكنه أيضاً يحمل بداخله إرهاصات لجبهة تضامن مع المقاومة أكثر تماسكاً وصلابة من ذي قبل، والأمر مرهون بعدة عوامل، فحزب الله ورغم أنه يمثل حركة المقاومة الأهم والمكللة بالنصر أكثر من مرة في معاركها مع العدو الصهيوني، إلا أن تناقداتها الداخلية قد تأخذها في طريق المهادنة ومحاولة إيجاد صيغة وسطي للتعايش والاستمرار، صيغة ستؤدي إلي إحتواء الحزب داخل ما يسمي القوي المعتدلة، وبخاصة مع مجئ أوباما والإدارة الأمريكية الجديدة التي تعتمد أسلوب إمبريالية الحرب والسلام، والتي قد تحاول خلق فرص للاحتواء أكثر من تعزيزها للصدام وخطط الإقصاء.
فالخطر الذي نواجهه اليوم هو الإحتواء، وما يضمن قطع هذا الطريق على الإمبريالية هو ظهور قوي جماهيرية وسياسية أكثر تقدمية في المجتمع اللبناني تري التناقض الحقيقي ليس بين الطوائف وإنما بين رجال الأعمال الذين يتربعون على عرش هذه الطوائف ويحكمون لبنان لأجل مصالحهم ومصالح شركاتهم وعائلاتهم وبين الغالبية العظمي من أبناء هذه الطوائف، قوي تقدمية تري أن التناقض الحقيقي موجود بين النخبة اللبنانية الحاكمة الغارقة في الملايين – مثل سعد الحريري رئيس الوزراء الحالي والذي يندرج اسمه ضمن قائمة أغني أغنياء العالم- وبين فقراء لبنان ومواطنيه العاديين الغارقين في المعاناة والمشاكل المعيشية اليومية التي يعانون منها منذ سنوات والتي تُبذل الوعود لحلها ولكن لا تُبذل الجهود لتحقيق ذلك.
صحيح أن لبنان يعاني من هزال في وضعية الطبقة العاملة –وتحديداً الطبقة العاملة الصناعية- هناك بسبب عدم رواج النشاط الصناعي بلبنان، إلا أنه أصبح هناك تحركات من قطاعات أخري تندرج تحت مظلة الطبقة العاملة أيضاً، فأخبار الإضرابات صارت أكثر تواتراً في الأونة الأخيرة، فمن إضراب المعلمون إلا العاملين بمحطات الكهرباء وكذلك عمال النقل وغيرها من البؤر النضالية، هؤلاء مصالهم الحقيقية تتعارض مع مصالح النخبة المالكة للشركات والتي تتبني سياسات السوق والانفتاح الاقتصادي وهي ذاتها التي تريد الإطاحة بالمقاومة اللبنانية إرضاءً للإمبريالية وإخلاءً للساحة السياسية من منافس سياسي بحجم وثقل حزب الله، فقراء لبنان لن يجنون من وراء هذه السياسات إلا مزيد من الفقر والمعاناة، هؤلاء….. فقراء السنة والشيعة والدروز والمسيحيين يعانون جميعاً بلاتفرقة هذه المرة، هؤلاء ربما يشكلون أملاً في أن يصبح في لبنان قوي تقدمية متماسكة، وفي الوقت الذي تناضل فيه هذه القوي من أجل حقوقهم فهم يَضربون في الوقت ذاته القوي المحتشدة خلف مشروع الإمبريالية، هذه القوي التقدمية حال ظهورها قد تؤدي إلي إحراج قادة حزب الله ودفعهم نحو مزيد من الجذرية للحفاظ على شعبيتهم، وستكون هذه القوي التقدمية وقتها هي الحليف الطبيعي للمقاومة بدلاً من الاعتماد الكلي على التحالف مع أنظمة قد تترك المقاومة عارية في أي لحظة إذا ما بدا أن هناك فرصة للتصالح مع الإمبريالية أو التهدئة معها.
هذا لا يعني بالتأكيد أن الأمور ستسير بشكل ميكانيكي، ولكن القيام بهذه المهمة يحتاج إلي بديل يساري مناضل قادر على لعب هذا الدور، فهل تتمخض الأيام القادمة عن هذا البديل، هذا ما ستجيبنا عنه الأحداث والوقائع.
هوامش
[1] ويلات وطن, روبرت فيسك, شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت
[2] انتصار المقاومة اللبنانية وتحديات المستقبل، كريس هارمن، ترجمة نور منصور، مركز الدراسات الاشتراكية، مصر.