تقرير جولدستون: أسرار التأجيل والتراجع
شهدت الساحة الفلسطينية الفترة الماضية جدل عنيف حول تقرير جولدستون، الذي عمدت سلطة أبو مازن إلى تأجيل مناقشته في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فكان هذا عاملاً إضافياً في افتضاح تواطؤها، ثم حدث التراجع عن التأجيل، لماذا التأجيل؟ هل هو خطأ غير مقصود كما تدعي السلطة؟ وبالتالي التراجع يعد تصحيحاً للخطأ؟ أم كانت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية هي سبب التأجيل؟ وبالتالي ما هي أسباب التراجع؟ ماذا عن التقرير نفسه؟ هل يعد تقرير نزيهاً يصور انتهاكات إسرائيل خلال الحرب على غزة، كما يصوره البعض؟ ومن هو جولدستون واضع التقرير؟
جولدستون وتقريره
القاضي «ريتشارد جولدستون»، رئيس لجنة التحقيق، يهودي، انضم إلى الحركة الصهيونية في جنوب أفريقيا، قبل إعلان دولة إسرائيل، وصرح بأنه كيهودي، فإنه مرتبط بإسرائيل، وإن عبر عن استياءه من تصرفاتها. وقد جاء تقريره ليدين الطرفين، إسرائيل وحماس على وجه السواء، بجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما لا يجب أن يغيب عنا، ونحن نتحدث عن الموقف منه، وإن كان لا يعني، كذلك، تأييد تأجيله، وذهابه طي النسيان.
يصف التقرير، الذي اقترب من 600 صفحة، العملية العسكرية الإسرائيلية، الرصاص المصبوب، بأنها «استهدفت شعب غزة بأكمله»، من أجل «عقاب» السكان. كما اعتبر جولدستون استمرار الحصار وإغلاق المعابر، عقوبة جماعية، تمثل جريمة ضد الإنسانية.
أكد تقرير لجنة جولدستون، أن إسرائيل انتهكت وثيقة جنيف، حيث يتضمن التقرير حالات قتل عمد، مع سبق الإصرار، وتعذيب، وتدمير للممتلكات، و36 عملية عسكرية إسرائيلية، تم فيها استغلال الفلسطينيين كدروع بشرية. والجيش الإسرائيلي متهم، في سبعة حوادث متكررة، بإطلاق النار على مدنيين، أثناء فرارهم من النار، بناءً على تعليمات من القوات الإسرائيلية، إلى الملاجئ، وهم يرفعون رايات بيضاء، كذلك قصف مسجد على مئات المصلين، دون وجود أية دلائل على وجود مسلحين في المسجد. كما ذكر التقرير حوادث قصف منشآت هيئة غوث وتشغيل اللاجئين، أونروا، والمستشفيات الفلسطينية، بالفوسفور الأبيض. على الرغم من عدم وجود أية قرائن لوجود مسلحين بها. كما ذكر التقرير، أن بعض الحوادث تحمل مسئولية جنائية شخصية، ولكن لا توجد دلائل قانونية!.
اعتبر التقرير، في الوقت نفسه، قذائف المقاومة على المستوطنات، جرائم حرب، أحصى التقرير «اعتداءات»الفصائل، التي وصفها التقرير بـ»المنظمات الإرهابية» على المستوطنات، حيث بلغت 8000 قذيفة، منذ 2001 !!! ليس هناك أي تفسير لرجوع التقرير فجأة، ثمانية أعوام للوراء، عاثت فيهم إسرائيل فسادًا! وقد ذكر التقرير أن الخسائر كانت طفيفة، لكنه أكد على الآثار النفسية السلبية على المستوطنين! وذكرالتقرير أن الاحتفاظ بجلعاد شاليط، مخالف للمواثيق الدولية!
عبرت إسرائيل عن استياءها من التقرير الذي ساوى بينها، وبين ما أسمته بـ»الإرهاب»، وبررت عدم تعاونها ، رسميًا، مع اللجنة، بأنها «لجنة منحازة».
وقد أوصى أعضاء اللجنة بتحويل التقرير إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وإلى مجلس الأمن الدولي. كما توجهوا إلى الدول الأعضاء من أجل رفع دعاوى قانونية، في كل دولة، على حدا. لكن مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تأجيل النظر في تقرير لجنة جولدستون إلى مارس 2010 المقبل، بعد طلب من السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة إبراهيم خريشة.
أسباب التأجيل
ثم جاءت ردود الفعل الغاضبة من قبل الكثير من الفصائل والشخصيات الفلسطينية من موقف السلطة، الذي برره السفير خريشة بأن مناقشة التقرير ستعوق المفاوضات! قائلا: «نحن لا نريد أن نضع العقبات أمامهم». وأضاف أن «تأجيل النظر في القرار قد يفسح المجال، أمام الفلسطينيين والإسرائيليين، للتوصل إلى تسوية أخرى بشأنه، منها إعداد الطرفين لهيئتين مستقلتين، تحققان في جرائم الحرب المحتملة»!
بينما أكدت صحف أمريكية، نقلا عن مصادر دبلوماسية، تعرض السلطة الفلسطينية لضغوط أمريكية قوية، من أجل اتخاذ هذا الموقف. حيث تلقى أبو مازن مكالمة هاتفية من هيلاري كلينتون، تطالبه بذلك. كما تحدث مصادر أخرى عن ضغوط إسرائيلية اقتصادية على مصالح أبو مازن الشخصية، حيث كان هناك تهديد بعرقلة عمل «شركة اتصالات» فلسطينية جديدة، مشارك في ملكيتها أبن أبو مازن.
كما تردد في كثير من وسائل إعلام عن وجود تسجيلات لدى إسرائيل تؤكد طورت عباس في الحرب على غزة. وجاءت تصريحات وزيرة خارجية إسرائيل ليبرمان تؤكد مطالبة سلطة رام الله لإسرائيل بالاستمرار بالحرب.
في الإطار ذاته يقول المؤرخ الفلسطيني، عبد القادر ياسين، معلقًا، أن موقف أبو مازن لم يكن مستبعدًا، في ضوء ما نشر، من أن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيجدور ليبرمان، كان قد هدد أبو مازن، خلال لقاء الأخير بنتنياهو، في نيويورك، بأنه إن لم يدفع في اتجاه سحب تقرير جولدستون، سوف تقوم إسرائيل بالكشف عن محادثات مسجلة، بالصوت والصورة، تثبت قيام عباس، وبطانته، بتحريض إسرائيل على سرعة الإجهاز على قطاع غزة، أحد هذه التسجيلات تم بين عباس وباراك، وآخر للطيب عبدالرحمن، سكرتير الرئاسة الفلسطينية، يطلب من مسئول إسرائيلي، عبر الهاتف، سرعة احتلال جباليا وبيت لاهيا. وإن كان لدى السلطة ما تقوله، لأعلنت تكذيب ذلك، على الملأ.
التراجع
ثم جاء التراجع عن قرار تأجيل التصويت، وبالفعل تم التصويت، و تبنى مجلس حقوق الإنسان التقرير بغالبية 25 صوتاً، مقابل 11 صوتاً امتنعوا، بينهم بريطانيا، و صوت 6 ضد التقرير، من الأعضاء المجلس الـ47. ورغم تراجع السلطة الفلسطينية عن التأجيل لم تقوم إسرائيل بتنفيذ تهديداتها، ولعل ذلك يرجع إلى أن فضح أبو مازن، في تلك المرحلة، لا يخدم مصالح إسرائيل، حيث لا يوجد بديل فلسطيني «معتدل»، يمكن الاعتماد عليه غير أبو مازن، وحاشيته. كما أن تقرير جولدستون، الذي سيواجه الفيتو الأمريكي عند عرضه على مجلس الأمن، لن يكون له نتائج عملية تضر بإسرائيل، حتى لو تم استخدام التقرير في المحكمة الجنائية الدولية، لن يؤثر على إسرائيل، التي سبق وأن صدر ضدها حكم من نفس المحكمة في موضوع جدار الفصل العنصري، ولم يغير هذا من موقف إسرائيل. وبالتالي التقرير أقل ضرراً بالنسبة لإسرائيل من خسارة «الشريك الفلسطيني، وخاصة إذا كان كل المطلوب من إسرائيل هو تشكيل لجنة تحقيق إسرائيلية، وينتهي الملف، بغض النظر عن نتيجة التحقيق، وهو ما يؤكده تصريح جولدستون ذاته، خلال الأيام الماضية، حيث قال: إذا قامت الحكومة الإسرائيلية بتشكيل لجنة لإجراء تحقيق سيكون هذا نهاية الموضوع، هنا سيكون التقرير قد انتهى فيما يتعلق بإسرائيل».
وأخيراً يمكن القول أن قرار التأجيل لعب دوراً مرحلياً في تأجيل المصالحة الفلسطينية، وفقاً للصيغة التي وافقت عليها كلاً من حماس وفتح. ثم جاء التراجع بعد التوصل إلى صيغة جديدة، يصعب على حماس الموافقة عليها، لأنها تخض لشروط الأمريكية. وهكذا ستستمر معاناة الشعب الفلسطيني، سيتمر الحصار، أما مجرمي الحرب الإسرائيليين فكالعادة سيكونون فوق القانون والمحاكمات، التي دائماً من نصيب الضعفاء فحسب.