بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في الإستفتاء الأخير
تركيا.. بين مطرقة وسندان

الصورة من أونلي بوليتيكس
مقدمة
بعد النجاح الذي حققة حزب العدالة والتنمية فى تركيا فى انتخابات 2007 أدرك أردوغان عمق قوتة السياسية فى البلاد والتأيد الساحق له، فقرر أن يقتحم آخر، وأهم معاقل العلمانيين فى تركيا (مؤسسة القضاء والجيش) وذلك بتعديلات دستورية تتضمن إعادة النظر في 26 مادة في الدستور و4 مواد مؤقتة، وتتضمن إصلاحات ديمقراطية متعلقة بالحقوق النقابية للموظفين وحماية الطفل، وإنشاء آلية لفض النزاعات بين المواطن والحكومة. كما تتضمن التعديلات المقترحة مطلباً قديماً للاتحاد الأوروبي، يقضي بإنشاء ديوان للمظالم، من دون ضمان استقلاليته، وآخر يتعلق بالعمل الإيجابي بالنساء مختلف قليلاً عن النص الموجود في الدستور الحالي. الأهم فى هذه التعديلات إعادة هيكلة المحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلى، فيتم تعيين اعضاؤه من جانب البرلمان أو رئيس الجمهورية، وبذلك تنتهى هيمنة المؤسسة العسكرية التي كانت تختار من قبل كل افراد السلطة القضائية.
لم تكن هذه هى البداية كانت البداية الحقيقية عندما أظهر أردوغان موقفاً حازماً من حرب غزة، حتى أن اسرائيل أبدت قلقها من تحركات أردوغان القوية التي تسببت تهم بكثير من الحرج، ثم مؤتمر دافوس الذي انسحب منه بعد مناقشة حادة مع الصهيونى شيمون بيريز ثم استقبال عشرات الألاف من الأتراك له فى مطار اسطنبول تأييداً له على موقفة تجاة المقاومة الفلسطينية ثم اخيرا جاءت مجزرة سفينة الحرية التركية ورد الفعل التركى القوى والداعم لكسر حصار غزة.
عرف اردوغان جيدا ان المزاج النفسى للجماهير فى الشرق الوسط مرتبط بالمواقف السياسية من الصهيونية فاصبح اردوغان عبر مواقفة الداعمة للمقاومة بطل قومى ليس فقط فى اعين الشعب التركى بل ايضا لكل الجماهير العربية.
وقد نجح بذكاء شديد؛ فمزيد من المواقف السياسية الداعمة للمقاومة وكسر الحصار على غزة ورفضة العقوبات الدولية على إيران يقابله ذلك بتأيد شعبى واسع النطاق يستطيع استغلاله لدعم موقفه السياسي الداخلى فى المعركة ضد العلمانيين، ولكن هذة المرة عبر التصويت على التعديلات الدستورية التي أجريت يوم الأحد الماضى؛ حيث توجة مايقرب من 50 مليون تركى وسط مشاركة بلغت 77 في المئة. وتشير النتائج الرسمية الى أن 58 في المئة من الناخبين وافقوا على الاصلاحات مقابل رفض 42 في المئة، وتظهر خرائط انتخابية تركزاً للعلمانيين المعارضين للاصلاحات على ساحلي بحر ايجة والبحر المتوسط وهيمنة المحافظين المتدينيين المؤيدين للاصلاحات في منطقة الاناضول التي تمتد حتى الحدود الشرقية لتركيا. أما بالنسبة للأقلية الكردية الذين يعانون منذ زمن طويل من التمييز من جانب الدولة تجاههم التزموا فيما يبدو بمقاطعة الاستفتاء.
أطراف الصراع فى تركيا
العلمانيين
بدأت الحركة العلمانية التركية عام 1839 تحت سلطة الدولة العثمانية، ثم تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال اتاتورك الذي بدأ بسلسلة تعديلات دستورية أهمها الغاء منصب الخليفة، ثم فصل الدين عن الدولة وأخيراً إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية. وفى إطار التوجه نفسه استمدت تركيا قوانين سويسرية عام 1926 وألغيت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية في قضايا الأحوال الشخصية، بما في ذلك منع تعدد الزوجات وحق المرأة المسلمة في الزواج من غير المسلم، وتغيير دينها، والمساواة بين الجنسين في الميراث، وحق الأب في الاعتراف بولده الذي يولد خارج إطار الزواج. قام أتاتورك بتنشيط وإحياء الحس الوطني التركي وهذا ما أدى إلى انتهاك حقوق الأقليات العرقية والدينية، كالأكراد والأرمن والسريان الأرثوذكس. واتبع أتاتورك، ومن خلفه من قادة، سياسة دمج الأكراد أو كما سماهم "الأتراك الذين يعيشون في الجبال". وراح ضحية هذه السياسة 30 ألف شخص.
يعود نجاح أتاتورك في هذا التحديث الجذري إلى عنفوان سياسته العسكرية. كانت شعبيته عارمة وكان الأتراك يعتبرونه بطلاً وطنياً. الأهم من ذلك هو موجة الشوفينية التي اجتاحت العالم وقتها. العلمانيون فى تركيا، والذي يقود مسيرتهم السياسية الأن حزب الشعب الديموقراطي، المدعوم من الجيش، لم يستطع سوى حشد شعبية ضئيلة جداً قوامها الأساسي يتمثل في الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، تلك الشريحة التي تخشى أن يتسلل الدين الى حياتها الخاصة فيفقدها الكثير من امتيازتها.
جاءت الأزمة الأقتصادية فى نهاية التسعينات ليصل معدل التضخم الى 60%، وفقدت الليرة التركية 40% من قيمتها امام الدولار الأمريكى، ووصلت نسبة الدين الخارجى الى 100 مليار دولار والدين الداخلى الى 63,6 مليار دولار. الأمر الذي أدى إلى إغلاق المئات من المصانع والمحال التجارية، فتفاقمت الأزمة وزاد عدد العاطلين إلى 2 مليون عاطل. رافق تلك الأزمة موجة جديدة من الضرائب التي أثقلت بشكل أكبر على الشعب التركى. أهم اسباب الأزمة هو الترف الذي تعيش بة السلطة السياسية عبر مؤسساتها العلمانية؛ فعدد سيارات رجال الحكومة فى تركيا خلال 1999 وصل الى 86,338 سيارة تستهلك صيانتها ملايين الدولارات سنوياً، ووصل عدد الفيلل الى 235380 فيلا فاخرة، هذا الى جانب الإنفاق العسكري الضخم الذي يعزز من سلطة المؤسسة العسكرية فى تركيا . أما الأزمة السياسية التي تمثلت فى عدم إقناع الاتحاد الأوروبي بالانضمام إليه، أما على الصعيد الاجتماعي، فمارس العلمانيون حرباً شرسة على المحجبات ومنعوهم من دخول الجامعات والمؤسسات الحكومية.
حزب العدالة والتنمية
هذة الأزمة الاقتصادية و السياسية التي تمثلت فى فشل المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، كانت بوابة عبور الإسلاميين نحو السلطة فى تركيا؛ فحكومة أربكان الإسلامية المنتخبة ديموقراطيا عام 1997، والتي انقلب عليها الجيش وأطاح بها. ثم جاء حزب العدالة والتنمية عام 2001، كانشقاق عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يمثلة أربكان. هذا الحزب جاء من مجموعة الشباب المعتدلين داخل الحزب فتبنى أفكار من أهمها رأسمالية السوق والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعدم المساس بأسس الدولة العلمانية.
فمنذ عام 2002 إلى انتخابات 2007 استطاع أردوغان تحقيق مكاسب سياسية ضخمة، تمثلت فى حشد طبقات المجتمع بكافة أشكالها أمام صناديق الاقتراع، فحظي الحزب بثقة وتأييد رجال الأعمال على خلفية شعارات الحزب الداعمة للخصخصة وزيادة الاستثمارات. بجانب نجاح أردوغان فى خفض معدل الديون ومعالجة الأزمة الأقتصادية. كما حظي أردوغان بتأييد قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي تسعى للعب دور إقليمى مهم إلى جانب معاداتها للكيان الصهيوني، وخلق توازن سياسى تجاه الإمبريالية، وتحقيق الحلم القديم بالانضمام للاتحاد الأوروبي، كما حظي أخيراً بتأييد الغالبية العظمى من الطبقات الفقيرة عبر تحقيق خفض نسبي في معدل البطالة.
سياسياً، نجح أردوغان أيضاً فى تغيير كثير من القوانين المقيدة للحريات وتعديل كثير من القوانين الانتخابية. وعلى المستوى الاقتصادي، استطاع أردوغان معالجة الأزمة الاقتصادية، فتضاعفت الصادرات التركية ثلاث مرات وتضاعف مستوى دخل الفرد من 250دولار إلى 550دولار، وتم تخفيض الديون الخارجية لتركيا المستحقة لصندوق النقد الدولى من 23 مليار دولار الى 9 مليار دولار. أما اجتماعياً، فلم يحاول أردوغان سن أية قوانين دينية بل دعا دائما إلى احترام القوانين ومؤسسات الدولة العلمانية. وبالتالي، وقف الجميع يرسم علامات الإعجاب والانبهار بأردوغان، الذي نجح فى حل المشاكل السياسية والأقتصادية والسياسية والأجتماعيى لتركيا.
أردوغان وسياسة تركيا الخارجية
تعد تركيا أهم حليف سياسي للغرب فى المنطقة، ترجع هذه الأهمية إلى البعد الجيواستراتيجى لتركيا، فتركيا هى المسئولة عن سد كل المنافذ أمام الاتحاد السوفيتي فى تقدمه نحو الشرق الأوسط طيلة الحرب الباردةز وتُوّج هذا التحالف بانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. هذا التحالف ربما لم تتذكرة واشنطن جيداً بعد انتهاء الحرب الباردة والسيطرة الأمريكية على العالم، لكن واشنطن عادت لتتذكره أثناء الحرب على العراق وتعقيدات وجودها فى المنطقة. ومن جانب آخر، تدعم واشنطن أنقرة جيداً، حيث تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة ارهابية، وتدعم انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، لخلق توازن استراتيجي بين القوى التقليدية فى أوروبا، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لصالح قوة جديدة حليفة لواشنطن هى تركيا وبولندا.
على المستوى الإقليمي، تلعب تركيا دوراً هاماً فى الشرق الأوسط، فمن ناحية تعارض أية عقوبات على إيران وسوريا، ومن ناحية اخرى، تظهر باعتبارها أكبر الداعميين لكسر الحصار على غزة، ففى حالة رفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إليها فسيصبح الشرق الأوسط هو المنفذ السياسي والأقتصادي لتركيا.
أما بعد الاستفتاء التاريخى الذي فاز به أردوغان ضد خصومة العلمانيين، رحبت واشنطن والاتحاد الأوروبي بالنتائج؛ فالغرب ينظر إلى العلمانيين أنهم قد أدوا دورهم على خير وجه فى وقت الصراع مع الاتحاد السوفيتي. أما الآن فهم يتطلعون إلى حكومة تستطيع حل الأزمة الاقتصادية، وفتح السوق التركي أمام المؤسسات الأمريكية والأوروبية، بجانب حل مشاكل الإمبريالية فى الشرق الوسط عند الضرورة، ومثال على هذا الدور التركي الهام أثناء حرب العراق الأخيرة، بالإضافة إلى حليف ديموقراطي لتحسين صورة واشنطن فى الشرق الأوسط، لكي يحدث هذا، فلا بد أن تكون هناك حكومة يلتف حولها الشعب التركي، وليست حكومة معزولة من العلمانيين، لذلك أصبح أردوغان هو حليف الغرب الأقوى.
التناقض التركي ودور اليسار الثوري
لقد نجح أردوغان داخلياً، وأصبح مثالا يُحتذى به خارجياً، فالإخوان المسلمين وحماس وقطاع كبير من الجماهير العربية باتت تنظر إلى تجربة الإسلامين فى تركيا بعين الإعجاب. ولكن لنمعن النظر قليلاً؛ فأردوغان يدعو الى الديموقراطية ويخوض عليها معارك مهمة ضد المؤسسة العلمانية وفى نفس الوقت يقتل ويشرد الآلاف من الأتراك؛ فالحكومة التركية مسؤولة عن تدمير 3000 قرية تركية، بالإضافة إلى كل الذين يُعتقلون ويُعذبون فى المعتقلات والسجون التركية. كما أن أردوغان يرفض دائماً الاعتراف بحقوق الأكراد الذين يبلغ تعدادهم السكاني أكثر من 20 مليون نسمة بنسبة تبلغ 3,1% من إجمالي السكان.
تناقض آخر يظهر في الشعارات الجذابة التي يرفعها أردوغان ضد الكيان الصهيوني، في حين أنه يظل الحليف الأكبر للكيان الصهيونى على المستوى الاقتصادي والسياسي. ومن جانب آخر تركيا هى بوابة الدخول للعراق، والتي كافأتها واشنطن باستثمارات تركية فى العراق تقدر 40 ملياردولار.
التناقض الأهم هنا هو اتساع الهوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، فأردوغان عندما يتوسع إقليمياً فإنه ينظر إلى الكعكة التي يقدمها لرجال الأعمال من خلال حجم الصادرات التركية للخارج وفتح أسواق جديدة لتركيا. كم أنه يعلن دائماً عن انحيازه لسياسات الخصخصة والتعاون الأقتصادى مع صندوق النقد الدولي، هذه السياسات التي أدت إلى انهيار دول أمريكا الجنوبية والنمور الأسيوية والأزمات العالمية المتكررة.
أما بالنسبة لليسار الثورى فى تركيا، فيجب عليه مقاطعة مثل هذه الاستفتاءات. ولكن المقاطعة هنا يجب ان تكون عبر معركة دعائية كبيرة ودؤوبة قبل وأثناء وبعد الاستفتاء. جوهر هذة الدعاية هو ان اليسار الثورى يوافق وبقوة على أى تغييرات ديموقراطية؛ فنحن ضد ديكتاتورية ورجعية المؤسسة العلمانية التركية. لكن اليسار الثوري يجب أيضاً أن يعلن موقفه من العلمانية؛ ففصل الدين عن الدولة ليس من ضرورات تقدم الشعوب، ولا يعني هذا الفصل منح المزيد من الحريات السياسية طالما ظلت سلطة اتخاذ القرار الاقتصادي بيد طبقة رجال الأعمال والمسثمرين. كما أن العلمانية ليست جيدة طيلة الوقت ومجردة عن كافة السلبيات، وليس من الضروري أن يكون المرادف الطبيعي للعلمانية هو الديمقراطية. العلمانيين فى الجزائر وتركيا، على سبيل المثال، يُطبقون القوانين العلمانية رغم رفض الأغلبية لها. وعلى الجانب الآخر، فالنظم الحاكمة في باكستان والسعودية يضطهدون شعوبهم باسم الدين.
ومن زاوية أخرى، فإن الإصلاحات الديمقراطية التي يدشنها أردوغان، لن تعني شيئاً دون أن تشمل الأكراد، ودون أن تشمل الفقراء، ودون أن تتضمن فض هذا التحالف الرجعي مع الاستعمار الصهيوني-الأمريكي. فجوهر دعاية اليسار الثورى فى تركيا يجب أن تعتمد على ان كل هذه الاصلاحات السياسية والأقتصادية التي يقدمها أردوغان هى جزء من الصراع بينه وبين العلمانين على مزيد من السلطة والثروة وليس من أجل مصلحة الجماهير.
أخيراً، منذ شهور قليلة، كان اليسار الثورى يقف بجانب العدالة والتنمية فى مظاهرات تنديداً بمجزرة سفينة الحرية، يهتف بسقوط اسرائيل ودعم المقاومة. نعم هذه مواقف مهمة على اليسار الثورى ألا يفرّط بها، ولكن يجب علينا وسط هذه التجمعات الجماهيرية ألا نكتفى بدعايتنا فقط بل أيضا أن نفضح كل المواقف الرجعية للقوة الأخرى التي تريد خداع الجماهير برفع شعارات الموت لاسرائيل وهم من جانب آخر يتفقون على الصفقات العسكرية مع جيش الكيان الصهيوني.
احمد حامد