بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

تركيا: الليبرالية الجديدة على الطريقة الإسلامية!

استطاع حزب العدالة والتنمية، المحافظ دينيا والليبرالي اقتصاديا، تحقيق فوز ساحق في الانتخابات البرلمانية التركية في يوليو الماضي. إذ حصل على 341 مقعدا في البرلمان مما منحه أغلبية مكنته من تشكيل الحكومة بشكل منفرد دون الحاجة إلى دعم الأحزاب الأخرى، ليكمل “رجب طيب أردوجان” مسيرته، التي بدأت منذ انتخابات نوفمبر 2002، كأول رئيس وزراء إسلامي لتركيا.

 

كما استطاع الحزب استخدام أغلبيته في البرلمان – الذي ينتخب الرئيس مرة كل سبع سنوات – ليضع من يشاء على مقعد الرئاسة، وقام بترشيح وزير الخارجية “عبد الله جول” ليقع عليه الاختيار ويصعد لمنصب الرئيس، حتى بعد مقاطعة حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة العلمانية) لجلسات اختيار الرئيس. وأصبح “جول” بذلك الرئيس الحادي عشر لتركيا وأول رئيس من حزب ذو مرجعية دينية.

 

وفي معركة رئاسة الجمهورية خرج حزب العدالة والتنمية ظافرا من الزوبعة السياسية التي أثارها ضده المتحدثان الرسميان باسم الأتاتوركية في البلاد (المؤسسة العسكرية وحزب الشعب). لكن هذه المعركة أثارت غبارا كثيرا وطرحت أسئلة أكثر حول ما يوصف بالتناقض العلماني-الإسلامي في تركيا وغيرها من البلدان الإسلامية. وهو أمر يستحق النظر والتحليل.

تناقضات المعارضة العلمانية

الوتر الرئيسي الذي لا يكل قادة الجيش وزعماء المعارضة العلمانية من العزف عليه هو خطر الأصولية الإسلامية التي يفترضون أن حزب الحكومة، أي حزب العدالة والتنمية، يمثلها، مشيرين إلى الخلفية الإسلامية التي ولد الحزب في رحمها؛ فهو الوريث الشرعي لحزب الرفاة الإسلامي. وتري النخبة العلمانية أن بقاء حزب ديني في السلطة يمكن أن يضرب أسس الدولة العلمانية التي أسسها “مصطفى كمال أتاتورك” في 1923، كما يمكن أن يعود بتركيا إلى ظلمات الحكم الثيوقراطي من خلال العمل على تنفيذ “برنامج إسلامي غير معلن”.

 

لكن على أي أساس كان الجيش وحزب الشعب يستندان حين ملآ الدنيا ضجيجا خلال حملتهما ضد العدالة والتنمية؟ نعود إلى فترة الدعاية الانتخابية التي سبقت انتخابات يوليو البرلمانية لنلاحظ الاختفاء التام للخطاب الإسلامي (الخطاب الذي يستثير حفيظة الجيش والمعارضة) لدى الحزب ليحل محله خطاب “حديث” يؤكد على احترام القيم والمبادئ العلمانية. وهو أمر مفهوم إذا ما تذكرنا أن الحفاظ على علمانية تركيا عنصر ضروري من عناصر تزكية انضمام الدولة للاتحاد الأوروبي، وهو هدف تتشوق حكومة “أردوجان” لتحقيقه.

 

بل نعود إلى ما هو أبعد من الانتخابات. فسنجد أنه على الرغم من تشكيل حزب العدالة والتنمية للحكومة منذ  2002، أي أنه يحكم باستمرار على مدى خمس سنوات، إلا أنه حتى الآن لم “يكشف” عن الخلفية الإسلامية التي نشأ فيها! إذن لا وجود لخطر الأصولية الإسلامية في تركيا، وكل تلك الثرثرة حول هذا الخطر لا معنى عملي لها.

 

وأثناء الحملة ضد حزب العدالة كان الجيش وحزب الشعب يملآن الساحة ضجيجا بتصريحاتهما بأنهما “لن يسمحا لرجل زوجته ترتدي الحجاب بأن يصبح رئيسا للبلاد”، مشيرين إلى السيدة “خير النساء” زوجة “عبد الله جول” التي ترتدي الحجاب الذي يعتبرونه – هم العلمانيون المتطورون – رمزا إسلاميا مثيرا للاستفزاز. وهو ما يعني أن الجيش كان يهدد، من طرف خفي، بالانقلاب على الحكومة، ويحاول تذكير جول وأردوجان بتاريخه، حيث سبق أن أطاح بأربع حكومات منتخبة منذ عام 1960. وأصبح يلوح في الأذهان إمكان تكرار سيناريو عام 1997، عندما أخرح العسكريون حكومة “نجم الدين أربكان” ذات القيادة الإسلامية (حزب الرفاه) من السلطة.

 

وهكذا، فإن سعي العسكر والعلمانيين للحفاظ على الديمقراطية والعلمانية دفعهم إلى التهديد بالانقضاض على الديمقراطية! وهو موقف في منتهى التعاسة السياسية أتاح لحكومة أردوجان السير دون مواجهة أي معارضة أو عقبات في طريق تحرير الاقتصاد الذي تتلهف الحكومة لتنفيذه بحماسة شديدة، أيضا لأنه أحد شروط الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي.

 

فبفعل تناقضات المواقف وتضارب السياسيات، لم تستطع المعارضة التي يقود مسيرتها حزب الشعب المدعوم من الجيش جذب تأييد سوى أجزاء من الطبقة الوسطى التركية، أو بالأحرى الشريحة العليا المثقفة منها التي تخشى أن يتسلل الدين إلى الحكومة ومن ثم إلى حيواتهم الخاصة ليختزل حريات ثمينة يحظون بها. خرجت هذه الفئات بالفعل للشارع لتطالب الجيش بأن “يقوم بدوره” ويتدخل بسرعة ضد الحكومة، كما أعتاد أن يفعل في الخمسين سنة الأخيرة، وليدافع عن أسلوب حياتها في مواجة الأصولية الإسلامية التي يظنون أنها سوف تغزو المجتمع على يد حزب العدالة والتنمية.

 

هكذا إزدحمت شوارع وميادين مدينتي إسطنبول وأنقرة مرتين خلال شهر أبريل الماضي بمئات الآلاف من المؤيدين للمعارضة والعسكر، الذين حملوا الأعلام التركية ورددوا هتافات :”لسنا أرمن نحن أتراك” و”لا للأصولية الإسلامية”.

 

وفي حين استطاع الجيش تعبئة الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى في الشارع، استطاع حزب العدالة والتنمية حشد كوكتيل متناقض من المؤيدين أمام صناديق الاقتراع. فلقد حظى بتأييد رجال الأعمال الأتراك وقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى فضلا عن الأغلبية العظمى من أفقر قطاعات الشعب التركي والأتراك في المهجر الذين عادوا خصيصا للإدلاء بأصواتهم لصالح حزب “جول” و”أردوجان”.

 

ويحتاج نجاح حزب العدالة والتنمية في الاستئثار بشعبية واسعة إلى التحليل على خلفية الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي ألمت بتركيا في مطلع سنوات الألفية الثالثة.

حزب جول وأردوجان

بالرغم من أن كل مواطني تركيا البالغ عددهم 70 مليون شخصا يدينون بالإسلام، إلا أن الدستور التركي ينص على تطبيق علمانية صارمة في الحياة العامة. أفضى هذا، بسبب السياق التركي الخاص، إلى خندقة نخبة علمانية حاكمة في مواقع السلطة، وإلى إبعاد الإسلاميين بشكل دائم ومعلن. لكن في السنوات الأخيرة كثفت القوى الإسلامية المعبرة عن الطبقة الوسطى من حركتها وحققت انتصارات انتخابية مدوية كما رأينا.

 

ذلك أن تنامي الفساد في كل مستويات الحكم أدى إلى فقدان الثقة في الأحزاب التقليدية وظهور مطلب التغيير كأولوية لدى الشعب التركي. كما أدت الأزمة الاقتصادية التي حدثت في مطلع سنوات الألفية الجديدة إلى مضاعفة تلك الرغبة في التغيير. فلقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي من 9% عام 2001 إلى 4% عام 2002، ووصل الدين الخارجي إلى 120 مليار دولار، والتضخم إلى 60%، واضطرت الحكومة في فبراير 2001 لاتخاذ قرار بتعويم الليرة أمام الدولار، الأمر الذي أفقدها 50% من قيمتها، وهو ما أدى بدوره إلى إفقار الشعب التركي وإغلاق مئات المصانع وآلاف المحال التجارية، فاقترب عدد العاطلين من الـ2 مليون تركي.

 

أما عن السياسة الخارجية، فلم تكن أقل فشلا. فعلى الرغم من تقديم الحكومات التركية المتعاقبة لكثير من التنازلات في سبيل الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، ومن ثم الحصول على مساعداته ومساعدات المؤسسات المالية الدولية، إلا أنه كان يتم مقابلة ذلك بالتجاهل التام أو بالمماطلة الطويلة، كما حدث مع حكومة “بولند أجاويد” (حزب اليسار الديمقراطي) التي سبقت حكومة أردوجان.

 

تلك كانت الخلفية التي أدت إلى توجيه أنظار الجماهير إلى ما هو مخالف للأحزاب التقليدية والنخبة العسكرية، أي إلى الإسلاميين في صورة حزب العدالة والتنمية، الذين حظوا بأغلبية الأصوات مرتين متتاليتين (في نوفمبر 2002 وفي يوليو 2007).

 

وتعود جذور حزب العدالة والتنمية إلى التسعينات وتجربة حزب الرفاه عام 1997، عندما أطاح العسكر بحكومة أربكان. فقد أدت تلك التجربة إلى إنقسام سريع في صفوف الحركة الإسلامية في تركيا. فانشطرت العناصر الأكثر شبابا وحداثة المتطلعة إلى الغرب، متمثلة في حزب العدالة والتنمية، عن العناصر الأقدم المعادية له. كما قادت هذه الأزمة “أردوجان” إلى إكمال تحول حزبه. فمن الإسلامية-العقائدية إلى التحديث، ليمثل الحزب الجناح التجديدي في الحركة الإسلامية، وهو الجناح الذي كان ولازال يتعهد بالإبقاء على حكومة علمانية وبالحفاظ على القوانين التي تحمي العلمانية.

 

وفي الفترة التي تلت انتخابات 2002، وحتى إعادة انتخابه في يوليو 2007، استطاع الحزب تحقيق نجاحات على مستويات عدة. فلقد نجحت الحكومة التركية في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية نسبيا وحافظت – مؤقتا على الأقل – على استقرار الموازنة وأعادت ثقة المستثمرين والمؤسسات الدولية، فاستطاعت استقطاب رؤوس أموال أجنبية بمقدار 20.16 مليار دولار في 2006 مقابل 1.14 مليار فقط في 2002، لتمثل تركيا بذلك المركز الخامس عالميا في جذب الاستثمارات.

 

علاوة على ذلك، انخفضت نسبة الديون العامة من 78% من الناتج القومي لتصبح حاليا 45%، كما زاد الناتج القومي بمقدار 9.9% في 2006 مقابل 4% فقط في 2002، الأمر الذي أدى إلى تعافي الليرة التركية من تراجعها لتصل إلى 2960 ليرة مقابل الدولار وليصبح الاقتصاد التركي بين أقوى 20 اقتصاد على مستوى العالم. كما إنخفض عدد الذين يحصلون على أقل من دولارين في اليوم الواحد إلى أقل من 2% من السكان.

 

وعلى مستوى آخر، فقد تم التخلص من بعض القوانين القمعية والمقيدة للحريات، كما قدم الحزب عددا من التنازلات القانونية الأخرى كإلغاء عقوبة الإعدام وتغيير عدد من مواد القانون الجنائي. ويعكف حزب العدالة والتنمية الآن على وضع مسودة دستور جديد – وربما يشكل ذلك ساحة جديدة للتنازع بين الحزب والعسكريين – ليحل محل دستور قديم صاغه حكام عسكريون عندما حكموا بعد إنقلاب 1980 وحتى 1983، وكان هذا الدستور – أي دستور العسكر – على النقيض التام من دستور أتاتورك ذاته، الذي يزعمون أنهم يدافعون بكل إخلاص عن مبادئه؛ فلم يُصغ هذا الدستور بيد العسكريين وحسب، بل صيغ من أجلهم أيضا، على أساس أن الحرب الباردة لن تنتهي ولن تضع أوزارها أبدا.

 

وفضلا عن حفاظ حزب العدالة والتنمية على قوانين وأسس العلمانية في تركيا، فإنه لم يشرع حتى الآن في خدش “البقرات المقدسة” للأتاتوركية. ويخبرنا تاريخ الحزب في السلطة أنه لن يقدم على فعل ذلك. فحسبما عبّرت “النيويورك تايمز” في أحد عناوينها، فلقد كان “انتخاب عبد الله جول، وهو المسلم الحريص على التقيد بالقوانين، لتولي منصب الرئاسة إنتصارا للديمقراطية.”

 

ولفهم أسباب ومدى ديمومة تلك النجاحات لحزب العدالة والتنمية، سيكون من المفيد إلقاء النظر على تفاعلات الاقتصاد والسياسة التركيين مع اتجاهات الرأسمالية العالمية.

تركيا والسياسة العالمية

تعمل الحكومات التركية المتتالية، كما ذكرنا من قبل، على الاستجابة المستمرة لكافة الضغوط الأوروبية والأمريكية في سبيل حجز مقعد في الاتحاد الأوروبي والحصول على مساعدات ومنح من المؤسسات المالية الدولية. وتشترط هذه الضغوط إجراء المزيد من “الإصلاحات” الاقتصادية والسياسية والمشاركة في حل بعض القضايا الإقليمية المستعصية. وعلى خلاف الحكومات السابقة، تقابل تنازلات أردوجان بالقبول والاستحسان الرفيع.

 

فعل المستوى الاقتصادي، وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ورثتها حكومة “أردوجان”، لجأت الحكومة إلى طرق باب صندوق النقد والبنك الدوليين ليمداها بقروض تخرجها من الأزمة، ولقت صدى حسنا ووضعت بمشاركة – أو بتعبير أصح: تحت مراقبة – صندوق النقد الدولي خطة اقتصادية عكفت على مدار خمس سنوات على تطبيق أعمى لها. تركز تلك الخطة على الخصخصة وإعادة هيكلة أنظمة الضمان الاجتماعي والصحة وتوفير أفضل شروط من أجل الاستثمار الخاص واستقبال استثمارات أجنبية. وهكذا حظيت الحكومة بتأييد الشركات الكبرى في البلاد.

 

وعلى المستوى السياسي، تمثل تركيا أهمية كبيرة نظرا لموقعها الحساس في منطقة الشرق الأوسط. وفي الواقع فإن هناك إتفاق في الرأي بين أمريكا وتركيا حول “مكافحة الإرهاب”. فحرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني كانت مدعومة من الولايات المتحدة التي تعتبر تركيا ذراعها الأيمن (بعد إسرائيل) في المنطقة، خاصة عندما نضع في الحسبان الجهود التي تبذلها تركيا لدعم ومساعدة الحكومة العراقية العميلة بدعوى “التخلي عن الشدة والعنف والعودة إلى مائدة المفاوضات” كما صرح أكثر من مرة وزير الخارجية التركي الحالي علي بابجان.

 

كل هذا التوافق الأمريكي-التركي أسفر عن علاقات اقتصادية تستند إلى دعم أمريكي تطلبه تركيا. والعلاقات التركية مع أمريكا توضع في إطار التحالف الاستراتيجي المعترف به من قبل الدولتين في إطار إتفاقية حلف شمال الأطلسي.

 

وبالفعل، لم يكن أمام الحكومة التركية سوى أن تمد يدها لتلتقط ثمار هذا التوافق مع الإمبريالية الأمريكية. فعندما تعثر الاقتصاد التركي، لم تشأ الولايات المتحدة لحليفتها وذراعها اليمين أن تضعف وتنهار. وفي الوقت الذي كان اقتصاد الأرجنتين يهوى ويعلن إفلاسه تحت سمع وبصر أمريكا والعالم وصندوق النقد الدولي تمكنت تركيا – بإشارة أمريكية إلى الصندوق – من الحصول على قروض إضافية بقيمة 16.5 مليار دولار. وبعد عام واحد، استطاعت تركيا أن تنهي، أو على الأقل توقف، التطور السلبي للأزمة الاقتصادية.

 

وحتى قبل ذلك، وبعد الحرب على العراق بفترة وجيزة، قام صندوق النقد الدولي بتعويض تركيا عن الخسائر وعن تضرر الاقتصاد التركي من الحرب. تم ذلك أيضا بإشارة للصندوق من أمريكا التي أدركت قيمة تركيا في حربها. ولم تتوقف ثمار المصالحة والتعاون مع الإمبريالية الأمريكية عند حدود التعويضات والقروض الإضافية فقط، بل تلقت تركيا بالإضافة إلى ذلك نصيبها من “الكعكة العراقية”. فقد تعهدت واشنطن بمنح الشركات التركية صفقات بقيمة 4 مليار دولار. كما طلبت من تركيا إرسال جنود مدنيين للمساهمة في إعمار العراق؛ أي الاستثمار على الأرض التي تشبعت بدماء العراقيين وعلى الأنقاض التي خلفتها آلة الحرب الأمريكية. تلك هي الرأسمالية التركية التي أجادت نهش لحم الفريسة العراقية بعدما سقطت.

 

وبعدما كانت الحكومة التركية تعارض في البداية الحرب الأمريكية على العراق، استطاعت بعد أن انطلقت عربة الغزو أن تحجز لنفسها  مقعدا متميزا. فقد أعلن أردوجان “أننا الدولة الأكثر تأهيلا لإعادة إعمار العراق ماديا وسياسيا.. إننا سنعمل في السوق العراقية، ونحن نبذل جهودا لهذا الهدف.”

 

أما عن مشاركة الحكومة التركية في القضايا الإقليمية الأخرى، فقد إتخذت الحكومة خطوات مترددة جدا، لكن في الوقت نفسه غير مسبوقة، لحل المشكلة الكردية وإيجاد مخرج من الأزمة القبرصية. فالأزمة الأخيرة تقف حائلا أمام عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، لذا فالحكومة التركية تسعى حثيثا لحلها. ويذكر أن تركيا تحتفظ بـ40 ألف عسكري في شمال قبرص منذ غزو الجيش التركي له في 1974.

 

وفي الشأن الكردي، تعمل الحكومة التركية على محاصرة وقمع حزب العمال الكردستاني (PPK) الذي تعتبره منظمة إرهابية محظورة، والذي ينتهج طريق الكفاح المسلح للمطالبة بحقوق الأكراد المتجاهلة تماما منذ نشأة الجمهورية التركية. وتخشى الحكومة من تقوية النزعة الانفصالية لدى الأكراد في تركيا (12 مليون كردي متمركزين في الجنوب الشرقي للبلاد)، لذا فهي تطارد الحزب وتسعى لاجتثاثه من جذوره، حتى وإن إضطرت لمهاجمته عسكريا في مواقعة في شمال العراق. ويذكر أن الحكومة التركية قامت قبل عدة سنوات بالقبض على “عبد الله أوجلان” زعيم حزب العمال الكردستاني في كينيا بطريقة استخباراتية وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة.

 

هكذا، وبسبب هذه السياسة الانتهازية المحققة لمصالح الرأسمالية التركية والإمبريالية العالمية، والتي تقوم على تطبيق الوصفة الليبرالية الجديدة وعلى التحالف مع الولايات المتحدة في معركتها ضد الشعب العراقي وعلى دهس حقوق الأكراد، نجحت الحكومة “الإسلامية” في تحسين روابطها المتينة مع الولايات المتحدة الأمريكية وارتفع رصيدها لدى الاتحاد الأوروبي. وهو ما ترجمه وزير الخارجية البريطاني “ديفيد مليباند” في تصريحه أنه يريد “من الاتحاد الاوروبي أن يصير مؤسسة تتمتع فيها كل من بريطانيا وتركيا بالعضوية الكاملة”، خاصة أن تركيا تمثل حلقة الوصل الجغرافية بين أوروبا وبحور النفط في العراق وإيران والخليج العربي، لذلك فإنه توجد “منافع جمة بالنسبة لبريطانيا وأوروبا وتركيا من التعاون الوثيق في المجالات الثقافية والأمنية ومجالات الطاقة” على حد تعبير مليباند.

الصيغة التركية والمستقبل

وقف الكثيرون مشدوهين أمام إنجازات حكومة أردوجان، بالذات على المستوى الاقتصادي. فحزب العدالة والتنمية، الذي يطبق وصفات صندوق النقد الدولي التي تسببت من قبل في تدمير اقتصادات بوليفيا والأرجنتين والأكوادور وغيرهم، استطاع، على خلاف الأمثلة السابقة، الإفلات من الأزمة الاقتصادية التي كادت تخنقه، بالإضافة إلى تقليص نسب الفقر والبطالة إلى حد بعيد. فكيف هذا؟

 

الحقيقة أنه لا يمكن الاستدلال بالنموذج التركي على إمكان نجاح سياسات الليبرالية الجديدة والسوق الحر في إنتشال الاقتصادات الضعيفة من أزماتها كما يدّعي خبراء الاقتصاد الرأسمالي في تركيا وخارجها. ذلك أن أحد الأرقام الرئيسية في المعادلة التركية كان الدعم الذي قدمته الإمبريالية الأمريكية للاقتصاد التركي وأثر الدور التركي الإقليمي على هذا الاقتصاد. والأهم من هذا كله أن “التنمية التركية” ليست في مصلحة الجماهير. فالاقتصاد التركي لا يزال يحتفظ بتفاوتات طبقية مخيفة وفوارق واسعة في توزيع الثروة الاجتماعية، وغير هذا وذاك، فهو يمثل تربة خصبة ستترعرع فيها أزمات أخرى أشد وأعمق في المستقبل.

 

لكن الذي بهر كثير من علمانيي الطبقة الوسطى لم يكن فقط النجاح الاقتصادي للتجربة التركية في السنوات الأخيرة، بل أيضا المناخ العلماني الديمقراطي الذي يعمل حزب ديني على دعم أسسه وترسيخ قواعده.

 

لكن الحقيقة في هذا المجال هي أننا لا يمكننا فصل ديمقراطية جول وأردوجان عن السياق العام لأزمة الرأسمالية التركية في المرحلة التي سبقت وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة. فتركيا المأزومة آنذاك كانت تعاني من أزمة استقرار سياسي بعد أن أنهكتها 50 سنة من الانقلابات العسكرية التي ينفر منها المستثمرون الأجانب، وبعد أن دفعت ظروف الأزمة شرائح واسعة من الطبقة الوسطى ومن الجماهير الشعبية إلى التذمر والسير وراء شعارات المعارضة الإسلامية. هذا بالضبط ما جعل من صيغة العدالة والتنمية حلا أمثل لمعضلة الرأسمالية التركية: فها هي الليبرالية الجديدة تأتي في صورة جديدة طازجة على يد إسلاميين يحظون بالشعبية والجماهيرية. وهنا تكمن خدعة العدالة والتنمية، فهم ليسوا بديلا عن الوضع القائم، بل إطارا مختلفا لنفس الصورة الليبرالية الجديدة/القديمة.

 

وتبقى الجماهير التركية بحاجة إلى بديل حقيقي، يناضل ضد الهجمة الإمبريالية، ويؤيد الحقوق المشروعة للأكراد، ويناهض سياسات الخصخصة والسوق الحر.