تونس على خُطى مصر؟

كثيرا ما لفتت التجربة التونسية أنظار الشعوب العربية ليس فقط باعتبارها أولى ثورات المنطقة، لكن لنقاط التشابه الواضحة بين نضال الشعب التونسي في استكمال ثورته وبين نضالات أخرى تشهدها بلدان المنطقة تحت نفس الأهداف: “عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”. ومع تقارب الظروف السياسية واعتلاء الإسلام السياسي السلطة في كل من مصر وتونس، حامت الأسئلة حول إمكانية لحاق الشعب التونسي بركب القطار الثوري مثلما سبقتها مصر مع موجة ثورية جديدة انطلقت منذ 30 يونيو.
قراءة في المشهد السياسي
على صعيد المؤسسة العسكرية التونسية لم يظهر دورا واضحا لها في عمر الأزمة السياسية الممتدة، على الأقل، منذ اغتيال المعارضين البارزين شكري بلعيد والبراهمي، على عكس ما حدث بالفعل من تدخل المؤسسة العسكرية المصرية إثر تفجر الأزمة، إلا أن الواقع لا يعفي المؤسسة العسكرية التونسية من كونها جزءا أصيلا من مؤسسات الدولة القمعية التي سعى بن علي لتوطيدها، كما إنه يخالف تماما ما يشاع حول حيادية المؤسسة أو دعاوى وقوفها عند نقطة متساوية بين السلطة والشعب.
ففي يناير 1978 تم تنظيم إضراب عام احتجاجا على السياسات الاقتصادية الليبرالية التي فتحت الباب على مصراعيه أمام رأسمال الأجنبي واستغلال العمال وموارد البلاد، حيث ظهر الدور القمعي للجيش بقتل عشرات المتظاهرين، كما تدخل الجيش ثانية لقتل المتظاهرين ضد غلاء الأسعار وضد إلغاء الدعم على المواد الأساسية في انتفاضة الخبز الشهيرة عامي 1983 – 1984.
برزت الآلة القمعية بشكل أكثر وضوحا أيضا عام 2008 حينما اندلعت إضرابات الجوع بمنطقة الحوض المنجمي، وهي بمثابة الشرارة التي انطلقت على إثرها احتجاجات اجتماعية متعاقبة، وكان الدفع بتعزيزات إضافية من الجيش والأمن لقمع تلك الاحتجاجات. كما طوًق الجيش التونسي مدينة الرديف ولعدة أيام بمحاصرتها وتحويلها إلى ثكنة عسكرية مع تنفيذ حملة اعتقالات واسعة إثر انتفاضة أشعلها أبناء المدينة في نفس الأثناء احتجاجا على غلاء المعيشة وزيادة البطالة. ولا يخفى الدور الذي لعبه الجيش في تهريب بن علي قبل عامين، ومحاصرة محيط المجلس التأسيسي بالأحداث الأخيرة أثناء فض الاعتصام بالقوة عدة مرات على يد قوات الشرطة.
وبنفس المنطق فقد استطاع بن علي استخدام المؤسسة العسكرية كأداة قمع تفرض سيطرة الحكم الديكتاتوري وتحكم نفوذه واستقراره في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية لكن دون أن تمثل تلك المؤسسة وسيلة ضغط أو جبهة تهدد الحاكم نفسه. كما لم يكن أبدا تحجيم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية وتميزها بالطابع الانعزالي عن مجريات التقلبات السياسية هو انعزال حقيقي، فبالدرجة التي تمتد معها ثورة الشعب التونسي والوصول للذروة التي يتهدد معها بقاء النظام سيستعيد الجيش، باعتباره جزءا من ذلك النظام، انخراطه في قمع الاحتجاجات كثورة مضادة تستشعر الفرصة المناسبة للانقضاض مثلما بدا واضحا في الأعوام الماضية.
وعلى عكس تدخل المؤسسة العسكرية المصرية على مدار أكثر من 60 عاما في السلطة، فإن بن علي عمد إلى تقوية قوات عسكرية أخرى كالحرس الجمهوري على حساب القوات المقاتلة وتمييزها في المخصصات الاقتصادية مما انعكس بوضوح على بتر أذرع اقتصادية، لا ندًعي غيابها، كان من الممكن توغلها بسيطرة سرطانية من الجيش على المشهد السياسي مثلما الواقع الآن بسيطرة الجيش المصري على أكثر من 20% من الاقتصاد بصورة مباشرة أو من وراء ستار.
وبالتالي أصبح لا يوجد هناك تهديدا مباشرا لمصالح المؤسسة العسكرية التونسية يدفعها للتدخل بالشكل الفوري والمباشر في تجاذبات سياسية أو في مجازفات تحرفها عن الجبهات الغربية والجنوبية حيث اشتعال المعارك مع تنظيم القاعدة في ظل ضعف الكفاءة القتالية للجيش التونسي وانعدام الإمكانيات.
إن التمايز بين وضعي المؤسسات العسكرية في مصر وتونس لا يلغي أبدا أن كلا المؤسستين مشروع واضح للثورة المضادة وإن تخفت نسبياً وراء ستار وفقا للظروف الموضوعية المتاحة.
الإخوان المسلمون.. الوجه الديني للثورة المضادة
أزاحت الثورتين المصرية والتونسية الستار عن ظهور بديل سياسي، ممثلا في تنظيم الإخوان المسلمين، ذاق مرارة القمع لأعوام طويلة، واتخذ من خطابه الديني قوة جاذبة لقواعد عظمى من الجماهير في أعرض التنظيمات المطروحة على الساحة السياسية. ومع صعود الإسلاميين للسيطرة على مقاليد الحكم والتحكم في كتابة الدستور في كلا البلدين اتضح على الجانب الآخر تطابق السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة بانفتاح السوق ودعم الخصخصة والاستثمار وتشريد العمال بتواطؤ مع رجال أعمال النظام السابق، بل ومحاولات إعفائهم من جرائم الاستيلاء على المال العام أمثال بلحسن الطرابلسي.
عكفت النهضة على تنظيم الوجه الديني للثورة المضادة من خلال إطلاق يد السلفيين ضد الاحتجاجات الاجتماعية باعتبارها الجماعات الأكثر تميزا في انتهاج أسلوب العنف المنظم كما عمدت إلى تكوين مليشيات مسلحة ومدربة في روابط حملت زوراً اسم الدفاع عن الثورة تصدت بوضوح للحراك الاحتجاجي مثلما تجلى في الآونة الأخيرة.
لم تستند النهضة إلى القوة الشعبية والقواعد المؤيدة للتنظيم العريض في السير قدما نحو تحقيق أهداف الثورة والذي قد يتطلب الاصطدام بمؤسسات الدولة من قضاء فاسد وضباط داخلية تم تبرأتهم جميعا من تهم قتل المتظاهرين. ومثلما كرًم المعزول مرسي قيادات المجلس العسكري وممثلي القلب الصلب للثورة المضادة، واصلت أيضا النهضة بتونس نفس المعزوفة بترقية القتلة، والتفت كلا التنظيمين في مصر وتونس إلى تهيئة الأوضاع لصالح استقرارهما وببرنامج إصلاحي مهادن بل ومتطابق تماما في سياساته الاقتصادية والاجتماعية مع النظام السابق ومعارضيه الليبراليين على حد سواء.
ووسط محاولات واسعة للسيطرة على مفاصل الدولة، تبنت النهضة دفاعا أحمقا حول شرعية الصندوق وتهديدات بإغراق تونس في الدماء إذا تم الإطاحة بالإسلاميين مثلما حدث بالنموذج المصري.
الأطراف السياسية ومغازلة مصالحها
إن اللحظة التي تعلن فيها الجماهير ثورتها على النظام وتطالب بإسقاطه لا يمكن معها أن يكون الحوار بين السلطة والمعارضة سوى طريق مؤكد ترتكن فيه المعارضة إلى يمين السلطة.
في كل من مصر وتونس، ظهرت القوى الليبرالية واليسارية المهادنة كطرف معارض للسلطة في ظل التحالف مع فلول النظام السابق ومنهم الباجي قايد السبسي، والذي شغل عدة مناصب بحكومات بن علي أهمهم وزارة الدفاع ومؤسس حركة نداء تونس الضالعة بقوة في جبهة الإنقاذ الوطني والذي لم يخجل من تجديده العهد مع الشعب بمواصلة الثورة! إن هذا التحالف يعكس تماما المصالح الطبقية التي ترنو إليها المعارضة في التخلي التام عن تحقيق أهداف الثورة التونسية ومدى ضعف جديتها في تحقيق العدالة الاجتماعية.
ومع التراجع الواضح في شعبية النهضة حاولت القوى السياسية المعارضة، التي استبعدها الشارع التونسي والمتحالفة مع الفلول، بالتخفي وراء ستار من دعاية “الديمقراطية” و”المدنية”، ذلك الستار الذي تصطف دائما خلفه قوى الثورة المضادة للتغطية على المطالب الاجتماعية. اعتمدت تلك القوى في المقابل على تصدير الخطاب الليبرالي بشأن الحريات الذي قد يلاقي صدى واسعا في مواجهة الخطاب الديني المتشدد والمرفوض شعبيا.
المعارضة الليبرالية رأت أن اشتداد الحركة الاحتجاجية الحالية وتجذيرها بمطالب اجتماعية قد يسحب البساط من تحت أرجلها ويهدد بشكل مباشر تحالفتها الطبقية، وبالتالي فإن المصلحة الحقيقية التي سعت إليها الأطراف السياسية هي “حل فتيل الأزمة” بمعناه المجرد واختزال الحراك الشعبي الواسع إلى مجرد تحركات بمطالب سياسية الهدف منها الإطاحة بالحكومة وليس النظام ككل، مع الظهور باعتبارهم شريك سياسي بظهير شعبي. لعل ذلك يبدو واضحا في مصر باصطفاف المعارضة خلف المؤسسة العسكرية ومباركتها الانقلاب على ثورة 30 يونيو الشعبية.
“تمرد” و”الاتحاد” وضعف التنظيم
قد تبدو الساحة التونسية أكثر تنظيما من نظيرتها المصرية، فالاتحاد التونسي للشغل، الذي تضم عضويته أكثر من نصف مليون عامل ونقابي، بدا واضح الأدوار مع دعواته المتتالية بالإضراب العام، كما يرجع الفضل لذلك التنظيم في تنفيذ أوسع الإضرابات العمالية التي أجبرت الديكتاتور على الهروب خارج البلاد. وهو التنظيم الذي تفتقره بشدة الساحة المصرية بالرغم من الحراك العمالي المتصاعد. لكن ومع تصاعد الاحتجاجات طيلة أكثر من عامين بعد رحيل الديكتاتور واتساع أفقها بانضمام شرائح احتجاجية أوسع كالمهمشين والمعطلين سادت حالة من الانعزالية الواضحة بتفجر الاحتجاجات في مناطق عديدة دون وضوح دور تنظيمي قادر على استيعاب الحركة وتطويرها، بل وربط الاحتجاجات المتفجرة عفويا بعضها ببعض في إطار الضغط الفعلي لتنفيذ مطالب الثورة الملحة والدفع لتحقيق أكبر قدر من مطالبها السياسية والاقتصادية على حد سواء.
أما الاتحاد التونسي للشغل الذي بارك موجة يونيو الثورية في مصر بجانب تحيته للمؤسسة العسكرية بدعوى انحيازها لمطالب الشعب رغم المجازر التي ارتكبها الجيش طيلة عام ونصف، فقد اتخذ نفس المواقف بتمييع واضح لمعسكرات الثورة والثورة المضادة واختزال انتفاضة الشارع التونسي إلى مجرد حوار يجمع الأطراف المتنازعة من سلطة ومعارضة.
إن البيروقراطية النقابية التي أصابت الاتحاد دفعته لتأطير العمل النضالي بطريقة فوقية دعوية تقضي برسم طريق فوقي للحركة الجماهيرية دون وضع استراتيجية واضحة للاشتباك مع مئات الاحتجاجات المتفجرة عفويا وبشكل متتالي، وأصبحت الحركة العمالية حبيسة الحدود النقابوية التي تفصل بمنتهى الوضوح بين النضال الاقتصادي الاجتماعي كمطالب رئيسية للثورة وبين المطالب السياسية الثورية في تطهير مؤسسات الدولة ومحاكمة رموز الفساد.
لم يمتلك الاتحاد التونسي للشغل حلولاً عملية من أجل الاستجابة للمطالب الشعبية، وبدا الاختلاف واضحا إثر انفجار الأزمة السياسية بين الحركة الواسعة للجماهير في فرض مطالب جذرية لا رجوع عنها بإسقاط النظام وبين استراتيجية الاتحاد في التعامل الفوقي مع الحركة ومطالبها. إن الامتثال لدور الوسيط الذي لعبه الاتحاد بين الحكومة المغضوب عليها شعبيا وبين المعارضة التي ضمت فلول يحاولون السيطرة من جديد هو تجسيد واضح لابتعاد التنظيم عن أهداف الحراك. بل ومع تعنت النهضة وإعاقة مسار التسوية، لوًح الاتحاد من جديد باستخدام ورقة الإضراب العام في محاولة للاستفادة من ضغط الحركة الجماهيرية المشتعلة وتوظيفها بطريقته بعد أن اتخذ الحوار سبيلا لتهدئة الشارع. لم يكن مستغربا أبدا، وفي ظل بيروقراطية النضال، أن يتبنى الاتحاد قرار الإبقاء على المجلس الوطني التأسيسي مع إيجاد آلية لضبط عمله في ظل كتابة دستور لا يسمح بالإضرابات العمالية بالقطاعات الحيوية!
حركة تمرد التونسية هي جانب آخر من الأشكال التنظيمية التي ظهرت مؤخرا على الساحة الاحتجاجية بتونس، تلك الحركة التي نشأت كمحاكاة لمثيلتها المصرية فقد اتخذت من الأخطاء الظاهرية لباقي التنظيمات نقطة انطلاق في التوجه إلى الشعب بعيداً عن التيارات السياسية والأحزاب بأطرها التقليدية، بل ارتهنت دعوتها لذلك المحرك الرئيسي المتمثل في قدرة الجماهير على إشعال موجات ثورية من أسفل تربك الطبقة الحاكمة التي تتغنى بالصناديق. جمعت الحركة توقيعات من الشوارع واعتبرت حركة تمرد المصرية بمثابة نموذج ناجح في التعبئة الواسعة تحت هدف واحد مع تحييد كل أعضائها على أرضية مشتركة، كما لم تضع الحركة المؤسسة العسكرية في حساباتها مثلما بالغ بعض الكتًاب التونسيين في دعوتهم لمحاكاة النموذج المصري.
لكن الحملة التونسية لم تستطع أن تجاري التحايل الحكومي، فالمسار السياسي المتعارف عليه لما بعد إقرار الدستور هو حلً المجلس التأسيسي ثم إجراء انتخابات رئاسية لإنهاء المرحلة الحالية التي وصفت بالانتقالية. لم تنجح حملة تمرد، بشكل جزئي، في إقناع الجماهير بمطلب إسقاط النظام كاملا بدلاً من إسقاط المجلس التأسيسي كأولى مطالبها، فهي الخطوة السياسية المنتظر حدوثها بالفعل. بل وفشلت الحركة تماما، رغم محاولات التقريب إلى غضب الشعب ضد النهضة، لإنها لم تستند في إطروحاتها إلى تكوين بديل شعبي يناضل من أجل المطالب الاجتماعية ويقود الدفة أو على الأقل يساهم في طرح تلك المطالب بقوة في حال استباق الحراك الشعبي لأهداف الحركة كما حدث فعلا. لعله نفس الخطأ الذي وقعت فيه نظيرتها بمصر.
إن استعراض الأوضاع الحالية في كل من مصر وتونس وتحليل المصالح الطبقية يضعنا في نهاية الأمر حول تشابه كلا التجربتين، بدءا بالتمثيل الصارخ للثورة المضادة من مؤسسات قمعية ومعارضة متحالفة مع الفلول إلى غياب واضح للتنظيم أو افتقاره للتلاحم الشعبي. كما أن كل معطيات الواقع والتحالفات الطبقية التي أبرزت سلطة حاكمة مسيطرة انقضت على المطالب الشعبية في الثورة مازالت قائمة بكل حذافيرها في ظل غليان الشعبي المتصاعد مازال على أهبته ومازال يلقي بظلاله حول استمرار الثورة المصرية والتونسية على حد سواء.
* المقال منشور بالعدد 24 من مجلة أوراق اشتراكية