بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

“عُمر في المنفى” مذكرات عبد القادر ياسين

لا يعد “عمر في المنفى”، سيرة ذاتية للمفكر، والمؤرخ، والسياسي الماركسي الفلسطيني عبد القادر ياسين، فحسب، بل شهادة على تاريخ حافل من عمر هذا الوطن، وتاريخ قضيته، وتاريخ القوى السياسية، التي تفاعل معها الكاتب، طوال أكثر من ستين عاماً، من عمره، ومن عمر القضية.

يتكون الكتاب من 18فصلاً, غير مرتبطين بتسلسل زمني جامد, يتعرض من خلالهم الكاتب , لأهم الأحداث السياسية والاجتماعية في فلسطين، من خلال تجربته الشخصية، وخصوصاً بعد نكبة 1948، حيث بدأت المذكرات بصورة عن أوضاع الفلسطينيين بعد النكبة، في مصر وقطاع غزة، حيث عاش الكاتب طفولته, وأيضاً التيارات السياسية المختلفة, في غزة, من القوميين العرب، والإخوان، والشيوعيين, وكيفية تعامل كل منهم مع الأزمات والقضايا التي طرأت على الفلسطينيين بعد النكبة.

بداية الوعي والنضال

كانت نقطة التحول الرئيسية , في حياة ياسين , انتفاضة مارس1955 ، عشية الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على القطاع، حيث تقدم ياسين طالب الصف الثاني في المدرسة الثانوية صفوف زملائه الطلاب، وهتف “لا توطين و لا إسكان يا عملاء الأمريكان”، ودخل في مواجهات كلامية مع إدارة المدرسة والأمن، و خرجت مظاهرة من المدرسة، كانت بداية الانتفاضة، التي استمرت ثلاث أيام متوالية، من أقصى القطاع إلى أقصى القطاع، وتعرض ياسين للاعتقال بسبب الذي لعبه في الانتفاضة, وفي المذكرات ذكر ياسين أحداث تفصيلية هامة تؤرخ لتلك الانتفاضة، التي دفعت عبد الناصر لتغيير سياسته تجاه فلسطين، ومنها تبنيه للعمل الفدائي, الذي ألحق بالعدو الصهيوني حوالي 1400 قتيلاً خلال بضع أسابيع.

ثم جاء التحاق الكاتب بالحزب الشيوعي الفلسطيني في عام 1955, حيث قدم المؤلف تصوراً عن العمل السياسي بالقطاع , في تلك الفترة، و سرد تفاصيل تاريخية عن الحزب وكيفية عملة, والضربات الأمنية التي وجهت للحزب, ونقاط الضعف و القوة داخله، وثم تحدث عن الانشقاق الذي عانى منه الحزب , ثم تناول محاولات التوحيد مرة أخرى, ويعد هذا الجزء تأريخ للحركة الشيوعية في القطاع، الذي تناوله الكاتب بشيء من التفصيل في كتابه، “حزب شيوعي ظهره للحائط”.

ثم ينتقل ياسين, للحديث عن فترة مهمة , من تاريخ اليسار العربي ككل , وهى فترة الاختلاف بين عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، حول صيغة الوحدة بين مصر وسوريا والعراق, وما تبعها من اضطهاد للشيوعيين، والزج بهم في المعتقلات, حيث أعتقل الكاتب في تلك الفترة , في معتقل الواحات, وفي هذا الجزء عرض لجزء من تجربة الاعتقال، كما عرض التيارات السياسة لليسار داخل المعتقل, ورؤيتهم المختلفة للعديد من القضايا الهامة في هذا الوقت، منها رؤيتهم لنظام حكم عبد الناصر.

في مواجهة السلطات

ثم يتناول ياسين محاولاته لإعادة تشغيل الحزب الشيوعي قبل حرب1967, ثم يعرض للحرب والاحتلال الإسرائيلي ورد فعل القوى السياسية المختلفة في قطاع, ثم يتناول الدور الذي لعبه الحزب في تشكيل قيام جبهة متحدة بين مختلف التيارات في القطاع، لمواجهة العدوان, كانت مثالاً فريداً للعمل الفدائي والسياسي الفلسطيني, من داخل الأرض المحتلة , مع وجود القيادة بالداخل أيضاً.

يتناول الكاتب، بداية من الفصل السادس، صراعات الفصائل فلسطينية, ومحاولات فتح السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية, وتصفية واحتواء التنظيمات الأخرى, وهو ما أستمر في لبنان بعد ذلك, حيث محاولات الإقصاء والتطويع , لكافة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية, مثل اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، الذي لعب فيه ياسين دوراً مقاوماً لسياسات أبو عمار. مما عرض عبد القادر ياسين، وغير من الكتاب لمؤامرات اعتقال وترحيل من مصر، أكثر من مرة, نتيجة تصديهم , لسياسات فتح التخريبية. ويلقي ياسين الكثير من الضوء على شخصية عرفات، ومنها مدى عداءه للمثقفين, حيث كان يطلق على اجتماعاتهم “جلسات التحشيش الفكري”. وفي ثنايا الكتاب يوجد اتهام، له ما يبرره، لعرفات بأنه وراء اغتيال الفنان “ناجي العلي”، وليس إسرائيل.

وفي أحد فصول الكتاب يتناول ياسين الحصار الإسرائيلي للمقاومة في بيروت والصمود الأسطوري لها, متضمن سرده, لكثير من الأحداث والمفارقات التي حدثت في كواليس المعركة. ويلقي الكاتب الضوء على تجربة “فتح الانتفاضة”، سواء النشوء والبزوغ والإخفاق , وكل عامل وأسبابه وحيثياته.

الإنتاج الفكري والتأريخ للقضية

الكتاب مليء بخبرات وتجارب إنسان مناضل، بحق، منذ بداية تفتح وعيه السياسي، ثم نضاله السياسي، تجارب الاعتقال المتكرر، الترحيل من بلد إلى أخرى، من القاهرة،إلى دمشق، من عمان إلى بغداد، وفي المذكرات استعراض لأهم الكتب والدراسات، التي عكف عليها، والظروف التي رافقت نشرها، بداية من كتاب “كفاح الشعب الفلسطيني قبل العام 1948” ، هذا الكتاب الرائد في التأريخ للقضية الفلسطينية من منظور طبقي، مرورا بالعديد من الكتابات السياسية، والتاريخية، “تاريخ الطبقة العاملة الفلسطينية”، “شبهات حول الثورة الفلسطينية”، “فكر اليسار المصري والقضية الفلسطينية”، “تجربة الجبهة المتحدة في قطاع غزة”، “مجتمع الانتفاضة”، “حماس”، والعديد غيرها.

يعرض الكاتب لتجربة رائدة، في العالم العربي، وهي تجربة “الورشة”، تلك التجربة التي بدأها عبد القادر ياسين في سوريا في عام 1990، بهدف تدريب أشخاص على الكتابة الصحفية والسياسة، وكذلك التاريخية، وبالفعل نجحت التجربة في سوريا، مما دفعه لتكرارها في مصر، بعد استقراره في مصر، في منتصف التسعينات، وكان نصيبها النجاح، حيث تخرج منها عدد الكبير من الباحثين الجادين، كما نجحت في إنتاج أكثر من عشر كتب عن القضية الفلسطينية، وعن المقاومة، وعن الحرب على العراق، وحرب لبنان 2006، وغيرها.

أما عن حياته الشخصية, فلها نصيب أقل من الحديث، حيث يروى قصة زواجه الطريفة, وحياته الأسرية , وتأثرها بطبيعة الحال بنضاله السياسي، والملاحقات المتتالية له من قبل النظام المصري، والإسرائيليين، ورجال عرفات، وكيف كان صمود زوجته, ناصرية التوجه، في المذكرات يصور ياسين زواجه في صورة تحالف دام لأكثر من أربعين عاماً.

يأتي الفصل الأخير بعنوان حين قصر الشيوعيين العرب, ويتعرض فيه للعديد من الإشكاليات والقضايا والمقولات التي ارتبطت بالفكر الاشتراكي، لفترة من الزمن, و منها مقولة “أن الاشتراكية فكرة مستوردة ولا تصلح للعالم العربي”, و”إلصاق الإلحاد بالاشتراكية”, وغيرها من المقولات التي أطلقها أعداء الاشتراكية , كما يتحدث عن الغموض الذي أحيط بالفكر الاشتراكي، وعدم النجاح في تبسيطه للناس باعتباره لعب دور في انتشار تلك المقولات المغلوطة. في هذا الفصل يتناول ياسين أفكاره عن علاقة القومية بالاشتراكية، كما ينتقد الكثير من ممارسات الشيوعيين العرب.

وأخيراً يتحدث ياسين عن أزمة اليسار العربي, في الوقت الذي يشهد فيه العالم, نهوضاً لليسار في أمريكا الجنوبية, وأوربا, ويرى أن الخروج من تلك الأزمة, يتطلب مراجعة نقدية جسورة لتاريخ اليسار العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص, والتخلي عن الجمود الفكري والنظري والتنظيمي , واستيعاب خصوصية الوطن العربي الفكرية والثقافية.

أخيراً, لا يمكن أن نصف “عُمراً في المنفى”, إلا باعتباره عملاً ذا قيمة تاريخية كبيرة, من جهة تناوله التاريخ السياسي لفلسطين بشكل عام, واليسار الفلسطيني بشكل خاص, من خلال تجربة حية ومعاصرة, لأكثر من خمسين عاماً متصلة بالعمل السياسي, كان صاحب المذكرات فيها جزء نسيج الأحداث، وفي المذكرات يروي ويحلل الأحداث، كما يفشي الكثير من الأسرار، والمعلومات، ويدخل كعادته في مواجهات سياسية، لا يخشى إلا ضميره.