بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

وانفجر الطلبة في فرنسا

كانت الأسابيع الماضية في فرنسا تفوح برياح مايو 1968، حيث شملت موجة غضب عارمة كافة أنحاء فرنسا بين طلبة المرحلة الثانوية، حيث نزل ما يزيد عن 400 ألف طالب وطالبة إلى الشوارع ينددون بالسياسات التعليمية ويطالبون بتعديلات جوهرية في النظام التعليمي الفرنسي. وقد ساندت قوى شعبية كثيرة في فرنسا هذه الحركة الطلابية الجارفة.

بدأ الغضب الطلابي في بداية الأمر في الجنوب، حيث نزل الطلبة إلى الشوارع في مدن بوردو، تولوز ونيم وغيرها ينددون بقلة عدد المدرسين وعدم وجود أماكن كافية في المدارس مما أدى إلى تكدس الطلبة داخل الفصول ووصل الأمر إن بعض الحصص كانت تؤدى في أحواش وممرات المدارس، رفع الطلاب أيضاً اللافتات التي تطالب أيضاً بمزيد من الدعم للتعليم للرفع من مستوى الوسائل التعليمية كالحاسبات الآلية والمكتبات التي وصلت إلى مرحلة متردية في المدارس الثانوية العامة في مدن وقرى الجنوب.

قالت فاليرى أحد طالبات المظاهرات: “في مدرستي، يعاملوننا كالسردين، يضعوننا: 55 طالباً في أحد الفصول الذي لا يتحمل أكثر من 30، البستاني يغسل الأطباق ومسئول أيضاً عن النشاطات الرياضية في المدرسة، إننا لن نسكت”.

لم يقتصر الغضب فقط على المدارس الحكومية في الجنوب بل امتد أيضاً إلى الشمال وأيضاً إلى المدارس الخاصة، ونزلت أعداد غفيرة من الطلبة في باريس وليل يطالبون فيها بتحسين أحوال المدارس وتجديدها وتقصير الأيام الدراسية المرهقة. في يوم الاثنين 12 أكتوبر وصلت أعداد الطلبة في الشوارع أكثر من 400 ألف وشلت الحركة في مدن فرنسا والطلبة صامدون حتى يأتي التغيير.

المشكلة الحقيقية في التعليم المدرسي الفرنسي ليست كامنة في نقص الإمكانيات سواء كانت المادية من حيث الأموال التي تذهب إلى التعليم أو الوسائلية من حيث وسائل التعليم كأعداد المدرسين وتوافر الحاسبات الآلية والمكتبات، وإنما المشكلة هي سوء التوزيع لهذه الموارد والإمكانيات على المدارس المختلفة.

فإذا عرفنا إن فرنسا هي من أكثر دول العالم التي تنفق على التعليم المدرسي خاصة بعد تولى حكومة جوسبان المائلة لليسار، وإن فرنسا لديها واحدة من أقل نسب الطلاب للمدرسين 1:11 ( في الولايات المتحدة 1:19، ألمانيا 1:21 ) فسنكتشف على الفور إنه من المفروض ألا تكون هناك أي مشاكل في التعليم.

والسؤال يأتي هنا: لماذا نزل الطلاب إلى الشوارع في حمى غضب شديد يطالبون بالتغيير وتحسين العملية التعليمية!؟؟

الإجابة تأتى ببساطة عن طريق الأرقام والحقائق التالية، فحين تبلغ نسبة الطلبة للمدرسين في بعض المدارس 1:2، تبلغ في مدارس أخرى 1:40!!، وفى حين أن هناك بعض المدارس مبنية على أحدث الطرز المعمارية من حيث الاتساع والقوة الإنشائية، فهناك مدارس أخرى مهددة بالسقوط من أثر أصوات الطائرات التي تمر فوقها.

وقد لوحظ إن معظم المدارس التي تعانى من هذه الأحوال السيئة هي مدارس فقراء العمال أو الفلاحين أو أبناء المهاجرين من عرب وأفارقة. لذلك فالمسألة تأخذ بعداً أخر ألا وهو البعد الطبقي، فالمشكلة التعليمية ليست مشكلة من حيث نقص الإمكانيات بل أصبحت مشكلة من حيث توزيع هذه الإمكانيات بنسب مختلفة اختلافا واسعا.

بالإضافة إلى ذلك فمشكلة البطالة في فرنسا والتي تمثل ذعراً قومياً حيث بلغت أكثر من 11% في عام 1997، ترتبط ارتباطاً جوهرياً بالمسألة التعليمية حيث إن معظم العاطلين هم أبناء فقراء المدن أو الريف الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة والفلاحية، وأيضاً من أبناء شمال أفريقيا والزنوج.

ولمعرفة أسباب ارتباط العملية التعليمية ببطالة هؤلاء يجب أن نعرف أن هؤلاء الفقراء من العمال والفلاحين يدخلون أبنائهم في المدارس المتاحة لهم وهى بعينها تلك المدارس التي تعانى من الأحوال المتردية ولذلك فتلك الطبقة العاملة تحصل على قسط من التعليم أسوأ بكثير من ذلك الذي يأخذه أبناء الطبقة البرجوازية الفرنسية التي تدخل أبناءها في أحدث المدارس وأفخمها.

أحد الأسباب الأخرى المهمة هو صعوبة امتحان البكالوريا الفرنسية ( امتحان نهاية المرحلة الثانوية )، وقد يبدو هذا السبب غريباً في ارتباطه بمسألة بطالة الفقراء، ولكن قد تزول هذه الغرابة عندما نعرف إن أبناء الطبقة العاملة الكادحة يعمل أكثرهم بجانب الدراسة لتوفير بعض المال، وأثناء عملهم في تلك الأعمال الوقتية البسيطة، لا يجدون الوقت الكافي للاستذكار لهذا الامتحان التي يحتاج إلى ساعات عمل كثيرة لاجتيازه فما بالك بالحصول على مجموع مناسب فيه يسمح بدخول الجامعات أو المعاهد العليا. حصيلة ذلك هو بالطبع أن معظم طلبة الجامعات والمعاهد العليا في فرنسا هم من أبناء الطبقة البرجوازية التي توافر لهم كل الوقت للاستذكار غير مكترثين بالطبع بالقلق على عمل وقتي لتوفير مصدر آخر من الرزق.

وللعلم بالشيء فقد أصبح الآن ومنذ حوالي عشر سنوات أو أكثر، التعليم العالي أهم طريق لشغل وظائف جيدة في الشركات والمؤسسات في فرنسا.

وقد أوضحت لنا هذه المظاهرات الطلابية العارمة مظهراً غاية في الأهمية في العمل الجماهيري ألا وهو إذابة جميع الفوارق سواء كانت الجنسية أو العنصرية أو الدينية بين الطبقة ذات المصالح الواحدة المقهورة ضد قاهرها.

ففي حين أن فرنسا مشهورة بالتوترات العنصرية الشديدة بين الطلبة الفرنسيين الأصل والطلبة من أصل عربي وصلت في بعض الأحيان إلى حوادث قتل مشهورة، نرى تلاحم جميع فئات الطلبة من الجنسين ومن الأعراق والأديان المختلفة في هذه المظاهرات والتي تطالب بتغييرات جذرية للظروف البشعة التي يتعرضون لها جميعاً.

وصل هذا التلاحم إلى درجة أن تكون المتحدثة الرسمية باسم الحركة القومية للطلبة فتاة من أصل جزائري ومسلمة تدعى لبنى مليان، وأن يكون كثير من قادة الحركات داخل المدن الفرنسية فتيات ملونات من أصول أفريقية أو عربية.

فقد توصل هؤلاء الطلبة جميعاً إلى إن مصلحتهم ككتلة واحدة مشتركة وإن كل الاختلافات ما بينهم هي في واقع الأمر لا تمثل شيئاً، وإن طالب فرنسي أبيض أكثر قرباً لطالب ملون، يقع الاثنين في دائرة القهر، من مسئول عن التعليم فرنسي أبيض أو طالب أبيض من الطبقة البرجوازية التي تتمتع بالامتيازات المأخوذة من حق كل من الطالب الأبيض والأسمر الفرنسيين المقهورين.

نزل الطلبة إلى الشوارع متكاتفين وقد آلو على أنفسهم ألا يتوقفوا إلا بإجراءات واضحة للتغيير الجذري، ولن يسكتوا أو يتوقفوا بوعود خاوية لن تحقق شيئاً. لقد سموا أنفسهم شباب أكتوبر 98، فهل بتلك المساندة الشعبية لهم نرى مايو 68 أخرى؟