أوروبا تنتفض ضد خطط التقشف

بعد مرور ثلاثة سنوات منذ بداية أكبر أزمة في الاقتصاد الرأسمالي منذ الكساد الكبير في الثلاثينات، تتبنى اليوم كافة حكومات أوروبا سياسات تقشفية غير مسبوقة، تتضمن تجميد وتقليص الأجور والمعاشات والخدمات، وطرد مئات الآلاف من العمال خاصةً في القطاع العام والحكومي.
ولا فرق في تلك السياسات بين الحكومات اليمينية المتطرفة كحكومة بيرلسكوني في إيطاليا وساركوزي في فرنسا، وحكومة المحافظين في بريطانيا، وحتى الحكومات الاشتراكية الديمقراطية في اسبانيا واليونان. الكل يشارك في الهجوم على العمال لمصلحة البنوك والشركات الكبرى، والتي سببت الأزمة في الأصل.
وفور إعلان الحكومات لخطط التقشف، انطلقت أبواق الدعوة للإضرابات والتظاهرات في أوروبا لتصم آذان الحكومات وكبار رجال المال والأعمال. فلا شك أن قسوة تلك الخطط الاقتصادية قد فجرت غضب الملايين من العاملين والفقراء عبر القارة.
أوروبا التي كانت قد نسيت الانتفاضات الشعبية منذ عقود، عادت لتقلق من مشاهد الاشتباكات في الشوارع واحتلال الجامعات، والإضرابات العامة التي تجتاح المصانع وأماكن العمل، والمظاهرات التي تنهمر كالسيل في المدن الكبرى ويشارك فيها مئات الآلاف والملايين أحياناً.
لكن موجة الاحتجاجات الضخمة في أوروبا اليوم، بالرغم من الأعداد الهائلة التي تشارك فيها، وبالرغم من استمرارها طوال العام السابق، إلا أنها لازالت تواجه الكثير من العقبات التي تعوقها من المضي للأمام في طريق الإطاحة بخطط وبرامج التقشف، بعد أن أصبحت تلك البرامج هي الملاذ الأخير للرأسمالية للهروب من أزمتها الراهنة.
التقشف
مرحلة جديدة في الأزمة الاقتصادية في منتصف 2008، انتقلت الأزمة المالية من البورصات والبنوك والشركات التمويلية في الولايات المتحدة إلى المراكز الرأسمالية الأخرى في أوروبا وآسيا. وبعد ثلاثين عاماً من الدعاية الأيديولوجية عن حرية السوق وضرورة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، هبت الحكومات الرأسمالية، واحدة تلو الأخرى، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بتأميم البنوك أو شراء الأسهم، وضخ تريليونات الدولارات في سوق المال.
جلبت حكومات دول أوروبا وأمريكا، كل تلك الأموال الضخمة من دافعي الضرائب، بالإضافة إلى القروض الهائلة التي تلقتها من المؤسسات المالية الدولية. وبالرغم من ذلك لم تستطع الحكومات أن توقف مزيداً من الانهيار في الأسواق المالية، فقد أدت الأزمة إلى انكماش خطير في مصادر تمويل الشركات الصناعية والإنتاجية، مما كان يعني للشركات الكبيرة وقف مشروعات التوسع وإغلاق كثير من المصانع، وإلى إفلاس الشركات الأصغر غير القادرة على مواجهة العاصفة المالية، وهو ما أدى بدوره إلى زيادة مطردة في حجم البطالة، حيث تتخلص الشركات من العمالة لتقليص الإنفاق.
وفي الفترة من نهاية 2007 إلى نهاية 2010، زاد عدد العاطلين عبر العالم بمقدار 30 مليون عاطل (7.5 مليون منهم في الولايات المتحدة فقط)، ليصل حجم البطالة في العالم إلى 210 مليون عاطل. وأصبح في الاتحاد الأوروبي، واحد من كل خمس أشخاص تحت سن الـ25، عاطل. وبمقياس آخر، فقد وصلت نسبة البطالة في الاتحاد الأوروبي إلى 9.6% من قوة العمل.
ومن ناحية أخرى، أدى اقتراض الحكومات من المؤسسات المالية الدولية لإنقاذ البنوك، إلى وضع شديد الحرج لتلك الحكومات نفسها؛ فتسديد الديون بالإضافة إلى قيمة الفوائد يجبرها على تقليص إنفاقها واتباع سياسة تقشف اقتصادي قاسية لتحاشي الإفلاس.
في اليونان وافقت الحكومة في مايو السابق على إشراف صندوق النقد الدولي على خطة “إعادة استقرار”، في أكبر عملية إنقاذ مالي تعتمدها أوروبا في تاريخ الأزمات الاقتصادية بقيمة 110 مليار يورو. وتهدف الخطة إلى خفض العجز في الميزانية بنسبة ضخمة وهي 39.7%، عن طريق اقتطاع جزء كبير من الأجور والمعاشات والخدمات.
وأصبحت الحكومة اليونانية، وفقاً لتلك الخطة، مستعدة لبيع خطوط السكك الحديدية وقطاعي البريد والكهرباء والبنوك الحكومية، إلخ. وعلى الرغم من أن الحكومة الاشتراكية في اليونان قد خفضت إنفاقها بنسبة 10% (أي أقل بـ 4.5% مما أوصى به الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي)، إلا أن ذلك قد أثر بالسلب على اقتصاد اليونان؛ فالقدرة الشرائية قد انهارت وتراجعت إلى النسبة التي كانت عليها عام 1984، مما أدى إلى تدهور الاستهلاك بشكل كبير. كما ارتفعت نسبة البطالة إلى 12.1% في 2010، ويتوقع خبراء اقتصاديون زيادتها 14.3% هذا العام. بينما يتوقع اتحاد النقابات (GSEE) أن تصل النسبة إلى 20% أو أكثر، أي النسبة التي كانت عليها البطالة عام 1960 عندما كان عشرات الآلاف من اليونانيين يهاجرون بحثاً عن فرص عمل. ذلك بالإضافة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.5% في الربع الثاني من 2010، وبحلول نهاية ذلك العام كان قد هبط بنسبة 4%. أما في أيرلندا، تسعى الحكومة، في إطار خطة تقشف اقتصادي شديد القسوة، لسداد قرض بقيمة 90 مليار دولار كان قد تم منحه لها من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لإنقاذ البنوك الأيرلندية من الإفلاس، على أن يتم السداد بفائدة قيمتها 5.51%.
واليوم، تتصدر البرتغال اهتمام الأسواق المالية؛ حيث أصبحت الحكومة في حاجة إلى تمويل عاجل لدعم القطاع المصرفي وتثبيت وضعها. وترى الحكومة أنه لم يعد هناك مفر من التقشف في ظل هذا الوضع الذي ينذر بأزمة أخطر، فالعجز المالي يصل إلى 12 مليار يورو (16 مليار دولار). لذا تسعى الحكومة البرتغالية إلى توفير خمسة مليارات يورو سنوياً من خلال اتباع برنامج تقشف اقتصادي.
ولتكتمل الأزمة، هناك مخاوف من وضع البرتغال، واسبانيا أيضاً، إذ أنكلتا الدولتين لديهما عجز في الميزانية مشابه لذلك الذي في أيرلندا واليونان، ويمكنأن تكونا في طابور الانتظار للحصول على خطة إنقاذ. هذا في الوقت الذي تصل فيه نسبة البطالة في البرتغال إلى 10.9%، وتتخطى الـ18% من قوة العمل في أسبانيا*.
وفي حين كان الهدف من المساعدات الضخمة التي استقبلتها اليونان في مايو 2010، هو تفادي سلسلة من الأزمات والغضب الشعبي في البرتغال واسبانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي، انقلب السحر على الساحر وأصبحت دول الاتحاد تتساقط في تتابع مثير كقطع الدومينو.
لكن في نفس الوقت، لازالت الحكومات في أوروبا تصر على أن سياسات التقشف ستمكنها من سداد الديون وتجاوز الأزمة، وتحقيق نسب أعلى في معدلات النمو الاقتصادي في المستقبل. حيث أن ما تتضمنه خطط التقشف من تقليص للأجور سوف يسمح، فيما بعد تجاوز الأزمة، بدرجة أعلى من جلب الاستثمارات وبالتالي رواج نسبي في العملية الاقتصادية. هذه الأطروحات والتصورات حول جدوى خطط التقشف ليست جديدة على الإطلاق. ففي بداية الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي، كان رئيس الولايات المتحدة، هربرت هوفر، ووزير ماليته، أندريو ميلون، يطرحان أن قوى السوق سوف تعرف طريقها لإنعاش الاقتصاد بمجرد أن تنخفض أجور العاملين بشكل كافي. وبتطبيق خطط تقشف شديدة القسوة، لم يتم حل الأزمة ولا إنقاذ الرأسمالية من فخ الكساد الاقتصادي الذي أوقعت نفسها فيه، بل أن الهبوط ظل مستمراً بدرجة هائلة، جاذباً معه قطاعات كاملة من الاقتصاد إلى الانهيار لعدة سنوات.
لقد أثبتت خطط التقشف، منذ سبعين سنة، فشلها في انتشال الرأسمالية من أزمتها، بل أنها عمقت تلك الأزمة. وفي وسط تلك العاصفة صعدت أفكار الاقتصادي البريطاني، جون ماينارد كينز، كطريق بديل يؤدي لباب خلفي للهروب من الأزمة. حيث طرح كينز أن زيادة الإنفاق الحكومي والتدخل المباشر من قبل الدولة في الاقتصاد، سوف يحفز الطلب والشراء والاستهلاك، وبالتالي يعيد تدوير العملية الاقتصادية بدون أزمات.
وخلال فترة الانتعاش الطويلة التي عاشتها الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينات، تبنت الدول الرأسمالية أطروحات كينز كعقائد ثابتة يتم الدفاع عنها بشكل ديني. لكن بعد أزمة الرأسمالية في منتصف السبعينات، وخلال العقود الثلاثة التي عقبتها، تخلى اقتصاديو العالم عن الكينزية، باعتبار أن تدخل الدولة في العملية الاقتصادية هو نفسه السبب الحقيقي وراء الأزمات الاقتصادية.
وبالرغم من أن الأزمة العالمية اليوم تشبه في الكثير من الجوانب أزمة الثلاثينات، إلا أن الحكومات الرأسمالية لا تستطيع أن تتبنى الحلول الكينزية مرة أخرى كما فعلت منذ سبعين عاماً. إذ أن البنوك الكبرى والمؤسسات المالية الدولية قد رفعت نسب الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة (خاصة في الحالة اليونانية)، خوفاً من عدم قدرة الحكومات على تسديد الديون. وهذا ما يفسر اندفاع حكومة بعد أخرى في أوروبا في الشهور الأخيرة، نحو تبني برامج تقشف اقتصادي وتطبيق إجراءاتها.
وهكذا نستطيع إذن أن نقول إجمالاً أن الرأسمالية لم يعد أمامها سوى طريق واحد، تعبر به على أجساد العمال والفقراء هرباً من هذه المرحلة الحرجة من أزمتها. هذا الطريق ليس مفروشاً بورود الانتعاش الاقتصادي بالتأكيد، لكنه محفوفاً بألغام المقاومة العمالية والاجتماعية.
مؤشرات المقاومة الاجتماعية اعتبر العمال خطط التقشف إعلاناً للحرب من جانب الحكومات، التي ضخت تريليونات الدولارات لإنقاذ البنوك والشركات الكبرى من الإفلاس، والآن تريد من الجماهير أن يدفعوا الثمن. وحتى قبل البدء في تنفيذ إجراءات تلك الخطط، بدأت الدعوات إلى الإضرابات العامة والمسيرات الحاشدة في الانطلاق. ففي اليونان،اختتم العمال نضال عام 2010 بإضراب عام نظموه في 15 ديسمبر، وهو الإضراب السابع في هذا العام وحده، لمواجهة خطط التقشف التي عمدت الحكومة إلى تنفيذها بعد فترة طويلة من الوعود بعدم تخفيض الأجور أو المساس بالخدمات الاجتماعية.
شهدت تلك الموجة من الإضرابات حضوراً جلياً من جانب الطبقة العاملة، ومنذ مايو 2010، شاركت كل القطاعات العمالية الرئيسية في الإضرابات، من قطاع الكهرباء إلى القطارات إلى المجالس البلدية والمدرسين، إلخ. إلى درجة أنه في مايو السابق، اضطرت بعض المظاهرات التي دعا إليها الحزب الشيوعي اليوناني وبعض النقابات، للانضمام إلى بعضها لضيق المساحة في وسط العاصمة أثينا، وكانت تلك المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. وفي البرتغال، شارك ما يقرب من 3 مليون عامل في الإضراب العام الذي دعت إليه النقابات في نوفمبر الماضي. واستطاع الإضراب أن يشل حركة الموانئ والقطارات، وأن يعطل قطاعات هامة مثل المصارف والإعلام وتوزيع الوقود.
فيما شهدت اسبانيا أول إضراب عام في البلاد منذ 8 سنوات، وقد شارك فيه حوالي 10 ملايين عامل، أي ما يقرب من نصف قوة العمل. وفي إيطاليا، شارك مليون عامل، في أكتوبر الماضي، في مسيرة جابت العاصمة روما، احتجاجاً على تقليص إنفاق الحكومة بقيمة 22 مليار يورو.
أما في فرنسا، فقد وصلت الحركة إلى أوجها، حيث بلغ عدد المتظاهرين يومي 12 و19 أكتوبر إلى 3.5 مليون متظاهر، ليس فقط احتجاجاً على قانون مد سن التقاعد من 60 إلى 62 سنة، بل للتعبير عن غضب متصاعد ضد سياسات ساركوزي المعادية للجماهير والعنصرية والقمعية، وأيضاً للشعور بالظلم المتراكم منذ بدء الأزمة الاقتصادية.
وفي بريطانيا، انطلق عشرات الآلاف من طلاب الجامعات والمحاضرين، نوفمبر الماضي، في مظاهرات ضخمة في كبرى مدن المملكة المتحدة، مثل لندن ومانشستر وبريستول وأدنبره، احتجاجاً على زيادة المصاريف الدراسية. وبرغم ذلك فقد أقر مجلس العموم البريطاني يوم 9 ديسمبر، بأغلبية طفيفة، قانوناً يرفع رسوم التعليم الجامعي بحوالي 3 أضعاف إلى 9 آلاف جنيه استرليني.
وبالرغم من تصويت برلمانات أوروبا في صالح خطط التقشف الاقتصادي، إلا أن المعركة من أجل إسقاط تلك الخطط لازالت مستمرة. فالمسألة ليست بالقوانين بل بتوازن القوى بين الحركة العمالية والجماهير وقوى اليسار الراديكالي من جهة، وبين الحكومة ورأس المال واليمين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، نجحت موجة من الاحتجاجات العمالية في القطاع العام في فرنسا عام 1995، في إيقاف خطة حكومة المحافظين آنذاك لتعديل نظام المعاشات. وفي 2006، تصدى العمال والطلاب الفرنسيون لقانون العمل الموحد، وهذا يدلل على إمكانية التصدي لخطط التقشف برغم موافقة برلمانات أوروبا عليها.
على جانب الحكومات، فقد واجهت تلك الموجة الضخمة من الاحتجاجات بشتى الطرق. فمن ناحية تم إطلاق العنان لوسائل الدعاية الجبارة التي لم تتوانى عن شن هجوم إعلامي واسع النطاق على الإضرابات والمظاهرات، ومطالبة جماهير العاملين بقبول خطط التقشف وتقديم مزيد من التضحيات لدفع ثمن الأزمة، ولم يحدث ذلك فقط في أوروبا، بل أيضاً في الولايات المتحدة. هكذا، على سبيل المثال، كتبت النيويورك تايمز أن العمال الأمريكيون “يتقاضون أكثر مما يستحقوا، وذلك بالمقارنة بعمال نفس القطاعات في بلدان أخرى، كالصين مثلاً”.
ومن ناحية أخرى، تم استخدام العنف لقمع بعض من تلك الاحتجاجات، مثلما حدث في مظاهرات بروكسل، سبتمبر الماضي، والتي وصل عدد المشاركين فيها إلى 100 ألف متظاهر، وتم القبض على 218 منهم بتهمة ممارسة العنف. أو كما حدث في مظاهرات الطلاب في لندن، وإضراب عمال تكرير البترول في فرنسا أكتوبر الماضي.
بالإضافة إلى أن نفس تلك الحكومات كانت قد نكثت بكافة الوعود التي قد تعهدت بها من قبل. ففي فرنسا لم يطرح ساركوزي مشروع رفع سن التقاعد في حملته الانتخابية، بل أعلن قبل أربعة شهور من انتخابه أن “سن الستين للتقاعد يجب الحفاظ عليه”. وفي بريطانيا، تعهد حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي يشارك في الائتلاف الحكومي مع حزب المحافظين، خلال حملته الانتخابية، بعدم زيادة رسوم التعليم الجامعي.
أما على جانب الاحتجاجات نفسها، فإن إحدى أهم السمات الإيجابية في تلك الموجة هي التأييد الشعبي الواسع للاحتجاجات، سواء كانت إضرابات عامة (فرنسا، اليونان، اسبانيا، البرتغال) أو مسيرات للعاطلين (أيرلندا) أو تظاهرات طلابية واحتلال للجامعات (إنجلترا). فعلى سبيل المثال، قد بينت استطلاعات رأي في أكتوبر الماضي أن 71% من الفرنسيين يؤيدون الإضرابات العمالية، حتى بالرغم من إيقاف حركة القطارات والطيران، والنقص في الوقود، إلخ. فغالبية جماهير أوروبا من عمال وفقراء قد سئموا من هجمات حكوماتهم المفعمة بالأكاذيب. سمة إيجابية أخرى لموجات الاحتجاجات اليوم، وهي درجة التقارب والتشابك بين القطاعات المختلفة من الجماهير، والتي أخذت أبعاداً أكثر عمقاً.
ففي البرتغال شارك عمال القطاعين العام والخاص في الإضراب العام لأول مرة منذ عشرين عاماً. وفي فرنسا شاركت مختلف القطاعات العمالية في الإضرابات والتظاهرات العملاقة التي زلزلت شوارع باريس وباقي المدن الكبرى، كما شارك أيضاً طلاب من 350 مدرسة ثانوية. وفي أيرلندا كان العمال والعاطلين يشاركون سوياً كتفاً بكتف في المسيرات الرافضة لخطط التقشف.
إن مجمل المؤشرات السياسية لموجة الاحتجاجات في أوروبا تدل على أن الطبقة العاملة، التي تصدرت النضال الجماهيري ضد برامج التقشف، لديها الثقة والجرأة اللازمة للقتال ضد الحكومات الرأسمالية. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الأحداث يمكن أن تؤهل لأوضاع ثورية في أوروبا بسهولة أو في وقت قصير.
بين الإصلاحي والثوري
صحيح أن الاتحادات النقابية قد لعبت أدوراً محورية في تعبئة العمال في المعركة ضد خطط التقشف، لكن وضعية النقابات في المجتمعات الرأسمالية تحجزها في خانة الوسيط بين الحكومات وأصحاب العمل من ناحية، وبين جماهير العاملين من ناحية أخرى، وهذا الدور الوسيط يجعل النقابات نفسها عاجزة –إن لم تكن غير راغبة- عن استكمال المعركة إلى النهاية.
وهكذا رأينا النقابات تسعى فقط لانتزاع بعض الحقوق لتحسين شروط العمل وظروف المعيشة، وتقبل التفاوض، وأحياناً التنازل أمام الوعود الاقتصادية التي تلقيها الحكومات عندما تتعرض للضغط الجماهيري المنظم من أسفل.
ولذلك فإن سيطرة قيادات النقابات على الحركة يشكل، بلا شك، عقبة في طريق تطورها للأمام. فتلك القيادات تريد إسقاط خطط التقشف، لكنها تخاف من أن تتجاوز التعبئة العمالية والجماهيرية حدود قدرتهم على السيطرة والتحكم في الحركة.
لذا يصرون على استراتيجية أيام محددة ومنفصلة للاحتجاج والإضراب، ويعارضون الإضرابات المفتوحة التي تستطيع شل الحكومات وإجبارها على التراجع. وبالتأكيد يؤدي ذلك إلى تقييد الحركة الجماهيرية المتصاعدة ووضعها في حدود لا تشكل خطراً على الرأسمالية؛ فالحكومة وأصحاب الأعمال يستطيعون تحمل خسائر إضراب عام يوم واحد، لكن لا يستطيعون تحمل عواقب إضرابات مفتوحة تخسف بالأرباح.
هذه هي نقطة الضعف الرئيسية في الحركة اليوم، وهو الأمر الذي يفسر قدرة الحكومات على الاستمرار في تطبيق إجراءات التقشف والمضي فيها على قدم وساق، بالرغم من أن حركة الاحتجاج اليوم في أوروبا هي الأكبر منذ 1968.
لقد رأينا ذلك، ليس فقط في أوروبا، بل أيضاً في مناطق متفرقة من العالم. ففي جنوب أفريقيا مثلاً، بالرغم من استجابة 1.3 مليون عامل لدعوة النقابات للإضراب العام في أغسطس 2010، فقد قبلت القيادات النقابية مساومة الحكومة بزيادة الأجور بنسبة 7.5%، في حين كان المطلب المركزي للعمال هو زيادتها بنسبة 8.6%. ومن ثم دعت القيادات النقابية لإنهاء الإضراب برغم معارضة أغلبية المشاركين فيه.
وبالمثل، فإن الاتحادات الطلابية أيضاً قد تلعب هي الأخرى أدواراً سلبية قد تؤدي إلى تراجع النضال خطوات للخلف. هكذا رأينا آرون بورتر، رئيس الاتحاد الطلابي في إنجلترا، على شاشة البي بي سي، يدين ويستنكر احتلال الطلاب المحتجين لمقر حزب المحافظين الحاكم في ديسمبر الماضي، واصفاً زملاءه بـ”المخربين”.
لكن وبشكل عام، فقد تبلور، في ظل هذه الأوضاع، ثمة اتجاهين في الجدال الدائر بين الإصلاحيين (الأحزاب الشيوعية التقليدية وأحزاب اليسار الإصلاحي) واليسار الثوري في أوروبا. أحدهما يقول أن الهجمة التي تشنها الحكومات الرأسمالية قد تم بالفعل التصويت لصالحها في البرلمان، وبالتالي فإن مزيد من النضال أمر لا طائل منه، وعلى اليسار أن يضبط صفوفه جيداً من أجل أن يحظى بمقاعد أكثر في البرلمان ويستطيع من خلال ذلك أن “يدير الأمور” بدون تقشف أو أي هجمات على الجماهير. أما الاتجاه الآخر فيمكن تلخيصه في أنه سيتم الحكم على جميع الأمور في الفترة القصيرة المقبلة؛ “فإما الثورة وإما لا شيء”.
وفي الحقيقة فإن كلا الاتجاهين ينكران قدرة الطبقة العاملة على قيادة كفاح منظم على المدى الطويل ضد الرأسمالية. فالأول شديد التشاؤم ومُمعن في الاستبدالية ويُصوّر الأمر وكأن المعارك الحقيقية تدور في قاعات البرلمان وليس في أماكن العمل والجامعات والأحياء. والثاني شديد التسرع مما يجعله يرى الأمور بشكل سطحي.
أما اليسار الثوري، فيرى أن الضمانة الأساسية لانتصار النضال ضد إجراءات التقشف، هو مد المعركة على استقامتها للنضال ضد الرأسمالية ذاتها. فلا يمكن التحرك لإجبار الحكومات على التخلي عن برامج وخطط التقشف الاقتصادي بدون تقديم بدائل اقتصادية وسياسية للأوضاع القائمة، وإلا سوف يسير اليسار الثوري بدون بوصلة سياسية حقيقية يسترشد بها. لكن في نفس الوقت، لا يستطيع اليسار الثوري طرح سلطة الطبقة العاملة وبناء المجتمع الاشتراكي، كبديل مباشر للمجتمع الرأسمالي أثناء المعركة الراهنة. فمن ناحية لم تتطور المعارك الجماهيرية ضد سياسات التقشف إلى درجة تحدي المنظومة الرأسمالية ككل. كما أن خروج مئات الآلاف والملايين في شوارع المدن الرئيسية في أوروبا لرفض تحميلهم ثمن الأزمة، لا يعني أنهم يمكن أن يتبنوا الخيار الاشتراكي الثوري بشكل مباشر. ويعود ذلك لعدة أسباب منها سيطرة القيادات النقابية الإصلاحية على الحركة والنفوذ الواسع للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية التقليدية التي ارتمت في أحضان الإصلاحية منذ زمن.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن طرح الخيار الاشتراكي الثوري بشكل مباشر دون ترجمة استراتيجية هذا البديل في صورة تاكتيكات عملية على أرض المعركة؛ فمن دون ذلك ستبدو استراتيجية اليسار الثوري جوفاء ومقطوعة الصلة بالأسئلة العملية التي تطرحها الجماهير أثناء معركتهم ضد التقشف. وهذه التاكتيكات نفسها لا يمكن أن تنشأ سوى من الاحتياجات الراهنة والملحة لنضال الطبقة العاملة.
لذا فإن مفتاح الحل بالنسبة لليسار الثوري في أوروبا هو طرح مطالب راديكالية ملموسة تناقض بشكل كامل وتتحدى الركائز الأساسية التي تستند إليها الرأسمالية: استغلال العمل المأجور ومراكمة الأرباح. ويمكن وصف هذه المطالب بأنها مطالب انتقالية حيث أن تنفيذها يقتضي، في المقام الأول، فتح أبواب الصراع المباشر مع الرأسمالية والمنظومة السياسية لها.
ويمكن اختصار هذه المطالب الانتقالية في: الامتناع عن دفع الديون، وتأميم البنوك والشركات الكبرى، وإعداد برنامج اقتصادي مركزي للاستثمار العام. والمنطق الذي تُطرح به هذه المطالب ليس لإصلاح الرأسمالية أو إنقاذها، بل لخوض معارك مباشرة معها *.
ولا يعني ذلك التخلي عن الهدف النهائي للاشتراكية الثورية (الثورة الاشتراكية والقضاء على الرأسمالية)، بل طرح مطالب مرحلية ملموسة تؤدي إلى ذات الهدف.
وقبل أي شيء، يحتاج أي برنامج راديكالي لإرادة سياسية وقوى اجتماعية هائلة من أجل أن يتحول إلى واقع حي. وهذا يعتمد بالتأكيد على استمرار تطور الحركة ضد خطط التقشف أو على الأقل حفاظها على الاتساع والعمق التي وصلت إليهما، وهذا ما سترينا إياه الشهور والسنوات القادمة.
_________________
اعتمدت المعلومات الواردة بهذا المقال على المصادر التالية:
1) سامح نجيب: الأزمة المالية العالمية: الزلزال والتوابع، مركز الدراسات الاشتراكية، نوفمبر 2008.
2) المؤتمرات العالمية الأربع الأولى للأممية الشيوعية.
3) Austerity politics: International Socialism Review, Issue 128, October 2010.
4) Lee Sustar: the return of austerity, June 2010, www.socialistworker.org
* للإطلاع على تطور الأزمة الاقتصادية في دول أوروبا الشرقية، يُرجى مطالعة دراسة “عشرون عاماً على ثورات أوروبا الشرقية”.
* إن تاكتيك المطالب الانتقالية وبرنامج الحد الأدنى ليس جديداً على اليسار الثوري، بل أنه مستمد من تراث النضال ضد الرأسمالية. ومن أجل رسم صورة واضحة لذلك، سنستعير الفقرة التالية من الثوري الروسي ليون تروتسكي في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية عام 1921: “لا تقدم الأحزاب الشيوعية برنامج حد أدنى من أجل تعزيز أو تحسين الرأسمالية، بل أن القضاء على الرأسمالية ذاتها يعد المرشد الحقيقي لكل مهامنا الحالية. لكن لإنجاز ذلك يجب طرح مطالب تمس الاحتياجات المباشرة والعاجلة للطبقة العاملة.. مجموعة من المطالب الانتقالية التي تشن صراعاً مفتوحاً مع سلطة البرجوازية”.