بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

«اشتباك».. بين السينما والواقع

على عكس البقية، حظى الفيلم قبل صدوره بجدلٍ بين دعم شباب مَسّهُم حلم الثورة، وبين تعتيم الدولة وحكومتها ووزارة ثقافتها. فهل استحق ما قدمه ذلك الدعم؟ وهل تضمن على ما استحق محاولات منعه من العرض؟ لِنرى.

“بعد ثورة 30 يونيو قامت اشتباكات دامية قادها الإخوان المسلمين لتعطيل الإنتقال السلمي للسلطة”.. بهذا بدأ “اشتباك”. تمهيداً لما سيلحق هذه الفاتحة من مشاهد تفسر ذلك الاعتراف بـ30 يونيو كثورة شعبية، ووصف الانقلاب بالانتقال السلمي للسلطة، والمبالغة في تصوير دموية المعارضة الإسلامية مقارنة بعنف الدولة.

الطرف الثابت دائماً في أي اشتباك لم يكن كما عرفناه طوال 3 سنوات في مصر خصوصاً، ومنذ نشأة جهاز الدولة في المجتمعات الحديثة عموماً، فقد حظي رجال الشرطة خلال أحداث الفيلم بأدوار إنسانية لا تليق بهم في الواقع، فيصوِّر أحد المشاهد ضابط الشرطة الذي يعتقل المارة في الشوارع وهو ينظر بعين غلبتها العاطفة للنساء والأطفال الذين اعتقلهم قائلاً “ماتخافوش أنا عندي اخوات بنات وعندي أطفال زيكم” تقريباً. ولأن الواقع ليس دائما كما أفلام السينما، فرجال الشرطة أو أعضاء الطبقة الحاكمة عموماً لن تجدهم يساوون أولادهم بأولاد الشعب الذين يعتقلون منهم أكثر من 3200 طفل قاصر في السجون المصرية منذ 3 يوليو 2013 حسب آخر إحصائية نشرها فريق الاعتقال التعسفي بالأمم المتحدة في يوليو الماضي، منهم مَن أُصيبوا في المعتقل بالصرع والتبول اللا إرادي وتشنجات جراء تعرضهم للضرب المبرح والصعق بالكهرباء على أيدي رجال الشرطة، أو أكثر من ذلك.

وبالطبع لا يعتبرون المعتقلات كأخواتهم كما أشار الفيلم، إلا إذا كانوا يتحرشون بأخواتهم ويغتصبونهن جنسياً داخل مدرعات وأقسام الشرطة. فحسب آخر تحديث أصدرته التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، فإنه منذ تاريخ الإنقلاب في 2013، اشتكى العشرات من النساء والفتيات لتعرضهن للتحرش والاغتصاب الجنسي من قِبَل رجال الأمن، من إجمالي 1993 أُخريات جرى اعتقالهن خلال الفترة الآنف ذكرها منهن من لم تستطع التصريح بما تعرضت له من انتهاكات.

أما أطراف الاشتباك المقابلة فقد اختُزلت جميعها في فصيل واحد؛ المعارضة الإسلامية التي يغلب عليها الطابع المسلح في السيناريو، لا معارضة مدنية للإنقلاب! وبهذا ساهم صُنّاع الفيلم في تدعيم سلطة الإنقلاب في الفكرة التي تصدرها عن الصراع السياسي الدائر في مصر منذ الإنقلاب باعتباره صراع بين “مرسي والسيسي”، وليست معركة بين الثورة والثورة المضادة.

واستمراراً في تشوية المعارضة، شهدت أحداث الفيلم مبالغة أسطورية في تصوير قوة المعارضة مقارنة بالعنف المسلح للدولة. حتى أن فرد واحد استطاع إرباك تشكيل أمن مركزي كامل، وأردى أحد الضباط قادة التشكيل قتيلاً وأصاب العديد من الضباط، وحده! وغيره من الاشتباكات التي دائماً ما تبدأ بها المعارضة – المسلحة دائماً – مع الشرطة التي تلتزم بأقصى درجات ضبط النفس، ولا تتعرض للمظاهرات الاحتجاجية إلا بخراطيم المياه أو الغاز على أقصى تقدير، للدفاع عن أنفسهم من بطش الثوار، لا تسليح بالرصاص حي ولا الخرطوش!

بعد 97 دقيقة ينتهي المشهد الأخير، ليترك قناعة لدى المشاهد غير الواعي بأن ضحايا العنف في الاشتباكات مؤخراً في مصر ما هم إلا ضحايا لهمجية الشعب ضد بعضه؛ اعتداء مؤيدين للنظام على معارضيه أو العكس، باعتبارها حرب أهلية، وليس على أنه نظام وحشي يقمع المعارضة.

على الجانب الآخر، فقد قدّم الفيلم عرض صريح لأول مرة في السينما المصرية لقضية الاعتقال العشوائي، الذي طال المارة في الشارع، المؤيد منهم والمعارض، الطفل والكهل، الرجل والمرأة. فضح الفيلم بجرأة ذلك الجانب من نوبات السعار الأمني. تلك الجرأة طالت أيضاً لغة الحوار، فتحدث شخصيات الفيلم بلسان الشعب وتعبيراته وسُبابه بدون مواراة. كما نجح الفيلم في تمثيل دور عسكري الأمن المركزي، بين كونه يد النظام التي يبطش بها، وبين كونه ضحية الفقر والتعليم المتدني والتجنيد الإجباري والتدريب الهش، وللقمع الذي يتعرض له حال امتناعه عن تنفيذ الأوامر أو مخالفتها.

وإذا جاز الفصل بين المستوى الفني للفيلم ومدى تعبيره الصادق عن الواقع، حينها يمكن الإشادة به كعمل سينمائي متميز؛ فاستطاع المصور التغلب ببراعة على الملل الذي قد يتولد لدى المشاهد جراء اقتصار الأحداث كلها على مكان تصوير واحد – سيارة الترحيلات – وإضفاء مسحة من التلقائية على حركة الكاميرا كأنها عين المشاهد يرى بها الأحداث. وخلا الفيلم إلا من موسيقى تصويرية هادئة وبطيئة الإيقاع ولم يحتَج الفيلم الصاخب بالفعل أكثر من ذلك.

ذلك وبالرغم من كم التنازلات التي قدمها صُنّاع الفيلم للسُلطة للتصريح بعرضه، إلا أن التعتيم الدعائي الذي أصاب الفيلم كان جلياً، ظهر ذلك قبل عرض الفيلم في تصريح من المخرج اشتكى فيه من التعنت الذي يلقاه الفيلم من قِبَل المسئولين في جهاز الرقابة التابع لوزارة الثقافة. ما أنعكس بالفعل على الأعداد القليلة نسبياً عن المتوقع التي اهتمت بمشاهدة الفيلم في دور العرض. قطعاً ذلك لا يُبرر الدعاية التجارية المبتذلة التي لجأ لها المسئولين عن التسويق أمام دور العرض بوضع استاند كارتوني على هيئة قضبان زنزانة ودعوة الجمهور لالتقاط الصور التذكارية خلف القضبان في شيء من الفكاهة في غير محلها على الإطلاق.

الاعتقال السياسي هو انتهاك فَج، يعاني منه الآن مئات الآلاف في السجون المصرية في الحين الذي يصوره التسويق للفيلم باعتباره تجربة مُسلية أو على أقل تقدير اعتباره مظهر نمطي نعتاد عليه ولا نبغضه فلا نقاومه، أتتاجرون بهذه المعاناة من أجل جني المزيد من الأرباح؟

إجمالاً، كان “اشتباك” أدنى من المتوقع، علنا نتعلم ألا نعوِّل على أي عمل فني – أو غيره – يخضع لرقابة تلك الدولة، فتلك الدولة عقيمة لا تلدُ إلا سقطاً. لن يعبر عنا ويحمل آمالنا ويناقش قضايانا إلا سينما ثورية نصنعها نحن بأنفسنا في نوادي سينما مستقلة؛ في الجامعات والمصانع والشوارع العامة، بعيداً عن دور العرض الرسمية الخاضعة لرقابة الدولة.

أخيراً، وبرغم كل ذلك نرشح لكم مشاهدة الفيلم، شاهدوه ولاحظوا تفاصيله وفكروا فيها وتناقشوا عليها. مثل ذلك العمل الفني يفتح الباب أمامنا للنقاش، ونحن لا نريد منه أكثر من ذلك الآن.