حنظلة.. الذي لن يموت أبدًا

بعد 39 يوما من الغيبوبة والصراع مع الموت، استشهد الرسام الفلسطيني ناجي العلي بلندن في 29 أغسطس 1987 إثر إطلاق رصاصات الغدر على رأسه على يد مجهول. لم يتم تحديد الجاني بعينه، رغم سلسلة اغتيالات وتهديدات طالت المقاومين من الأدباء الفلسطينيين.
“اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت”
وُلد العلي في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، تعرض للتهجير إبان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين حيث أقام في مخيم عين الحلوة بلبنان. اعتقلته القوات الإسرائيلية صغيرا لنشاطاته المعادية للاحتلال، فقضى أغلب وقته داخل الزنزانة يرسم على جدرانها. كما اعتقله الجيش اللبناني أكثر من مرة وكان هناك أيضاً يرسم على جدران السجن.
يصف علي فرازات، رسام الكاريكاتير السوري الذي حطم أصابعه شبيحة الأسد مع اندلاع تظاهرات 2011، العناصر التي اعتمد عليها العلي في رسوماته: ”الشخصيات التي استخدمها هي شخوص من شرائح اجتماعية لها انتماء وطني. هناك “المتكرش” الذي يمثل الأنظمة العربية والذي اختصره إلى أصبح في رسوماته مجرد “مؤخرة”، والمواطن الصالح ابن النكبة الذي تحمل كل مصائب الوطن وأصبح سلعة تُباع وتُشترى، وفاطمة التي تمثل فلسطين الأرض، وحنظلة الشاهد الدائم على كل ما يجري”، ووفقا للعلي فإن “حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية.. ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.. ولقد قدمته للقراء وأسميته حنظلة، كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني، لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني وإنساني”. وعندما سُئل ناجي العلي، في الأحاديث الصحفية، عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول: “كتفته بعد حرب أكتوبر 1973؛ لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”.
المقاومة تصنع فنا
في تاريخ الفن، تمثل الحروب محور هام في تشكيل الفنون وعناصرها. فبعد 15 مايو 1948 حين أصدرت الأمم المتحدة قرارا بتقسيم فلسطين، ما يعني إفلات سفاحي الصهاينة وتشرد حلم العودة، ظهر الفن الفلسطيني ليعبر عن مأساة وطن طبع آلامه على تاريخ شهد أبشع أنواع التنكيل التي مارستها العصابات الصهيونية والمذابح الجماعية والتهجير القسري بحق الفلسطينيين. فن تبلور باستخدام عناصر جديدة فرضها الواقع الجديد في توظيفها الحي؛ لتتداخل تلك العناصر في لوحات عبرت عن الغربة في الخيمة، والقتل في الدماء والجثث، والتهجير في الأفراد البشرية المشردة والوجوه الباكية. بل بالأدق، يمكننا ملاحظة الرمزية التي فرضتها النكبة في الفنون في صورة “مفتاح الدار” كناية على عودة الفلسطينيين. وهي بالمناسبة نفس الرمزية التي يستخدمها الآن الفنانون السوريون المستقلون بعد تهجير نصف الشعب، كما في فيلم “باب شرقي” وهو أول فيلم روائي عن الثورة السورية وتم عرضه عالميا.
لكن على الجانب الروائي، كانت القدرة التعبيرية أكثر وضوحا، ففي نفس تلك الفترة وعلى امتداد الخمسينيات والستينيات، تناول الأدب الفلسطيني الروائي عناصر الغربة، وأبدع غسان كنفاني، أحد أبرز الأدباء الفلسطينيين والذي اغتالته يد الغدر أيضا، في تصوير آلام المخيم ومشاعر الحرمان والغربة والأسى حيث امتزجت تلك الآلام بمفاهيم الصمود والقوة والفداء (كما في رواية أم أسعد) وبالخلاص المسلح (كما في رواية القميص المسروق)، وهي جميعها عناصر لم تتح للفنون المرسومة تجريدها بنفس الوضوح، فيما غاصت جدلياته الأدبية عن مفاهيم الوطن والتفريط (كما في رائعته: عائد إلى حيفا).
لكنه، ومع أواخر الستينات حيث انطلاق شرارة المقاومة المسلحة، اتخذت الفنون بعدا أكثر جرأة يتلاءم مع استخدام المقاومة فنونا قتالية أشد. ظهرت في تلك الفترة رسومات ناجي العلي التي أحدثت طفرة مشهودة لتمزج بين الفن المرسوم المجرد الرمزي وبين القدرة على إيصال فكرة قوية دون عمل روائي. استطاعت رسوماته أن تخترق بعنف، ونفذت سريعا إلى الملايين، لتتحول مع توالي الأحداث إلى مواقف سياسية ناقدة وشديدة الحدة، فيما أشارت بوضوح إلى تحميل الأنظمة العربية مسئولية ضياع شعوبها في الانقسامات الطائفية الداخلية والمهادنة والتذيل لأمريكا وحليفتها إسرائيل.
فن المقاومة وفن السلطة
“أنا متهم بالانحياز وهاي تهمة ما بنفيها، أنا أصلا مش محايد، أنا منحاز للناس، الناس اللي بيرزحوا تحت نير الأكاذيب وصخور القهر والنهب وحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز للي بيناموا بمصر بين القبور، واللي بيقضوا لياليهم بلبنان يشحذوا سلاح”.. لكن انحيازات منظمة التحرير الفلسطينية كان لها رأيا آخر!
وفقا لأحاديث أخيه بالوثائق التسجيلية المختلفة، فمنظمة التحرير الفلسطينية حاولت مرارا مراجعته في خط النقد اللاذع والحاد الذي انتهجه تحديدا في السنين الأخيرة، إما بعروض مالية وإغراءات لموالاة السلطة أو بتأنيب مباشر وجها لوجه في مقابلة له مع ياسر عرفات. كانت أحد أهم الاتهامات العبثية الموجهة له هو التحول من التعبير عن الموقف السياسي إلى شخصنة واضحة لأطراف سياسية فلسطينية وعربية على سبيل السخرية، رغم أن الموقف المهادن والمتخاذل هو ما يصنعه السياسيون ذاتهم. بل على العكس ما يفضح تلك الأنظمة هو الانتقائية الشديدة في تحديد خط المعارضة الذي تقبله. فرسومات ناجي العلي أثارت غضب السلطة الفلسطينية في الثمانينات مثلا رغم أن ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية شغف بحضور حفلات فرقة “العاشقين” التي نشأت بتلك الفترة ليس فقط لإبداعهم المشهود له، لكن لأن الفن الذي يقدموه يتماشى تماما في سرد البطولات الفلسطينية أثناء حصار لبنان وتمجيد الشهيد أو التغني بفلسطين المفقودة. هذا هو الخط الفاصل الذي ترسمه الأنظمة بالنضال تحت نفس الراية. فاليد التي كانت تصفق عقب انتهاء كل أغنية، هي نفسها التي لاحت في وجه العلي بأنه “لا يحب شعب فلسطين” مع كل رسمة ينهيها!
رسومات ناجي العلي حول تعيين رشيدة مهران عضو بالأمانة العامة للكًتاب والصحفيين الفلسطينيين عقب إصدار كتابها “ياسر عرفات.. الرقم الصعب” شكلت منحى جديد في علاقته المضطربة مع منظمة التحرير، فمهران لم تكن معروفة داخل الوسط السياسي بفلسطين لكنها سرعان ما حظيت بلقب المستشار الثقافي للرئيس، وهو ما أثار استنكار العلي ولم يقدم اعتذارا عن رسوماته إثر ما اعتبروه تعديا للخطوط الحمراء. ووفقا لزوجة الشهيد، التي تناولتها الوثائق التسجيلية، فالتنبيهات لأخذ الاحتياطات الخاصة بالسلامة الشخصية جاءت مباشرة من أبو إياد قائد الأجهزة الأمنية لمنظمة التحرير بدعوى أن “شيئا ما يبدو أن يُحاك له”.. ناجي العلي ببساطة، أعلن، ضمنيا، في رسوماته أن عرفات ليس الشخص المناسب لقيادة الصراع وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل ترابها. ذكر العلي أحد مقولاته الشهيرة “كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطا أحمر واحدا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل”.
رفضت السلطة الفلسطينية دفن جثمان الشهيد في مخيم عين الحلوة، ثم تعرض نصبه التذكاري إلى التفجير بعد أن وُضع على مدخل المخيم بعد أشهر من اغتياله. ولم تحقق السلطات البريطانية في تحديد جاني بعينه لكن أصابع الاتهام تشير بالتأكيد لمن عادوا فنه.
“الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة”
في عام 2011، ومع حلول ذكرى النكبة، اقتحمت الجماهير المصرية الثورية السفارة الإسرائيلية وأسقطت العلم الإسرائيلي، كما في اعتصام فك الحصار عن غزة عام 2010 ورفض السلطات المصرية آنذاك عبور قوافل الإغاثة للقطاع، وخلال كل الأحداث الثورية التي مرت بها مصر وكل بلدان المنطقة العربية، رفع الثوار شعار حنظلة الذي كتبه ذات يوم “ثورة حتى النصر”. فبعد 29 عاما من وفاة صاحبه لم يغب حنظلة عن الشارع العربي، وعن أزقة فلسطين، وعلى الجدار العازل، كشاهد موثوق اليدين على تذيل الأنظمة العربية وتآمرها بالتطبيع وتغذية الطائفية والتجويع للشعوب.
لكن مقاومة المهادنة والتفريط لن تموت طالما بقيت القضية في عقول المقاومين.