بين عرابي ويناير: هل يُشفى محمود عبد الظاهر من هزيمته؟

لم تستمر الحركة سوى شهرٍ واحد حتى أعلن قادة الجيش المصري محاكمات عسكرية لأكثر من 30 ألف جندي وضابط متهمين بالعصاية والتعاون مع أحمد عرابي. أحدثت الحركة انقلابًا حاولت السرايا توظيفه لصالحها مع الاضطرابات السياسية العاصفة التي سبقت الاحتلال البريطاني، لتنتهي بنفي قادتها وإصدار أحكام قاطعة بين العزل والسجن، ودماء آلاف الضحايا المدنيين بعد دك مدينة الإسكندرية بقذائف الخيانة والإنجليز.
مشهدٌ آخر في ميدان التحرير، وبعد 129 عامًا، استولت الجماهير الغاضبة في تطوُّرٍ مُذهِلٍ للحركة الاحتجاجية حقَّق مكسبًا ملموسًا في تنحية رأس السلطة، مبارك آنذاك، وأحدث ارتباكًا نجحت بعده الطبقة الحاكمة في استعادة توازنها لتوقع عشرات الآلاف من المعتقلين وتُهدِر دماءً تدفَّقَت في أكبر مذبحة عرفها التاريخ المصري الحديث نفذها الجيش بحق المدنيين – رابعة العدوية.
رغم اختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية، في ظل تغيُّر بنية المجتمع المصري وعلاقاته خلال هذه العقود، فالوقع النفسي للشعور بالهزيمة لدى ثوار يناير تلاقى مع “محمود عبد الظاهر”، أحد ضباط عرابي وبطل رواية “واحة الغروب” التي نسجها الأديب بهاء طاهر، ومن ثم عُرِضَت مسلسلًا على شاشات التليفزيون، خلال شهر رمضان الماضي. فالإسقاطات التي نسجها الكثيرون حول شخصية الثوري المهزوم المتصارع في حلبة الماضي – المستقبل طرحت تساؤلاتٍ جديدة حول فهمنا للشعور بالانتصار أو الهزيمة، بل وقادتنا إلى السؤال: كيف تساهم البنية الطبقية للمجتمع في تشكيل ذلك الشعور؟ في هذه المقالة نحاول ربط التحليل بالمفهوم.
عرابي: بين حسه الوطني ودافعه الطبقي
عامان فقط من الإحباط استطاعا تغيير عبد الظاهر من ثوريٍ مُتحمِّس يؤمن بحراك عرابي إلى مأمور قسم سيوة، وظيفته الأساسية جمع الضرائب من أهالي الواحة وفقًا لضوابط وضعها الاحتلال والحكومة.
في عهد الخديو سعيد، توسَّعت المطامع الاستعمارية للخديوية وشكَّلَت التحالفات الدولية مع فرنسا محورًا جديدًا توازى مع الحروب الخارجية للدولة العثمانية. في المقابل، شهدت الصفوف الداخلية للجيش المصري تغيُّراتٍ فريدة لم تطرأ عليه (قبل أو بعد)، حيث أصبحت هناك ضرورةٌ ملحة لتجنيد المصريين بكثافة وإرسالهم في معارك خارجية (القرم والمكسيك والحبشة) بدلًا من الأتراك والشراكسة. الترقيات التي حصل عليها المحاربون فتحت مجالًا لحصول الناجين منهم على مناصب داخل الجيش لتشجيع إرسال المزيد والمزيد. بعض المصادر تؤكد تضخم ثروة عرابي، الفلاح البسيط، إلى 750 فدان خلال تجنيده وحتى تقلده منصب وزير الدفاع!
أصبح دمج المصريين، ومن ثم الامتيازات الكبيرة اللي حصلوا عليها، يصنفهم كجزء من الطبقات المقربة للسلطة في تحالف أكبر شمل كبار الإقطاعيين، وهو ما ساعد على إحداث تحولات طبقية كبيرة عند عرابي وزمرة المصريين في مناصبهم الرفيعة؛ ينتمون للمصريين الفلاحين ويشعرون بآلامهم (بحس وطني بحت) لكنهم يعملون وفقًا لآلياتِ طبقةٍ أصبحوا تشكيلًا عضويًا فيها (بدافع طبقي بحت). لكنه، ومع ظهور الأزمة الاقتصادية في عهد الخديوي إسماعيل إثر تراكم الديون، ثم اشتدادها لاحقًا، بالتوازي مع هزائم مُفجِعة مُنيت بها الدولة العثمانية في معاركها الخارجية ثم تغير عمق التحالفات الدولية، صار الضباط المصريون يتعرَّضون لاضطهادٍ بعدم ترقيتهم، ومن ثم عدم الحاجة لمنح المصريين امتيازات واقتصارها على الأتراك والشراكسة، وهو ما انعكس على نشأة صراعات داخل هذا التحالف، جسَّدته محاولة انقلاب عسكري ضد عرابي، وأصبح مدى قدرة أجنحته المتصارعة على الصمود هو المعنى الحرفي للبقاء.
على الصعيد الاقتصادي، وفي القرن التاسع عشر، اعتمد حكام الخديوية النمط الإقطاعي في تحديد وسائل الإنتاج، ومع توفر الموارد الطبيعية واستدامة عناصرها “نهر النيل والأراضي الخصبة”، حصرت الخديوية الطبقات الجماهيرية في الأعمال الزراعية وانقسم المجتمع إلى طبقات مصرية فلاحية عريضة تعاني الفقر، وطبقات إقطاعية ارتقت في ثرواتها إلى الأعيان الأتراك. ورغم بدء انتعاش قناة السويس كممر ملاحي جلب التجار إلى مصر، فالطبقة الرأسمالية الناشئة لم تكن في طور يؤهلها لتكوين طبقة عاملة عريضة. وفي ظل عدم تميزها، انتعشت على الجانب الآخر الإقطاعية الأجنبية، وتحديدًا بعد إقرار قانون المحاكم المختلطة الذي سمح للأوروبيين بامتلاك آلاف الأفدنة الزراعية، ومنافستهم لأعيان البرجوازية الفلاحية المصرية.
في مصر، اختلفت الحالة عن الدول التي شهدت التحول الصناعي وتكوين الطبقة البرجوازية. فمع نهاية القرن الثامن عشر واندلاع الثورة الفرنسية، اعتمدت إنجلترا على تحصيل الضرائب من تلك الطبقات الحديثة الناشئة عوضًا عن سنِّ قوانين ضريبية مُضاعَفة على طبقة ملاك الأراضي، وهو العكس تمامًا مما حدث في مصر حيث تطوَّرت تلك الإجراءات إلى نفورٍ وعداء مصالح بين البرجوازية الفلاحية والخديوي توفيق.
ولأن طبقة الإقطاعيين المصرية استطاعت التغلغل بتقلد السلطة والمناصب السياسية، انعكست تلك الإجراءات، مع حدة الأزمة الاقتصادية، على مدى وسرعة تنظيم تحالفتها اللحظية، بالتوازي مع التململ والسخط بصفوف الجيش، مقارنة بمدى قدرة الفلاحين على التنظيم رغم التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية المجحفة الواقعة عليهم.
في كتابه “الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي”، كتب المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: “ولو ظلت روح المساواة التي بثها سعيد في الجيش سائدة في عهد إسماعيل وتوفيق، لما قامت الثورة العرابية، لأن عرابي وصحبه لم يثوروا إلا حين طفح الكيل من محاباة أمثال عثمان باشا رفقي للضباط الأتراك والشراكسة، واضطهادهم للضباط الوطنيين”. ومن نفس الجزء كتب: “هذه الجرأة كان لها كبير الأثر في ظهور الثورة، ولو لم يظهر عرابي، ولم تكن له تلك الشخصية التي اجتذبت له صفوف الضباط وبث فيهم روح التضامن والإقدام، لكان محتملًا ألا تظهر الثورة العرابية، أو لظهرت في زمن آخر أو ظروف وملابسات أخرى”.
في هذه الظروف، انتعشت “الفكرة العرابية” بتلاؤم عناصرها وتوسيع مطالبها من “اضطهاد الضباط المصريين داخل صفوف الجيش” إلى بلورتها في “رفض التدخل الأجنبي والإملاء البريطانية – الفرنسية على الميزانية المصرية”. وهي الخطوط العريضة التي توافقت في ظاهرها مع المطالب الشعبية. على إثر ذلك شُكِّلَت “جمعية حلوان”، استقوى فيها عرابي بمشاركة باشاوات ووزراء سابقين ومحافظين وكبار الأعيان، وأطلق عليها فيما بعد “حزب الفلاحين”، وهو حزب علني ضم سلطان باشا الذي امتلك 13 ألف فدان، في حين لم يضم الحزب فلاحًا واحدًا، في مفارقةٍ واضحة عَكَسَت صراع عرابي بين حسه الوطني وانحيازات طبقته الجديدة.
لم يجد الإقطاعيون المتحالفون مع عرابي بُدًا من خيانته بالتحالف مع الخديو والأوروبيين أثناء اشتداد الأزمة مع السرايا. حُوصر عرابي في التل الكبير حتى محاكمته بالإعدام خُفِّفَ الحكم إلى النفي خارج البلاد، في حين أصبح سلطان باشا في العام الذي يليه رئيسًا لمجلس النواب!
هذه الصراعات كانت جزءًا من تشكيل “نفسية” الضباط المصريين آنذاك؛ انتماؤهم لطبقة وتشكيلهم لطبقة أخرى. التجاوز الطبقي يمنعهم من الاندماج مجددًا إلى الفلاحين، والمصالح الأكبر مع الإقطاعيين تلفظهم خارج حساباتها بمجرد استعادة توازنها مجددًا، لذلك لم تجرؤ حركة عرابي على التعبير عن المصالح المباشرة للفلاحين وربط المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما لم تستطع مواجهة الخديوي بمفردها إلا في إطار التحالف بشروط قوى السياسة والاقتصاد.
محمود عبد الظاهر، بطل الرواية، وكل ثوري مهزوم حلم بالحرية، وقع في تلك الصراعات الداخلية عندما تم تجريد الحراك في منظوره العسكري وحدوده الطبقية. صُبِغَ معنى الانتصار بمَن يملك فقط الخطط والأسلحة والفرص، وبالتالي كان شعوره العميق الأبدي بالهزيمة حتميًا أمام التفوُّق العسكري للاستعمار. وكذلك لم يجرؤ أيضًا، مثل حال العرابية، من مد خط ثورته على أفقه المستقيم، فبرغم أنه قاتَلَ وآمن بالحرية، لكن ضيق أفق ثوريته كضابط منعته من عتق مملوكته “نعمة”؛ أنكر إنسانيتها، وكانت وسيلة للتسرية فقط، والويل لها لو فكرت “تترقى”!
إخفاق القيادة وبقاء الجماهير
يقودنا كل ما سبق إلى الحديث عن الثورة، أعظم نشاط بشري عرفه التاريخ وأنبل ما يُفني فيه الثوار أعمارهم. وشأن كل عظيم، تختلف الثورة فكرةً وتعريفًا وفق مَن يتناولها وينخرط فيها. وبينما هي حلمٌ للمضطهدين، نجدها كابوسًا لمن يضطهدهم، أو تجدها عند الإصلاحيين أداةً تُغني عنها الديمقراطية البرلمانية بآلياتها، ولا عجب أن كثيرًا من الطغاة تغنوا بالثورة ونسبوا أنفسهم إليها زورًا. ولمَ لا؟! ومَن ينتسب إلى الثورة فقد وطأ الماضي بقدميه وحاز المستقبل.
إن هذا التناقض في تناول الثورة بين منتسبيها يرجع بالأساس لتناقض ما ينطلقون منه، وبالتالي تناقض أداء الثائرين – بالمعنى الأشمل – خلال الثورة كعملية خلق نظام اجتماعي سياسي اقتصادي جديد، ويستمر هذا التناقض ليصل أثره إلى ردود الأفعال إزاء انتصار الثورة أو هزيمتها. لنوضح هذا أكثر بإلقاء الضوء على بعض مشاهد في فترتين تاريخيتين بارزتين: الأولى هي الثورة التي قادها أحمد عرابي في مصر في أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر، والثانية هي الثورة الألمانية قبيل عشرينات القرن العشرين، والتي كان للثورية الاشتراكية روزا لوكسمبورج دورٌ مهمٌ في أحداثها. وسنحاول أن نحدد ما انطلق منه الثائرون وكيف أداروا الأحداث وكيف تلقوا الهزيمة.
سبق وذكرنا أن عرابي، وهو الفلاح البسيط الذي دمجته الظروف الموضوعية في المدرسة الحربية ليجد نفسه لاحقًا من ذوي الثروات الضخمة، قد وصل إلى مفترق طرق قبيل اندلاع حركته، فإما تراجعٌ امتيازاته ومن معه من ضباط مصريين وإما تمردٌ يضعه والعرابيين على رأس المجتمع، وهكذا كان تحرُّك العرابيين نخبويًا انطلاقًا. أما إذا انتقلنا إلى ألمانيا 1918، نجد أن الثورة اندلعت في برلين من خلال إضراب عام لتنتهي الملكية وتُعلن الجمهورية. ذلك بالنسبة لانطلاق الحراك الثوري والذي كان وثيق الصلة بسياق الأحداث التالية.
يجدر الإشارة أيضا إلى نقطة أخرى في السياق النضالي لثوار الفترتين. وهو المشهد الأدبي لمحاكمة (محمود عبد الظاهر) كضابط مصري شارك في الثورة العرابية، والذي دفعته الرغبة في النجاة بأي وسيلة إلى الشهادة ضد مبادئ ثورته ونعتها بالعصيان والانقلاب حتى لم يبقَ له بعد شهادته ضد قضيته إلا مرارة الهزيمة وتأنيب ضمير بشكل فردي يحاول دون جدوى الهروب منه، وعلى الجانب الآخر نشير إلى مشهد مقابل وهو خطاب روزا لوكسمبورج أثناء محاكمتها بتهمة تحريض العمال على التمرد ومعاداتها للحرب قبل شهور من اندلاع ثورة 1918، إذ تقول: “إن المدّعي العام قال – وأنا أذكر كلماته جيدًا – أنه يُطالب باعتقالي فورًا لأنه من المفهوم أن المتهمة إذا تُركت فأنها ستهرب، أو بمعنى آخر كأنه يقول: لو أنني (يقصد المدعي العام نفسه) حُكم عليّ بالسجن فإنني سأحاول الهرب. وأنا يا سيدي أصدقك، فأنت ستهرب. أما الاشتراكي الديمقراطي فلن يفعل، بل سيبقى بنضاله وضحكاته على عقابكم، والآن اعتقلوني”.
انتهى كلام روزا لوكمسوبرج ليبادر للذهن سؤال مهم، ما الذي دفع محمود عبد الظاهر للتنصل من ثورته بينما دفع لوكسمبورج لتأكيد تهمة النضال وعدم الاكتراث بالاعتقال؟ وفي رأيي لا شيء سوى ما انطلق منه المتقابلان، فإن نخبوية الأول وترجيحه للتحرك كفرد وسط مجموعة مميزة هو ما رجّح عنده النجاة وبالتالي الإنكار من أجل النجاة، بينما إيمان الأخيرة بالجماهير والنضال وسطهم هو ما دفعها لتأكيد تحريضها للجماهير وبذر أفكارها خلف القضبان ومقاومة نظام يحاكمها، وحقا هو الواجب الأول للثوري المؤمن بالجماهير أن يمرر أفكاره الثورية التي ترسم النصر حتى خلف القضبان وحتى لو لم يكتمل الرسم ليراه عيانًا.
يتبقى إذن مشهد أخير وهو تقابل بين تناول الهزيمة بين الشخصيتين السابق ذكرهما، محمود عبد الظاهر وروزا لوكسمبورج، فإذ يلعن الأول جماهير الشعب المصري ويصفها بأحط الأوصاف لأنها رفضت ابتاع عرابي وزمرته في ثورة قرروها بأنفسهم للجماهير وانطلقوا فيها من امتيازاتهم بالأساس، نعرض كلمات لوكسمبورج الأخيرة والتي كتبتها قبيل أيام من اغتيالها لتقول:” “نعم، أخفقت القيادة. لكن القيادة يمكن ويجب أن تُخلق ثانية بيد الجماهير ومن الجماهير. فالجماهير هي العامل الحاسم، وهي الصخرة التي عليها يُبنَى النصر النهائي للثورة. قولون في الجرائد إن (النظام يحكم في برلين!) أيها الخاضعون الأغبياء! إن نظامكم مبني على الرمال وستنهض الثورة بنفسها ثانية وبقوة وستنادي فوق رعبكم منشدة: كنت وأكون وسأكون”.
وبالطبع فإن التقابل بين المشهدين شديد الوضوح وهو النتيجة المنطقية لما انطلق منه النخبوي مقابل الثوري الاشتراكي، ويكفي أن نشير إلى أن خطاب لعن محمود عبد الظاهر للجماهير النتنة التي ترفض الحرية وتستمرئ العبودية هو جزء من خطاب حقيقي لعبد الله النديم وليس من خيال الأديب، وهذا يمنح المقارنة مزيدًا من الحيوية.
ماذا إذن عن يناير 2011؟ ماذا عنَّا؟
يقول الثوري الروسي ليون تروتسكي: “إن الاتحاد الخلَّاق بين الواعي وغير الواعي هو ما يُسمَّى “إلهامًا”، والثورة هي الانتفاض الملهم للتاريخ”. وهنا نوضح أن غير الواعي هو نضالات الناس كجزءٍ من حياتهم اليومية، مثل إضراب عامل أو موظف للحصول على حق ضائع دون الالتفات أن امتداد هذا النشاط هو صراع في المجتمع ككل في عمليةٍ تاريخيةٍ قد لا تهم العامل أو الموظف، وأما الواعي فهو النضال الجمعي المنظم لطبقة عاملة واعية بطبيعة الصراع لتقويض النظام بأكمله.
وهنا تحديدًا تكمن أحد أهم معضلات ثورة يناير، ومن هذا المدخل يمكن تفسير جزءًا مما أصاب المشاركون في يناير من إحباط وعذابات معنوية إثر هزيمة الثورة.
إن الثامن والعشرين من يناير 2011 يعتبر بمثابة نقطة تماس مع هذا “الاتحاد الخلَّاق” كما أسماه تروتسكي، لكنها في الحقيقة نقطة تماس محرَّفة لو جاز التعبير، إذ افتقدت لنضال منظم واعٍ بطبيعة المجتمع وطبقاته ومصالح كل طبقة.
وما أحس به ثوار الأمس – بعض محبطي اليوم – هو ذلك الإلهام الذي انتشوا به دون إدراك لسر هذا الانتشاء، وهذا وإن كان لا يبخس من نبل أولئك شيئًا إلا أنه ينبغي التأكيد على أن الأمنيات النبيلة والبطولات الفردية لا تحقق نصرًا لثورة.
بالتالي، وبعد ست سنوات من 2011، تبدَّدت تمامًا حالة الانتشاء لتتولَّد مكانها تلك المعرفة المؤلمة بما فات وبما يجري، خصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك إصرار قطاع غالب من الجماهير، يغذيه خطاب النظام كمحرك رئيس ومنتج للأفكار، على التمسك بالوعي القديم السائد. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو ضعف محاولات القوى الثورية على بلورة هذه المعرفة المتولدة بالتجربة وتفعيلها من خلال ممارسات ثورية جادة لتنظيم الصفوف في مواجهة النظام.
لعل هذا هو ما زاد الاغتراب اغترابًا لدى ثوار 2011، ومنهم من نال منهم الإحباط في 2013 وما تلاها. نعم هم الأنبل، لكن الثورة عملية نبيلة ومعقدة أيضًا لا تنجح سوى بالتنظيم للوصول للاتحاد بين الواعي وغير الواعي. هذا هو حقًا “الإلهام” عند تروتسكي، وسواه الأمنيات لا جذر راسخٍ لها.
إن حدة التباين الطبقي في المجتمع المصري قد بلغت درجةً تجعل من سرد مظاهرها ونتائجها أقرب للعبث منها للتحليل الموضوعي، وأن تقول أن في مصر بعدًا طبقيًا لاستنشاق الهواء، فهذا ليس من طرافة القول بل هي الحقيقة بعينها.
كما أن هزيمة ثورتنا تعلِّمنا درسًا لعواقب تجاهل هذا التباين الطبقي الحاد، وهذا التجاهل هو أحد مشاهد يناير وما تلاها. أين الهاتفون “إيد واحدة” لنسألهم عن أي يد كانوا يتحدثون، أهي اليد التي قتلت أم تلك التي سرقت أم نفسها اليد التي وقّعت اتفاقيات الخيانة؟
لنبدأ إذن من نفض أخطاء يناير 2011، ولننطلق من هذا التقابل الطبقي بين مصالح الجماهير والطبقة الحاكمة. لنبدأ من هذه النقطة وضد هذه الطبقة.