الموسيقى للجمهور:
ضد حظر المهرجانات وفرض القيود على الفنون أيًّا كانت

في خطوةٍ مدفوعةٍ بالوصاية الأخلاقية، ولا تختلف عن سياسات القمع والحظر التي اعتاد عليها النظام ومؤيدوه ومُمَثِّلوه في المؤسسات والنقابات، أصدر الفنان هاني شاكر، نقيب الموسيقيين، منذ أيامٍ قليلة، قرارًا بمنع تعامل المنشآت السياحية والبواخر والملاهي الليلية والكافيهات نهائيًا مع مطربي المهرجانات.
جاء في نصِّ القرار أيضًا أن من يخالفه “ستقوم النقابة باتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضده وضد المنشأة التي سمحت لهم بالغناء”.
لا تعرف السلطة الحاكمة وأربابها سوى إجراءات الحظر والعقاب على أيٍّ مِمَّن يحيد عن معايير “الذوق العام” الذي تُحدِّدها هي وتريد أن تفرضها علينا جميعًا. والقرار ليس الأول من نوعه لحظر نوعٍ من الفنون أو الآداب، بل يفتح الباب أمام سجلٍ إجرامي للنظام ومُمَثِّليه للقمع والحظر. فقد رأينا قبلًا الزوبعة التي أثارها “أمير الغناء” نفسه أيضًا ضد موسيقى الميتال بمنع إقامة حفلة لفرقة شهيرة في فبراير 2016. والوقائع من هذا النوع شديدة التنوُّع، وتصل إلى حد الحبس والتغريم، كما في حالة الروائي أحمد ناجي، الذي قضى عامًا في السجن على خلفية اتهامه بـ”خدش الحياء” في روايته “استخدام الحياة”، قبل أن يُلغَى الحكم عليه بالحبس عامين.
منذ أعوامٍ عديدة يحاول نظام السيسي فرض حدودٍ سياسية خانقة بأساليب الاختطاف والاعتقال والحبس والقتل، فيما تحاول أذرعه في مجالات الفنون والآداب أيضًا فرض نمطٍ أخلاقي على ما نسمعه ونشاهده ونقرأه.
جاء في نصِّ القرار أيضًا أن موسيقى المهرجانات هي “نوعٌ من أنواع موسيقى وإيقاعات الزار وكلمات موحية ترسِّخ لعاداتٍ وإيحاءات غير أخلاقية في كثير منه”.
أُثيرَت مسألة “الإيحاءات غير الأخلاقية” المُشار إليها في القرار هذا الشهر بعدما غنَّى المطرب الشعبي حسن شاكوش عبارة “واشرب خمور وحشيش” في احتفالية عيد الحب المُقامة في استاد القاهرة. تكشف هذه النظرة معنى الأخلاق وتناقضاتها في المجتمع السائد، حيث ادَّعاء الحق في التدخُّل في السلوكيات والحريات الشخصية على اختلافاتها وفي الوقت نفسه غض البصر عن الإيذاء والاضطهاد والجرائم الاجتماعية العامة.
الأخلاق ليست صنمًا جامدًا، بل تتغيَّر وفق تغيُّرات الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتناقضات هذه الأخلاق أيضًا تتنوَّع من عصرٍ لآخر؛ من التدخُّل في فرض حدودٍ على الملبس والمظهر، إلى السلوك وتعبيرات اللغة، أو الحريات الجنسية، أو جميعهم سويًا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يعجُّ التراث السينمائي والغنائي المصري بأعمالٍ تُرسِّخ لقمع حريات المرأة والتطبيع مع التحرُّش والاستهزاء العنصري بأهل النوبة وغير ذلك، وهناك بالفعل تسامح “أخلاقي” عام مع كلِّ ذلك. باختصار؛ أخلاق السلطة في المجتمع السائد هي إحدى وسائل الحفاظ على الوضع الراهن بكلِّ ما فيه من مظاهر اضطهاد وقمع. هذه هي أخلاقهم: إتاحة التسلُّط على الحريات والشأن الشخصي وحظر المساس بالشأن الاجتماعي العام.
أما أخلاقنا، فلابد، على العكس تمامًا، ألا تكون سوى تلك التي تتصدى للاضطهاد وترفض القمع وتطلِق العنان لكافة الحريات الشخصية وحرية التعبير، بما فيها التعبير الفني بالطبع، ولا تتغاضى عن جرائم مَن هم في قمة المجتمع بحقِّ مَن هم في أسفله. لعلَّ إذن أحد أكثر أعمال الفنان هاني شاكر “انحطاطًا أخلاقيًا” هو ذلك الفيديو الذي ظهر فيه مع جوقةٍ من لاعقي البيادة بعنوان “معاك يا سيسي” في سبتمبر الماضي (وهو بالطبع عملٌ يخالف “الذوق العام” -إذا ما استخدمنا تعبيراتهم- الساخط على السيسي).
يضيف قرار نقيب الموسيقيين أن “مؤدي المهرجان أصبح هو الأب الشرعي لهذا الانحدار الفني والأخلاقي”.
يبدو أن النقيب يخلط الأنساب هنا. الفنون على اختلافها وليدة المجتمع ومرآةٌ لمجرياته وتغيُّراته. كلمات الأغاني الشعبية مثلًا هي انعكاسٌ لما تعيشة الغالبية العظمى من الناس؛ فهي تتحدَّث أحيانًا عن الفقر والفروق الاجتماعية، وقيمة الإنسان التي تُحدَّد بالمال. تعكس اغترابًا عميقًا في غالبها، فنجد بعضها مثلًا، في ظلِّ غياب فرص الحلول الجماعية، يعبِّر عن رغبةٍ فردية في الترقي الطبقي من هاوية الفقر وأن “يلعب الزهر”، أو في بعض الحالات عن رغبةٍ فردية أيضًا في تحقيق الغلبة وإبراز الفتوة في معارك وشجارات من النوع الذي ينقلب فيه الفقراء ضد بعضهم.
الزعم أيضًا بأن تلك الأغاني تتضمَّن تحريضًا على العنف هو زعمٌ ساذج ومنفصل عن واقع الحياة الذي يعجُّ بالعنف بالأساس. ما ينبغي حقًّا أن يُحظَر ويُقضَى عليه هو النظام الذي ولَّدَ الفقر والظلم في المقام الأول، والذي فَتَحَ دوائر من العنف تبتلعنا جميعًا، والآن يريد أن يفرض وصاية أخلاقية على تعبير البعض (مغنيون ومستمعون) عن الواقع الذي أغرقهم فيه.
على جانب آخر، تنتشر أيضًا منذ فترةٍ طويلة على شبكات التواصل الاجتماعي موجاتٌ من الانتقادات لموسيقى المهرجانات، ليس من منطلقات فنية، بل من منطلقات طبقية تحتقر مطربي المهرجانات وتصفهم بـ”السرسجية” و”اللمامة”، إشارةً إلى الوسط الفقير الذي صعدوا منه، وكأن التعبير الفني حكرٌ على أبناء الطبقات العليا والمتوسطة!
المهرجانات ليست فنًّا تقدُّميًا، بل هي فقط انعكاسٌ لأوضاع معيشية في زمنٍ من الفقر والعنف والصخب. انعكاسٌ صَعَدَ من أسفل وقادر على تدوير نفسه. وهو أيضًا فنٌ لا تخلو بعض أغانيه من نظرةٍ دونية للمرأة، هي انعكاسٌ لما هو سائد في المجتمع أيضًا. لكن مواجهة ذلك لا يمكن أن تكون عبر إجراءاتٍ استثنائية هي في الحقيقة تتوحَّش علينا جميعًا في كافة جوانب حياتنا. والحديث هنا ليس دفاعًا عن المهرجانات في حدِّ ذاتها (فهي أولًا وأخيرًا لابد أن تخضع -فقط- لتذوُّق الجمهور)، بل الدفاع عن إطلاق حرية أيٍّ مَن يكون في التعبير عن نفسه بالغناء والموسيقى، والوقوف ضد فرض الوصاية الأخلاقية والفنية، وضد تقييد حرية الجمهور في الاستماع لما يحلو له والاستمتاع به إن شاء.